النسّاك الثّلاثة
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع
أبحر أحد المطارنة من أبرشيّته إلى دير روسيّ قديم. وكان يبحر، على ذات المركب، جماعة من الحجّاج في طريقهم إلى زيارة الدير ليتبرّكوا من رفات القدّيسين هناك. صعد المطران إلى ظهر المركب، فشاهد حلقة من الرجال تستمع إلى صيّاد يشير بإصبعه ناحية البحر الواسع وهو يقصّ حديثًا ما. اقترب منهم، فرفع الصيّاد قبّعته مع الحاضرين، وانحنوا للمطران احترامًا. فقال المطران: “أرجو ألاّ يضايقكم وجودي. لقد قدمت لأسمع ما يقول هذا الرجل الطيّب”. فأجاب أحدهم: “كان الصيّاد يروي لنا قصّة النسّاك”. فسأل المطران: “أيّ نسّاك؟”. فأجاب الصيّاد، وهو يدلّ بإصبعه: “إنّها الجزيرة التي يعيش عليها النسّاك. أتستطيع أن ترى تلك السحابة الصغيرة؟ إنّها تحتها تمامًا. وأمّا النسّاك، فهم رجال قدّيسون سمعت بأخبارهم منذ زمن طويل، ولكنّ الحظّ لم يسمح لي برؤيتهم قطّ، حتّى كانت السنة الماضية حين جنح المركب بي، في ظلمة الليل، ناحية تلك الجزيرة، دون أن أدري أين أنا. وعند الفجر، أبصرت كوخًا منصوبًا على الأرض ورجلاً يقف إلى جواري. وسرعان ما أسرع رجلان آخران، فساعدني ثلاثتهم على إصلاح مركبي المعطوب”. فسأل المطران:
– ألا تصفهم لي؟
– أحدهم شيخ قصير القامة مقوّس الظهر وقور ذو لحية بيضاء دائم التبسّم كأحد ملائكة السماء. أمّا الثاني، فيربو عنه طولاً، وهو شيخ أيضًا، ولكنّه رجل قويّ البنية مفتول العضل، وهو أيضًا، لطيف وبشوش. أمّا الثالث، فكان أعظمهم طولاً ذا لحية بيضاء تبلغ ركبتيه، أنيس الوجه ذا حاجبين كثيفين. لقد ظلّوا يقومون بعملهم في مركبي، صامتين. وقد سألتهم كم من الزمن مضى عليهم في تلك الجزيرة، فأجاب مسنّهم وقال لي: “ارأف بنا ” ثمّ ابتسم. وأمّا الجزيرة، فليس لها اسم معروف. فكثيرات من أمثالها مبعثرات في هذا اليمّ الواسع.
أرسل المطران في طلب القبطان، وقال له: “أحبّ كثيرًا أن أرى أولئك النسّاك. وسأعوّضك عن أتعابك، وعن الوقت الذي ستخسره. أرجوك أن تدركني بقارب صغير”. وهكذا شقّ المركب طريقه باتّجاه الجزيرة. وبعد قليل استطاع أحد البحّارة أن يشاهد النسّاك بواسطة منظار كان في يده، فناوله للمطران الذي أبصر ثلاثة رجال: أحدهم فارع الطول، ثمّ آخر أقصر منه، ثمّ قزم صغير مقوّص الظهر يقفون على الشاطئ، وقد تماسكوا بالأيدي. وعندما اقتربوا شاهدوا ثلاثة رجال، أحدهم طويل يلفّ على وسطه قطعة من القماش، وآخر أقصر منه في معطف قرويّ مهلهل، والثالث عجوز قوّست السنون ظهره، يرتدي ثوبًا كهنوتيًّا باليًا يقفون متماسكي الأيدي.
