خبرة التألّه بحسب الأب يوحنا رومانيدس
أعدّها الأب أنطوان ملكي
على الرغم من أهمية التمييز بين حقيقة المخلوق وغير المخلوق في اللاهوت الآبائي، فإن لاهوت العصور الوسطى السكولاستيكي في الغرب خلط بين هاتين الفئتين وفئتَي حقيقة المتغير وغير المتغيّر. في اللاهوت السكولاستيكي، الذي كان فعلياً مزيجاً من الأرسطوطالية والأفلاطونية، صارت مجموعتا التعابير متقاطعة.
يحكي أرسطو عن محرّك غير متأثّر بالحركة ويدّعي أنّ هناك حوالي التسعة والأربعين من الكيانات في حالة من الفعليّة الخالصة. ومع أنها لا تتحرّك، إلا إنها تسبب الحركة في الكيانات الأخرى، كمثل المغناطيس الذي يحرك الأشياء الأخرى بالجذب. وجود الاستنجاز (entelechy)، التحقيق الذاتي للطبيعة المميزة للأشياء، هو ما يحرّك الحركة إلى التمام. من خلال الاستنجاز، تحقق بعض الأشياء التي في حالة ما حالتها الفعلية أو الفعّالة. مثلاً، بذرة شجرة هي شجرة إمكانية شجرة. عندما تسقط على الأرض وتجد الشروط الملائمة للنمو، تبرعم وتصير شجرة فعليّة. عندما تكون احتمال شجرة، لا تكون مكتملة بعد، لأن استنجازها المتأصّل لم يكمل بعد مسار نموه. بالنسبة لبذرة، بلوغ الكمال هو في الصيرورة شجرة.
أما بالنسبة لأرسطو، فهناك محرّكات ثابتة لا تملك هذه الإمكانية الذاتية، بل هي في حالة من الفعليّة المحضة أو هي فعّالة بالطبيعة. فهو يتمسّك بأنّها دائمة الوجود وهي تحرّك الأشياء عن طريق الجذب. كل ما يخضع لهذا التحوّل من الحالة الممكنة إلى الحالة الفعّالة يتحرّك نحو كماله، والقوة الجاذبة التي تقوده نحو هذا الكمال تنشأ في المحرّك الثابت. هذا تعليم أرسطو في كلمات قليلة.
هنا نلتقي بالأفكار نفسها حول هذا الموضوع في الأفلاطونية الجديدة التي نلتقيها عند أرسطو. أفلاطون، من جهة أخرى، لم يتطرق إلى هذا الموضوع، على حد علمنا. ولكن بين آباء الكنيسة، نجد القديس ديونيسيوس الأريوباغي متَهَماً بالأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، مع أنه يخبرنا بشكل واضح أن الله ليس محركاً ثابتاً فقط، بل هو محرَّك أيضاً. بتعبير آخر، الله لا يحرّك الأشياء وحسب، بل هو نفسه يتحرّك ايضاً، حيث ان فيه جانب قابل للألم والتحوّل. بشكل طبيعي، كتابة القديس ديونيسيوس لهذا الكلام تناقض أرسطو والأفلاطونيين الجدد. وهذا إثبات لا يمكن ضحده بأن القديس ديونيسيوس الأريوباغي لم يكن بأي شكل من الأشكال من عصبة الأفلاطونيين الجدد، مع أنه استعمل لغتهم.
الإيحاء بأن الله ليس محركاً ثابتاً، بل هو محرَّك أيضاً، هو هرطقة لدى الأفلاطونيين الجدد والأرسطوطاليين. إنها فكرة لا تصمد في امتحان المنطق وبالتالي تشير إلى أن الآباء لم يمارسوا الفلسفة. عندما يقول الاباء أن الله هو محرّك ثابت ومحرَّك أيضاً، يظهرون لنا عدم إمكانية تطبيق أي من الفئات البشرية على الله. إذا حاولنا تطبيقها، فسوف نقع في تناقضات منطقية عند كل منعطف. مع هذا، هذه الحقيقة عن الله، ليست مستمَدة من الفلسفة بل من خبرة التألّه. بالخبرة، يعرف الآباء أن مفاهيمنا عن الله تفقد قيمتها عندما نحدّق مباشرة بالله نفسه ونلمح تلك الحقيقة، التي لا تختلف عن الله بذاته.
