موقع التوبة في حياة الإنسان الخادم في الكنيسة
الأب افرام كرياكوس
الموضوع دقيق، يعرض العلاقة بين التوبة والخدمة. هذا شيء دقيق وصعب لأنه مجهودٌ شخصيٌ وجماعيٌ في آنٍ معاً: ينطلق من دافع شخصيّ داخليّ ويذهب إلى رسالة نحو الجماعة والعالم. بالنسبة للموضوع والعنوان المطروح أنطلق من تحديد للتوبة للقدّيس يوحنا الدمشقي الذي جاء في كتابه المعروف عن الإيمان الأرثوذكسي: “التوبة هي العودة من ما هو ضدّ الطبيعة إلى ما هو بحسب الطبيعة من الشيطان إلى الله، عبر الوجع والجهاد أو التقشف والنسك”.
نقول باختصار كما نعرف من تاريخ الكنيسة إن التوبة هي العودة إلى الله. وهنا أورد بعض النقاط التي تساعدنا على تحديد ما هي العودة إلى طبيعة الإنسان الأصلية، سيرة العودة، وثانياً في عمل الشيطان ضدّ المسيح anti Christ وتخطّي العقبات التي يضعها الشيطان لنصل إلى الله. وهي تتطلب هذه المعاناة: هذا الألم الداخلي، شيئاً من الجهاد والتدريب النسكي.
ما يناسب موضوعَنا اليوم هو خبرة بولس الرسول عند اهتدائه على طريق دمسق (أعمال الرسل26: 15-18): “فقلتُ – بولس الذي كان شاول – من أنتَ يا سيّدُ؟ فقال أنا يسوع الذي أنت تضطهده – ونعرف أن اضطهاد المسيح يتمّ عندما يخطىء الإنسان – ولكن قمْ وقفْ على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادماً وشاهداً لما رأيتَ وما سأظهره لك به، منقذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أُرسلك إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلماتٍ إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفرانَ الخطايا ونصيباً مع القدّيسين”.
من يحلّل هذا المقطع يرى فيه خلاصةَ اللاهوت الأرثوذكسي. سأحاول أن أعرض بعض نقاط هذه المسيرة التي تبدأ في داخل الإنسان وتنطلق إلى العالم. هي مسيرةُ الخلاص، لذلك يعتمدها الآباء، هي عملُهم، برنامجُهم طيلة الحياة، من الولادة حتى القبر (باعتبار أن بعد الموت لا مجال للتوبة).
إذا اعتبرنا أننا كنا في حالة الخطيئة أي التي هي ضد الحالة الأصلية نكون، حسب عبارة القدّيسين وأعمال الرسل، مستعبَدين للشيطان. هذا ما يقوله القديس بولس في رسالة رو5: 12 “لأنه كما بإنسانٍ واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع”.
القضية هي أننا كنا ولم نزل، إذا ما ابتعدنا عن الله، في هذا الإستعباد وفي تعبير عصري: نحن مستعبدون لـ “غريزة البقاء” Instinct de conservation، هذه الغريزة المركّزة على الذات الأنانية المفتّشة عن اللذة. وهذا ما حرّرنا منه الله بالمحبة على الصليب.
لذلك يقول القديس يوحنا الدمشقي نحن بحاجة إلى الألم وكما يقول القديس اسحق السرياني: “الذي يعترف بخطيئته (ويبكي ويتألم عليها) هو كمن عَبَر من الموت إلى الحياة”.
هناك إحساس بالموت لا بدّ منه في طبيعة الإنسان الضعيف ومن ينقذنا من هذا الشيطان ويحرّرنا منه سوى المسيح وحده، بالتصاقنا به وبكلامه. إيماننا هو وحده الذي يستطيع أن ينقذنا من إبليس، وبدون ذلك لا نستطيع التخلّص منه. إذا كنا مستعبدين لهذه الدنيا، وهذا شيء طبيعي حسب البعض، لا نستطيع أن ننطلق إلى المسيح.
1 – نحن نتوجع عندما نتأمل هذه الطبيعة الضعيفة التي نحملها، والأحداث كلّها تُظهر بوضوح هذا الإنسان الذي يتعذب ويتصارع ويتمخّض ولكن نحن المؤمنين نتوجع بصورة خاصة لأننا نحب الله، نحبّ أن نصعد هذا السلّم، أن لا نبقى على الدرجة التي نحن فيها. محبتّنا تدفعنا إلى أن ننسلخ عن أنفسنا عن أنانيتنا.
“إن كان أحدٌ يأتي إليّ ولا يُبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لوقا14: 26). إذ عندها لا تكون تخدم الله بل نفسك. محبتنا لله، عشقنا له، يدفعنا إلى أن نتخلّى عن أنفسنا.
