روحانيّة أرثوذكسيّة
الأرشمندريت أفرام كرياكوس
لماذا هذا الموضوع اليوم وما هي أهميّتهُ؟ ماذا تنفعنا الروحانيّة وبشكلٍ خاص الأرثوذكسيّة؟
نشهد اليوم لرواج الروحانيّات والروحانيين بعد سطوة المادة والحاجات الماديّة على كلِّ شيءٍ، أولاً على الإنسان. العلماء الروحانيون، الأطباء الروحانيّون، صادقين كانوا أم كاذبين ومشعوذين يتكاثرون. أمّا نحن المسيحيّون فلنا روح قدس واحد “الربّ المحيي المنبثق من الآب… مسجودٌ له وممجّد” وروحانيتنا هي في التمييز بين ما هو لله وما هو لغيره.
ولماذا الأرثوذكسيّة؟ هل من فائدةٍ بعد في التمييز بين أرثوذكسيّ وغير أرثوذكسيّ؟ هل من فائدةٍ بعد “لكنيسةٍ أرثوذكسيّة” مميّزة عن “الكنيسة الكاثوليكيّة” مثلاً؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تنتظر الإيضاحات.
إذا ما فتحنا ملفّ الشيطان على شبكة الإنترنت نجد فيه على لائحة أهم أعداء الشيطان “جميع الكنائس الأرثوذكسيّة في العالم”. وإذا ما سألنا عن موجب أو مبرر لاشتراك الكنيسة الأرثوذكسيّة في مجلس الكنائس العالميّ نرى الجواب الغالب: “نريد أن نشهد للحقيقة في عالم اليوم”.
قال الربّ يسوع لبيلاطس: “لهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهدَ للحقِّ … فقال لبيلاطس ما هو الحقّ؟” (يوحنّا 37:18). لم يُجِبْ يسوع آنذاك لكنّه كان قد أجاب من قبل بقوله: “أنا الطريق والحقّ والحياة” (يوحنّا 7:14).
هل الكلام هذا يعني أنّ الأرثوذكسيّة اليوم لم تعد قريبة أكثر من غيرها إلى الحقّ أعني إلى المسيح؟ هذا ما نرجوه في كلّ حال.
لنرَ الآن ما هي الهرطقة؟ أصلاً هي الخلط بين أمور العالم (المخلوق) وأمور الله (غير المخلوق) وسبب هذا الخلط هو اسوداد القلب، ظلمته عن طريق الكبرياء والشهوات والاهتمامات الدنيويّة. لذلك قال أحدهم إنّ الهرطقة في النهاية هي نقصٌ في المحبّة (وكذلك كل شذوذ فكريّ أو عمليّ في الكنيسة وفي العالم).
يخلط المرء بين أمور العقل وأمور القلب. بالعقل يعرف الإنسان محيطه، يتدبّر أمور حياته الإجتماعيّة، يعرف العلوم المختلفة. هذه هي وظيفة الدماغ الذي خلقه الله بإعجاز ليفي بهذا الغرض. أمّا القلب فهو الجهاز الذي من خلاله نتّصل بالله ونعرفه. عندما يتوحّد العقل مع القلب يتوحّد الإنسان، تختفي الإزدواجيّة، عندما يذكر الإنسان الله باستمرار:
“أيّها الرب يسوع المسيح ارحمني”، “يا يسوع ارحمني، يا ربّ ارحم”، “يا يسوع يا ابن داوود ارحمني”. من هنا الإرتباط الوثيق بين العقيدة والحياة. هذه الصلاة، الصلاة المستمرّة أو ذكر اسم الربّ يسوع، يصحبها تقشّف في الحياة وفقر وبساطة عيشٍ كما وتقريع للأنا المستحوذة علينا عن طريق المحبّة “التي لا تطلب شيئاً لذاتها” (1 كورنثوس 13:5)، مقاومة للشهوة الرديئة. هذا السلوك في الحياة يخدم العقيدة الصحيحة.