وعليه، تُستَعمَل مفاهيمنا عن الله كوسيلة لمساعدة شخص ما ليرى الله. عندما نلمح هذا الشخص الله، يزول الإيمان والرجاء، والمحبة وحدها تبقى. هذه هي كلمات القديس بولس التي لا لبس فيها. عندما تلمح الله الذي هو المحبة، يوضَع جانباً الإيمان بالله وكل المفاهيم المرتبطة بالإيمان والرجاء، وكل المفاهيم المرتبطة بالرجاء. تُستَبعَد المفاهيم لأن معاينة المحبوب بذاته تحل مكانها. خلال خبرة التألّه أو التمجيد، هذه المحبة هي معاينة الله. فمن ثمّ يتمجّد الشخص. فهو يعاين المسيح في المجد ويشترك في مجد المسيح. إنه يختبر الاشتراك في الله.
يتّصل الناس عادةً بشخص ما على أساس الانطباع الذي كوّنوه عنه. ولكن عندما يحدّق الإنسان مباشرة بالمسيح خلاف خبرة التألّه، حيث يكشف المسيح ذاته في طبيعته الإلهية البشرية الممجّدة، يعجز الإنسان عن الاحتفاظ في فكره بأي مفهوم بشري أو أي رأي سابق كان قد كوّنه عن المسيح، إذ لا شيء في الخليقة إطلاقاً، مادياً كان أو غير مادي، باستثناء جسد المسيح البشري، يشبه الحقيقة غير المخلوقة ومجد المسيح الممجّد اللذين يعاينهما في تلك اللحظة. يقبل الإنسان المسيح لمجرد رؤيته له. لا يستطيع الإنسان أن يصفه. لا يستطيع أن يتحدّث بموضوعية عنه لأن العبارات البشرية تعجز عن وصف حقيقة المسيح غير المخلوقة أو طبيعته الإلهية. وسبب هذا أنّه لا يوجد اي تشابه بين المخلوق وغير المخلوق.
عند هذه النقطة، علينا أن نشدد أنّ في التقليد المسيحي، خبرة التألّه ليست مرتبطة قطعاً بأي شكل من أشكال الوجد (ecstasy). التألّه ليس نشوة، ليس أمراً يختبره العقل البشري وحده. خلال خبرة التألّه، يشترك الإنسان بكليّته في تلك الخبرة، حتى الجسد يشترك بكل حواسه في تسلسل عمل عادي. عندما يعاين الشخص المسيح في المجد، يكون في كامل انتباهه، فهو لا يرى شيئاً ما في فكره، بل بجسده أيضاً.
في كتاب أيوب، تقرأ إشارة إلى أن جسد أيوب رأى الله (26:19 و5:42). بتعبير آخر، شارك جسد ايوب في معاينة مجد الله. هذا هو التقليد اليهودي في أفضل ما فيه.
خلال خبرة التمجيد أو التألّه، لا يفقد جسد الإنسان الاتصال مع ما يحيط به. لكن هذا يفترض أن هذا الإنسان اعتاد رؤية مجد الله إذ قد سبق أن كانت له خبرات مشابهة. يكون الإنسان مشوّشاً فقد في البداية وقد يعمى لفترة ما بسبب التألّق المفرِط للنور غير المخلوق، لكنه لا يفقد قدراته العقلية. عقله يعمل بشكل طبيعي، بإمكانه أن يفكّر تماماً كأي شخص آخر، لكن إدراكات حواسه قد تضعف لأنه غير معتاد بعد على النور غير المخلوق. قد يعمى مؤقتاً كما عمي الرسول بولس غندما رأى مجد المسيح الممجّد على طريق دمشق. عندما نقول أن الرسول بولس عمي لا نعني أن عينيه تضررتا، بل أنه فقد بصره مؤقتاً بسبب اللمعان الغامر لنور مجد المسيح. عندما تحررت حواس الرسول، عاد ليرى بشكل طبيعي. استعادة نظره ليس معجزة جرت بل الأمر ببساطة هو أنّه لم يعد يرى لفترة ما لأن عينيه كانتا مغمورتَين. عندما يصير النور غير المخلوق منظوراً يكون أكثر لمعاناً وشدة من نور الشمس، مع أنّه بطبيعته مختلف عن نور الشمس. إنّه نور التجلّي الحقيقي. بالحقيقة، هذا النور ليس حتّى النور كما نفهمه ونألفه. لمَ لا؟ لأنّ النور غير المخلوق يسمو على النور.