2 – نحن أيضاً نتألم لأننا فقدنا النعمةَ الإلهية. نعمل من أنفسنا، من تفكيرنا وليس من نعمة الله. الإنسان متروك إلى قواه البشرية فقط، لم يعد مسنوداً من النعمة الإلهية. هذا عندما نعي طبيعتنا الضعيفة نعود نتوق إلى التمتع بهذه النعمة وهذا لا يحصل إلاّ إذا تخطينا أنفسنا.
يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس “الذي لا يرى الله لا يستطيع أن يتخطى نفسه، رؤية المجد الإلهي لا بدّ منها لكي يتخطى الإنسان أهواءه وشهواته”. لا نستطيع الخروج من هذا الجسد إلاّ إذا عشقنا الربّ. الذي يعشق شخصاً آخر يتخلى عن كل شيء.
لكل هذه الأسباب التي ذكرتها، ولهذه الحاجة للعودة إلى الله إلى المجد الذي فقدناه، لا بدّ من اعتراف.
الاعتراف
ضعفنا في الكنيسة أننا لا نعترف. يبقى قلبُنا مغلقاً. لماذا الاعتراف؟ الاعتراف هو الإقرار بالخطيئة. هنا نعود إلى قول القدّيس نيقوديموس الآثوسي الذي يتكلم عن سر الاعتراف والتوبة: “إننا بحاجة لمعالجة هذه النفس المريضة، أولاً لأن الأفكار السيئة، إن لم تُكشف تصبح أفعالاً، وإن كُشفت ضعف فعلها”.
ويقول أيضاً: “التوبة والاعتراف يجعلانك تستعيد حريتك ويُطلقاك لخدمة المجتمع، لأنك أصبحت حراً بالمسيح وتتصالح مع الجماعة”. ويشهد بولس: “إن تألّم واحد تألمت الجماعة” (1كور12: 26).
يقول القديس باسيليوس: “الذي يمرض في نفسه لا بدّ أن يستشير طبيباً لكي يساعده على الشدّة”. وفي رسالة يعقوب: “اعترفوا بعضكم لبعض وصلّوا بعضكم لبعض لكي تشفوا” (يعقوب5: 16).
من هذا المنظار يجب أن تعالج الكنيسة نفوسَ الناس وتعزّيهم وتشفيهم وإلاّ تركتهم للأطباء النفسانيين والسحرة والشيوخ والمشعوذين. هل تتخلّى الكنيسة عن رسالتها: “الكنيسة هي مستشفى بكل معنى الكلمة”. أسّسها الرب والرسل وخلفاؤهم لتشفي نفوسَ الناس وتقودهم إلى الخلاص.
يقول القديس نيقوديموس: “التوبة والاعتراف مدرسة لشفاء الإنسان من الداخل”.
بالنسبة لهذه المدرسة، لهذا العمل، يقول إن هناك دوراً لي أنا المعترف، ثم دوراً للكاهن ثم دوراً لله. في هذه العملية الشفائية، دوري أنا هو أن أحاول أن أفتح قلبي، أن أكشف عن نفسي حتى لا يسيطر الداء عليّ وهذا معروف في الإرشاد النفسي، ودور الكاهن الذي يمثّل الجماعة هو الإرشاد والمصالحة مع الله والجماعة والمساعدة في إعادة الحريّة للإنسان. أمّا دور الله وهو الأهم والذي ننساه نحن المؤمنون، فمختلف عن المساعدة التي يقدّمها الأطباء وعلماء النفس، دور الله يكمن في عمل النعمة الإلهية فينا، هذه النعمة التي فقدناها بسبب خطيئتنا. نجد أنفسنا أمام الكاهن الذي أعطاه الله هذا السلطان وهذه النعمة، من خلاله نستعيد النعمة الإلهية التي وحدها تشفي. هذا هو إيماننا.
يقول الذهبي الفم: “كل شيء في الإنسان يتمّ باسم الآب والابن والروح القدس”.
إذا أردتُ أن أركّز على جدّية هذا السعي الذي يتطلب فهماً وإيماناً ومعرفةً بأننا بحاجة إلى أن نفحص أنفسنا ونعالج أنفسنا ونلتصق بالله وعيش مع الله، أن لا نخاف من كلّ ظروف الحياة القاسية، أن نسعى للتضحية للخدمة، أن نمتثل بالملائكة. للملائكة وظيفتان: تسبيح الله على الدوام والثانية، التي هي نتيجة كونهم يعيشون مغتذين من وجه الله، من كلمته، عند ذلك “يُرسلون إلى الخدمة من أجل الذين يرثون الخلاص” (عب1: 14).
علينا أن نتمثل بالملائكة، أن نلتصق بالله عن طريق الصلاة والتسبيح، أن نعود إليه بالتوبة والاعتراف، حتى نستحق حمل رسالة المسيح إلى هذا العالم، أوّلاً إلى الكنيسة التي عند ذلك تتجدد والى العالم كلّه بعد ذلك. آمين.
حديث في المؤتمر الثامن عشر لمركز طرابلس في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، بشمزين 29/9/2006