الكنيسة والألعاب الأولمبية
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
يعود المقال التالي إلى سنة 2002 حين كانت اليونان تستعد لاستقبال الألعاب الأولمبية في 2004. النظرة الواردة فيه ضرورية ولا تتأثّر بالزمن بل تتضمّن مقاربة ينبغي بالكنيسة تبنّيها في التعاطي مع كافة النشاطات الرياضية.
تشكّل الألعاب الأولمبية حدثاً عالمياً من الدرجة الأولى يستعد له وطننا بحرارة لأن العالم كلّه سوف يراقب اليونان مسقط رأس هذه الألعاب.
واجهت الكنيسة اليونانية مسألة إذا ما كان عليها أن تشارك في التحضيرات لهذا الحدث الرياضي الكبير أم لا. كان للكنيسة خياران: الأول هو عدم المشاركة كلياً، لأن الألعاب الأولمبية بشكلها الحالي انحرفت عن غايتها ورسالتها، إذ بدلاً من النشاطات الثقافية تحوّلت إلى مؤسسات تجارية مسرفة في الضخامة. النظرة الأخرى كانت بأن على الكنيسة أن تشارك وتستغلّ الفرصة لإعطائها معنى.
بعد المناقشة في اللجنة المجمعية، مال المجمع المقدس لكنيسة اليونان نحو النظرة الثانية، مخاطراً باتخاذ قرار قد يُعتَبَر يوطوبياً. في ما يلي، سوف أقدّم نظرتي الداعمة لقرار المجمع.
بالطبع، لست ساذجاً لأغض النظر عن وضع الأحداث الرياضية الحالي وعن حقيقة أن الألعاب الأولمبية انخرطت في المصالح الاقتصادية وتحويل الرياضة إلى تجارة. في أفضل أحوال الرياضات، لقد تسرّبت الإنسانوية إليها. في أسوأ الحالات، ترتبط الرياضات بعقلية المخدرات ذات النتائج المدمّرة لكل رياضي. حتّى التغيير في العبارات يبرهن على وجود المشكلة العظيمة: التحول من الأطر الرياضية إلى “ألعاب”، والأطر أعني بها النشاطات المرتبطة بكلمة “بطولة” (athlos في اليونانية)، أي الصراع لتحسين الذات.
مع هذا، أنا أرى أنّ كنيسة اليونان لا تستطيع الامتناع عن هذا الحدث العالمي، لأنه سوف يتمّ في اليونان، بغض النظر عن كل التحفظات على طريقة إقامة هذه الألعاب. وهذا الموقف يقوم على أسباب لاهوتية وأخرى غير لاهوتية.
1. اللاهوت الأرثوذكسي الذي هو صوت الكنيسة، ليس إيديولوجيا مجرّدة، ولا هو متشرّب أو مستوحى من الإيمان بالطبيعة الواحدة أو بالمانوية. هذا يعني أن اللاهوت الأرثوذكسي لا يتعاطى مع الأفكار بل مع الحياة وتحديداً مع الإنسان الذي يعيش في زمان ومكان محددين، ويسعى إلى خلاصه. إلى هذا، لا تتعامل الكنيسة مع وجه واحد من الحياة البشرية، اي النفس والروح، بل هي تهتمّ بالإنسان بكامله، وهو مركبٌ من نفس وجسد. لهذا، نحن الأرثوذكس لا تحركنا المثالية ولا المانوية (إهمال الجسد والطبيعة) ولا عبادة الأصنام (عبادة الجسد والطبيعة).
2. نشير في اللاهوت الأرثوذكسي إلى الأقمصة الجلدية التي ارتداها الإنسان بعد سقوطه وباركها الله. يمكن مناقشة أن الأقمصة الجلدية، التي بحسب تعليم آباء الكنيسة هي الفساد وقابلية الموت، موجودة في كل مكان في الطبيعة. الحياة برمّتها، على ما هي عليه اليوم، هي نتيجة ما بعد السقوط ومطلوب من الكنيسة تغييرها. الفن، الثقافة، الزواج، العلم وبشكل عام كل السلوك البشري موضوع في هذا الإطار. الرياضة أيضاً موضوعة في هذا الإطار. أيستطيع أيٌ كان تخيّل الرياضة، بشكلها اليوم، في حالة ما قبل السقوط؟
إذاً، مهمة الكنيسة ليست في إنكار حالة السقوط بل في تغييرها. الكنيسة، بلاهوتها وكل اسلوبها العلاجي، مع نسكها، تسعى إلى تحويل غير العقلاني إلى عقلاني، إلى تحديد هدف لمجمل وجود الإنسان، إنسان ما بعد السقوط، إلى إضفاء معنى على حياته…
كما أشرنا اعلاه، الألعاب الأولمبية الحديثة فقدت هدفها الأصلي، لأن الألعاب التي كانت تتم في اليونان القديمة ارتبطت بالتقديس: التقدمات والمسرح اللذان كانا يوضعان مع الألعاب في إطار تطهير الإنسان وبحثه عن الإله. اليوم، الألعاب الأولمبية انفصلت عن الدين والثقافة وارتبطت بإنسانوية عقيمة ومؤسسات تجارية. مع هذا، الكنيسة التي هي حركة وحياة، لديها القدرة لتحويل كل شيء وتبديله وإعادة الرياضة إلى غايتها الأصلية.