عندما تأتي معاينة النور إلى نهايتها، فالإنسان الذي في حالة التمجيد يستمر في علاقاته الطبيعية مع الآخرين في حياته خلال كل الفترة التي يبقى فيها متأثراً بطاقة التألّه. هذا نراه في القديسين بشكل واضح. مع أن القديس هو في حالة فوق الطبيعة أثناء خبرة التألّه، فهو يستمر في الاختلاط بالمحيطين به كما في السابق. الفرق الوحيد هو أنه لا يأكل ولا ينام ولا يرتاح خىل تلك الفترة لأن هذه الحالة هي فوق الطبيعة وحياته تتغذى بنعمة الروح القدس فقط. إذا دامت هذه الحالة لأربعين يوماً وأربعين ليلة، كما حدث لموسى على جبل سيناء، لا ينام الشخص في تلك الحالة ولا يتعب ولا يأكل ولا يشرب لكل تلك الأيام والليالي. بتعبير آخر، إنه يكون حراً من أهواء الجسد غير المعابة أو أهواء الجسد الطبيعية وتُعَلَّق هذه الظواهر التي تتم بسبب عمل الجهاز الهضمي ومتطلبات النوم. فيصير الإنسان ملاكاً أرضياً. ولكن بمعزل عن هذا الفرق، فهو يتصرّف كأي شخص آخر: يسير ويحادث ويتفاعل اجتماعياً ويعلّم وغيره، فيما هو في هذه الحالة.
التقليد الشعبي من قرى آسيا الصغرى، خاصة في أيام الاحتلال التركي، يروي قصصاً عن كاهن إحدى القرى الذي كان في هذه الحالة خلال الليتورجيا الإلهية، مع هذا هو استمر في القراءة والترتيل والإعلان وختم الصلاة. كما أنه أيضاً واضح في سيرة القديس سيرافيم ساروفسكي وخاصةً محادثته مع موتوفيلوف. كيف نفسّر ذلك؟ مع أن الصلاة النوسية، المستمرة في القلب، تنقطع خلال اختبار التألّه، هذا لا يعني أن العبادة العقلية ينبغي أن تتوقف. يمكن للعقل أو للفكر أن يستمر في الصلاة من النصوص، خاصةً أنه يقوم بذلك لتعليم الاخرين. بالطبع، الكاهن الذي يختبر التألّه خلال القداس افلهي ليس بحاجة إلى نصوص الصلاة لمنفعته الشخصية، بل هو يقوم بذلك لمنفعة الآخرين المشاركين في القداس والذين بحاجة لأن يسمعوه. فهو يتابع القداس إلى النهاية.
بعض لاهوتيي هذه الأيام الأكاديميين ينظرون إلى هذه القصص من أسفل أنوفهم ويهزؤون بها. إنهم لا يدركون أن التقليد الشعبي المتعلّق بهذه المواضيع هو في مدى خبرة الاستنارة والتمجيد التي يدعمها مجمل التقليد الابائي الذي يقدم لنا التفسيرات اللاهوتية لهذه الظاهر. إذاً، واضح أننا لا نستطيع أن نشبّه هذه الظاهر بنشوات الأفلاطونيين الجدد، أو حتّى بانتشاءات المدرسة الأفلاطونية الوسطى، إذا أخذنا كتابات القديس يوستينوس الفيلسوف الشهيد كمفتاح لتفسير تعليم هذه المدرسة. أشير إلى المدرسة الأفلاطونية الوسطى لأن بعض مؤرّخي الفلسفة يدّعون أن الأفلاطونية لم تكن ديناً بل صارت ديناً في شكل الأفلاطونية الحديثة ابتداءً من أفلوطين وتلاميذه.
لكن في الجزء الأول من حوار الشهيد يوستينوس مع تريفو، يصف القديس كيف هو شخصياً صار تابعاً للفلسفة الأفلاطونية، كيف وجد فيلسوفاً أفلاطونياً اتّخذ مسؤولية تعليمه وكيف كان يتوقّع أن يرى الله في أي لحظة. هذا يعني أن يوستينوس الشهيد الذي عاش فترة مهمة من الزمن قبل ظهور الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، قضى وقته ممارساً الرياضة الروحية أو التمارين الروحية. لقد آمن أن بهذه الطريقة قد يلاقي الوجد في أي لحظة ويرى الله. هذا ايضاً يعني أن معلّمه لم يكن محض فيلسوف، بل بالأحرى نوع من الأب الروحي، معلم أو زعيم طائفة دينية (guru) كما نسميه اليوم، الذي قاده إلى الخبرات الدينية، التي هي بالنسبة لنا خبرات شيطانية. يناقش اللاهوتيون الهدوئيون هذه الأمور بشكل مطوّل. مثلاً، ندد القديس غريغوريوس بالاماس خبرات الأفلاطونيين الوجدانية على أنها شيطانية. اليوم، لأن هذه اللغة لا تصيب بعض الأشخاص بشكل جيد، لأنهم عبارة “شيطاني” لا تروق لهم، فهم يستبدلون هذه الكلمة بمصطلحات معاصرة مأخوذة من علم النفس أو من التخاطر النفسين ويسمّون هذه الخبرات هلوسات أو ظواهر تخاطرية. بالحقيقة، إن الذين يبحثون عن النشوات يعانون فعلياً من هذه الهلوسات. مع ذلك، فإن آباء الكنيسة يرون بشكل واضح أن كل هذه الظواهر شيطانية.