قفز المطران من المركب وانحنى النسّاك له، فباركهم قائلاً: “لقد سمعت إنّكم، يا رجال الله، تعيشون في هذا المكان لتخلّصوا أنفسكم، وإنّكم تصلّون للسيّد المسيح من أجل إخوانكم البشر، وأنا رغبت في رؤيتكم، فأخبروني ماذا تعملون لتخليص نفوسكم، وكيف تخدمون الله؟
فتنهّد الناسك الثاني، وتبسّم وقال: “إنّا لا ندري كيف يجب أن نخدم الله. غير أنّنا نخدم أنفسنا ونتعاضد في كلّ شيء”. فسألهم: “ولكن، كيف تصلّون إلى الله؟”. فأجاب الناسك: “إنّنا نصلّي هكذا: ثلاثة نحن، ثلاثة نحن، يا إلهي ارحمنا”. ولم يكد الشّيخ يقول هذا، حتّى رفعوا أبصارهم إلى السماء، وردّدوا: “ثلاثة نحن، ثلاثة نحن، يا إلهي ارحمنا”. فتبسّم المطران وقال: “من الواضح أنّكم سمعتم شيئًا عن الثالوث القدّوس. ولكنّكم لا تصلّون كما ينبغي. ليست هذه هي طريقة الصلاة، لذا سأعلّمكم الطريقة التي أمر بها الله البشر في الكتاب المقدّس، فاصغوا وأعيدوا القول ورائي: أبانا… فأعاد الشيخ الأوّل قائلاً: “أبانا…” وردّد الثاني: “أبانا…” وقال الثالث: “أبانا…” فتابع المطران: “الذي في السموات… فردّ الناسك الأوّل: ” الذي في السموات.” وظلّ المطران يعمل طوال ذلك اليوم، يردّد الكلمة عشرين، ثلاثين، بل مائة مرّة، والشيوخ الثلاثة يردّدونها وراءه. كانوا يخطئون، فيصحّح لهم خطأهم، ثمّ يجعلهم يعيدون ما قال مرّات متتالية.
ولم يبرح المطران ذلك المكان حتّى وثق من أنّهم حفظوا الصلاة الربّانيّة، حتّى صاروا يقولونها من تلقاء أنفسهم دون حاجة إلى مساعدته. وحينما استعدّ لمغادرة الجزيرة انحنى الثلاثة حتّى الأرض أمامه. فأنهضهم، وقبّل كلاًّ منهم، وطلب إليهم الصلاة كما علّمهم، ثمّ عاد إلى المركب.
لم تستولِ على المطران رغبة في النوم، بل بقي جالسًا، وحيدًا، في مؤخرة المركب، يفكّر في أولئك الرجال الطيّبين. وفجأة، أبصر شيئًا أبيض لامعاً فوق البحر. وثبّت المطران عينيه في ذلك اللمعان وفكّر في نفسه: “لا بدّ أنّه مركب يبحر خلفنا، ولكن كلا، لا يمكن أن يكون مركبًا، لأنّني لا أرى له شراعًا”. آه، إنّهم النسّاك الثلاثة يركضون على سطح الماء، يشعّون بالنور الأبيض، وهم يقتربون من المركب بسرعة، وكأنّهم لا يركضون على أقدامهم، ممسكين بأيدي بعضهم البعض. كانوا ينزلقون فوق الماء دون أن يحرّكوا أقدامهم، حتّى إذا بلغوا المركب، قبل أن يتمكّن من الوقوف، رفعوا رؤوسهم، وصاحوا ثلاثتهم في صوت واحد: “لقد نسينا الصلاة التي علّمتنا إيّاها، يا خادم الله. فهلا علّمتنا إيّاها ثانية؟
فرسم المطران إشارة الصليب، وانحنى فوق حافّة المركب وقال: “إنّ صلاتكم الخاصّة ستبلغ أذنيّ الله الآب، يا رجال الله، ولست أستطيع أن أعلّمكم شيئًا. صلّوا من أجلنا نحن الخطأة”.
وانحنى المطران أمام الشيوخ الثلاثة، فاستداروا، ثمّ مضوا عبر البحر إلى أن اختفوا عن النظر.