الزمن في المفهوم الأرثوذكسي
الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس
عن كتاب “الحياة بعد الموت” ترجمة د. نيفين سعد
إن اهتمامنا بالزمن ليس من وجهة نظر علمية ولكن من وجهة نظر كنسية وبصورة رئيسية يكون مرتبطاً بإعلان الله. بالإضافة إلى ذلك، فإن اهتمامنا بالأمور الأخيرة يكون باستمرار مرتبطاً بالمجيء الثاني للمسيح والسعادة الآتية.
إننا نستطيع أن نقول أنه في الزمن السابق لتجسد المسيح كان الزمن خطِّياً (يسير في خط مستقيم) حيث كان اليهود منتظرين مجيء المسيا ليخلصهم من العبودية والخطية. ولكن في الزمن الكنسي، منذ أن أتى المسيح وصار إنساناً وأعطى كل إنسان إمكانية الحياة في ملكوت الله فإن ما يُختبر ليس خطياً بصورة رئيسية ولكنه زمن الصليب. فلم نعد نُقاد بعد لاكتشاف ملكوت الله في المستقبل، ولكن المسيح وملكوته يتحركان نحونا، أي أنهما يأتيان ويلاقياننا في كل لحظة من الزمان. فلو وضعنا في اعتبارنا أن المسيح بتجسده أعاد آدم إلى الفردوس ثانية وبالطبع رفعه لتلك الرتبة التي كان سيصل إليها لو لم يكن قد أخطأ، فإننا نستطيع التحقق أن الأمور الماضية والأخيرة تُختبر في الحاضر، وبالتالي نحن نعيش فيما يسمى الزمن الليتورجي. فالزمن محاط بالأبدية.
إن أخذ المسيح لشكل الإنسان جلب الأمور الأخيرة إلى التاريخ والزمن، وترى هذه الحقيقة في العديد من نصوص الكتاب المقدس. أود أن أذكر النصوص الأكثر رئيسية.
يكتب بولس الرسول مشيراً للطريقة التي أعلن فيها الله عن نفسه قائلاً: “الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة. كلمنا في الأيام الأخيرة في ابنه”(عب1: 1-2). تظهر هذه الكلمات أن الأيام الأخيرة هي أيام ظهور المسيح. لقد بدأ ملكوت الله بدخول المسيح إلى العالم.
يكتب بطرس الرسول مشيراً للفداء الحادث بواسطة تجسد المسيح قائلاً: “عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح. معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم”(1بط1 :18-20). لقد كان مجيء المسيح لخلاص الجنس البشري مقدّراً قبل تأسيس العالم، ولكنه تحقق أخيراً في الأزمنة الأخيرة. ودخل الرسل القديسون الذين وُجدوا مستحقين للإعلان العظيم في حياة الأزمنة الأخيرة.
لا تشير نهاية الدهور في الإنجيل إلى نهاية الزمان، بل لصيرورة المسيح إنساناً طالما أنه أعطانا إمكانية أن نعيش حياة الأمور الأخيرة. يكتب بولس الرسول عن تجارب اليهود في العهد القديم قائلاً: “فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور”(1كو11:10).
توجد أيضاً إشارة إلى الأمور الأخيرة في حديث المسيح مع مرثا أخت لعازر الذي ذكرناه من قبل. فقد أكد لها السيد المسيح أن أخوها سيقوم ثانية. فأجابت أنها كانت تعرف أنه سيقوم في اليوم الأخير، ثم قال لها المسيح: “أنا هو القيامة والحياة من آمن بي وإن مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد”(يو23:11)، وبعد ذلك بقليل أقام لعازر.
هذا الحديث والمعجزة التي تبعته معبّران، فهما يظهران أن المسيح هو القيامة والحياة، وبالتالي هو بمجيئه للعالم جلب أيضاً القيامة والحياة. ينبغي علينا أن ننظر لقيامة لعازر في هذا الإطار. لم يُقِم المسيح لعازر لمجرد مشاعر الحب، ولكنه أراد أن يوضح أن ذلك كان عربوناً لقيامة الناس وأنه هو ذاته القيامة وأنه بتجسده انتفى الموت وبالتالي أتى ملكوت الله إلى العالم بتجسده. وهكذا ليس ملكوت الله الحياة بعد الزمان ولكنه الاختبار الفعلي لله في هذه الحياة.
يوضع الزمان واختبار الأمور الأخيرة في التسابيح أيضاً في هذا الإطار. فنحن نسبح في تسبحة القيامة قائلين: “الكلمة المساوي للآب في الأزلية وعدم الابتداء، المولود من العذراء لخلاصنا، لأنّه سرّ بالجسد أم يعلو على الصليب ويحتمل الموت وينهض الموتى بقيامته المجيدة”.
هكذا، في العهد الجديد، ملكوت الله ليس توقعاً أخروياً فقط ولكنه حقيقة أتت. يقول القديس غريغوريوس بالاماس محللاً هذه الحقيقة أنه يـبدو في الكتاب المقدس أن اختبار ملكوت الله يحدث بثلاثة طرق.
الطريقة الأولى هي أن ملكوت الله قادم، وبالتالي تكون التوبة مطلوبة كما أعلن ذلك يوحنا السابق للمسيح. والطريقة الثانية هي أن ملكوت الله قد أتى وخصوصاً “في داخلكم”(لو21:17). والطريقة الثالثة هي أن ملكوت الله سوف يأتي بكل ملئه ومجده. فالمسيح نفسه، ورؤية الله غير المخلوقة هي ملكوت الله.
يقول القديس غريغوريوس بالاماس: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله. وليس فقط أنه اقترب ولكنه أيضاً سيكون موجوداً بوضوح عن قريب. وطالما أنه كنـتيجة لذلك قد اقترب ملكوت الله، وهو داخلنا، وسوف يكون موجوداً عن قريب فلنجعل أنفسنا مستحقين له من خلال أعمال التوبة”.
من أجل هذين السببين، أي بسبب أن ملكوت الله قد أتى وبسبب أنه سيأتي في نهاية الزمان دون أن نعرف متى سيحدث ذلك، فبالتالي تكون كل لحظة من الزمن “الساعة الأخيرة”(1يو18:2) بحسب قول يوحنا الإنجيلي.
كنـتيجة لذلك لا يكون الزمن في المفهوم الأرثوذكسي خطِّياً، بمعنى أننا لا ننـتظر ملكوت الله في المستقبل، ولا هو دائري بالمعنى الأفلاطوني أي أنه بلا بداية ولا نهاية، ولكننا نستطيع أن نقول أنه على شكل صليب. بمعنى أنه على الرغم من أننا مساقون للحياة بعد الموت وللبركات الأبدية، إلا أننا نستطيع أن نعيش هذه البركات المستقبلية في هذا الزمان أيضاً. بالتالي لا يعمل الزمن في المفهوم الأرثوذكسي كثيراً مثل الماضي والحاضر والمستقبل ولكنه يعمل كزمن مكثف خلاصي وليتورجي.
هذا يعني قبل كل شيء أن “الأمور الأخيرة” في التقليد الأرثوذكسي ليست هي الحياة بعد الموت وبعد المجيء الثاني للمسيح، ولا هي حياة الدهر الآتي، ولكنها شركة واتحاد مع المسيح، والتي تحدث بالفعل في هذه الحياة. علم الأخرويات المفصول عن الماضي والحاضر ليس أرثوذكسياً ولكنه تشويه لتعليم الكنيسة عن الأمور الأخيرة.