نرى من هنا كمّ أنّ “روح المسيح” تفترق عن “روح العالم”. الأرثوذكسيّ متقشّف في حياته. راهب في فرش بيته في عمله في لباسه، عفيف في أحاسيسه وأفكاره. هذا لأنّه عاشقٌ للرب، محبّ للقريب، منفتح القلب والذهن لكلّ الأديان ولكلّ التيارات مع تمسّكه الشديد بعقيدته. هو منكرٌ لذاته. هنا ربَّ معترضٍ يُسرعُ ويسأل أليست هذه الفضائل متوفّرة عند كلّ مسيحيّ بل كل إنسانٍ صالح؟ نُجيب: في الأرثوذكسيّة تغلب هذه الروح. هي نزعة فوق كلّ نزعة.
عشق الله يغلب عشق الدنيا. لا يسمح الأرثوذكسيّ للمؤسسة الدنيويّة أو حتّى للشريعة والنظام أن يتغلّب عليه، أن يتسلّط، أن يتفرّد.
نزعة قويّة تستدر النعمة إلى القلب، تشعل ناراً في قلبه.
طبعاً في كلّ هذه العمليّة لا بدّ من مراقب، من مشورة. لا بد من شركة. لا بد من عيش في الكنيسة. فيها تتجسد هذه النزعة وفيها تثمر وتنعكس على الآخرين. محبّة الله تنسكب محبّة على القريب كما أنّ محبتنا للإخوة تعزز محبتنا لله.
الكنيسة شركة. هي مشورة لا تفرّد individualité، لا يكتمل الإنسان وحده. هذا من مشيئة الله الخالق وتدبيره. كما أنّ الكنيسة ليست عقلاً وبحثاً عقليّاً intellectualism . إذا طغت المؤسسة، إذا أصبحت الكنيسة مؤسسة أرضيّة فحسب أصبحنا فيها عالميين ودهريين sécularistes . هذا مرض المسيحيّة في عالمنا اليوم. من هنا أهميّة الرهبنة: أن نأبى الإلتصاق بهذه الأرض لأنّ المسيحيّ يتوق إلى الملكوت. الملكوت هو العيش مع الله أبدياً بلا عوائق.
هل يستطيع الإنسان أن يملك ويعيش كأنّه لا يملك شيئاً؟ لا بدّ من أن يترك شيئاً بل أشياء. لا بد من أن يزهد بالعالم. نحن غالباً منظّرون نتقن فنّ الكلام عن الله ونعيش في “فخفخة” لم نختبر بعد فنّ العيش مع الله.
لا نتمرّن على الترك (التخلّي). ننقاد إلى الإستهلاك بسهولة، نعلق بشباك الأمور الماديّة وأيضاً بتعجرفنا، بعدم المسّ بكرامتنا، بكبريائنا المبطن. نريد أن نترك، أعطنا يا ربّ أن نترك من أجلك. يأتي وقت لا مجال فيه حين علينا أن نترك كلّ شيءٍ رغماً عنّا. فلنترك اليوم بإرادتنا طالما لدينا الوقت.
نحن بحاجةٍ إلى دير، تلك الآية المعلّقة بين السماء والأرض، وبحاجةٍ أيضاً إلى رعيّة أرثوذكسيّة مع راعٍ أرثوذكسيّ حيث المحاولة جاهدة في جعل كلّ شيءٍ مشتركاً. أهذا بعد ممكن اليوم؟ الراعي طبعاً له أهميّته في الموضوع. له أن يكون حكيماً، أباً محبّاً باذلاً نفسه يتحلّى بالتمييز والخبرة (لقد قال لي أحد الشيوخ مؤخّراً إنّ على الكاهن ليوم أن يكون في سنّ الأربعين على الأقلّ ليواجه المشاكل العصريّة المستعصية). طبعاً يسنده الله بنعمته ومواهبه، أما الخوريّة فلها أن تتحلّى بطول الأناة وبساطة العيش. ولا بدّ للكاهن من أن يكون مرِناً متوازناً لا متطرّفاً.
الدير والرعيّة يتكاملان. ترى أين ينشأ اللاهوتيّ، أفي البيت العائليّ، في الدير، في الرعيّة أم في معهد لاهوتيّ؟ يقول أحد القديسين المعاصرين انه يأتي يوم وهو على الأبواب حين يكون الراهب في العالم (وكأنّه العالم أصبح ديراً صحراء) هذا هو تحدّي الأرثوذكسيّة. هل نجدها؟
عن Syndesmos News، السنة الثانية، العدد الأول، تذكار رفع الصليب المقدس 1998