بالطبع، ليس سهلاً تغيير إطار وبنية تنظيم الألعاب الأولمبية. مع هذا، كما يظهِر تاريخ الكنيسة، قد تحقق أعظم التغييرات من خلال إعادة ولادة الإنسان، فيما تشارك في الوقت عينه بالعملية الاجتماعية. المولودون جديداً بالنعمة الإلهية ضمن الكنيسة يقضون على العبودية، يغيّرون المؤسسات، يحوّلون الأشكال الاجتماعية، يبدلون الحضارات التي يلتقون بها ويخلقون أخرى جديدة ذات معنى وهدف أكثر سمواً. بحسب الباحثين، فن الأيقونات البيزنطي نشأ من لوحات الفيوم والليتورجيا تشكّلت بحسب نموذج فن التمثيل المسرحي للمسرح القديم.
على المنوال نفسه، يمكننا تغيير الكثير من الأمور من خلال تجديد الرياضيين. حتّى ولو لم نكن قادرين على تغيير إطار الألعاب الأولمبية، نحن ملزمون بأن نقدم المساعدة بطرق كثيرة للرياضيين المشاركين وتقديم التوجيه بالشكل الصحيح للراغبين في الانخراط في الرياضة.
4. استضافة الألعاب الأولمبية في 2004 في أثينا تطرح تحديات عديدة على الكنيسة، ولا تستطيع الكنيسة غض النظر عنها أو إهمالها. عمل الكنيسة الرعائي لا حدود له، فالكنيسة تخاطب العالم كله لتحوّله، بالطبع من دون أن تتدنّس هي. سوف أشير إلى بعض التحديات:
أولاً، خلال اللعاب الأولمبية يوف يأتي أرثوذكس كثيرون من كل أنحاء العالم. على الكنيسة أن تلاقيهم بجو من المحبة وروح ضيافة.
ثانيا، إلى الأرثوذكس، الكثير من البشر سوف يأتون وهم مهتمّون بمعرفة تاريخ هذه البلاد. لذا على الكنيسة الأرثوذكسية أن تبرهن بأن هناك تقليد مستمر مع الزمن، لم يتوقّف منذ غزا الرومان اليونان عام 146 قبل الميلاد.
ثالثاً، قد تظهر بعض التقاليد الوثنية محاولة الادّعاء بأنها من سلالة الهلينيين وبأن المسيحية مرتبطة باليهودية وليس بالهلينية وبأن الكنيسة الأرثوذكسية تهتمّ فقط بتأمين الملكوت وليس بحياة الإنسان.
رابعاً، على الكنيسة أن تقدّم تعليمها عن الجسد والنسك والتمارين وتظهر ثروتها الحضارية من خلال نشرها للكتب والكرّاسات وغيرها.
إلى هذه، هناك العديد من التحديات التي لا مجال لنشرها في هذا المقال القصير. الحقيقة هي أن الكنيسة لا تستطيع أن تبقى رعائياً خاملة أمام تحدي التاريخ، بالرغم من مشاكل الألعاب الأولمبية المعروفة جداً.
5. إذا قرر المجمع المقدس ألاّ يتعاطى مع اللعاب الألومبية، فأنا متأكّد من أن لاهوتيين عديدين، خاصةً الذين المهتمّين الآن بأن تشترك الكنيسة في تنظيم الألعاب الأولمبية، سوف يتّهمون الكنيسة بالعقلية التُقوية والأصولية. هذا لأنهم سوف يعتبرون أنّ التعاطي مع الكنيسة على أنها لا تتعاطى إلا خلاص النفس وتفرِغ الحياة الأخرى من نشاطها وقدرتها التغييرية هو ضلال ومسبب للتضليل.
لم يكن ممكناً، في هذا المقال القصير، تقديم كل الأسباب التي تبرر اشتراك الكنيسة في تنظيم الألعاب الأولمبية في بلادنا. بالرغم من التحفظات حول أساليب البطولة اليوم، وطريقة تنظيم الألعاب الأولمبية، يستحق الأمر تشكيل لجنة مجمعية للألعاب الأولمبية حتّى ولو انحصر اهتمام الكنيسة بالتعاطي رعائياً مع قدوم آلاف الرياضيين والمسؤولين والجماهير والسياح، ما يطرح تحديات مختلفة إيجابية وسلبية.