ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟
الأرشمندريت توما (بيطار)
حديث أُلقي في كنيسة مار نقولا – الأشرفية
خلال الصوم الكبير
4 آذار 2004
مستهلّ الكلام
هل هناك، بعدُ، مَن يُبالون بالحياة الأبدية اليوم؟ هل ثمّة مَن يطرحون هذا السؤال بعد؟ وإذا ما طرحوه فهل يطرحونه لأنهم عطاش إلى جواب للحياة أم دافعهم المعرفة للمعرفة، من باب الفضول؟ هل هناك مَن هو مستعدّ لأن يتغيّر؟
النفوس متعبة مرهقة. تيّاران يجتاحان كيان الإنسان: أولاً، هذه المبالغة في الاعتماد على المعرفة العقلية الإدراكية أساساً وقياساً لكل معرفة، حتى للمعرفة الإيمانية. وثانياً، ذاك الإلهاب الذي تُعرَّض له أهواء الناس على كل صعيد. النفوس تُشحَن، باستمرار، بحجم هائل من المثيرات الحسّية والنفسية. سوق الأفكار مُغرَق بكل جديد وجذّاب مما لا ينفع وأكثره يؤذي. تحريك الرغائب، في هذا الإتجاه أو ذاك، واستعباد النفوس، باسم الحرّيات، لا سيما عبر وسائل الإعلام، بات تقنيّة متطوّرة. كيف يختارون؟ ماذا يختارون؟ كيف يفاضلون؟ على أية معايير يعتمدون؟ المقاييس تتغيّر كل يوم. وجدان الإنسان يتعرّض لزلزال. كلٌّ يُدفَع ليكون، في نهاية المطاف، مقياس نفسه. الإنسان في غربة تشتدّ. الكيان متخم بالسموم. الجهاز العصبي للإنسان يتحوّل مدينة مكتظّة بالخيالات والأشباح والأوهام والأفكار الهائمة. والسيل لا يتوقّف. أكثر الناس يعيش على المسكِّنات. سلّم أو سلالم القيم تتحطّم. النفوس في دوار. داخل الإنسان مبعثر مشتّت مخدَّر. القوّة الداخلية في النفس وهنة. الرؤية الداخلية معتمة أو مغيَّبة. الإنسان يقبل لنفسه، بصورة متزايدة، المثال الآلي الغرائزي. الذهن يُظلِم. إنسان اليوم يترنّح من سُكر الأهواء. استحال آلة تَستهلِك وتُستَهلَك. حال من اللاحس واللامبالاة تكاد أن تغمره. تقلّب النفوس بين المتع الشيطانية المهلكة والرغائب المختلقة المجوّفة يعرِّضها للتكلّس الروحي. من خَدَر الأهواء تكاد الرغبة في الحياة الحقّ أن تنطفئ. إنسان اليوم يموت ولا يكترث. أصبح كالكحولي الذي يعرف أنّه يجرع كأس الموت ولا يبالي.
رغم كل شيء، قلب الإنسان باقٍ سرّاً لا يَسبُر غوره سوى باريه، الله تعالى.
فعلى الرجاء أن يقع الكلام في آذان لا زالت ترغب في السماع للحياة، نسوق حديثنا في هذه الأمسية الصيامية المباركة مع الدعاء.
سؤال وجواب
هذا سؤال طرحه على يسوع إنسانٌ غني. جواب السيّد، كما ورد في إنجيل متى 19: 17، كان: “إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا”. وعاد الغني، ويبدو أنّه كان شاباً، فسأل: “أية الوصايا؟”، فأجاب يسوع: “لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك، وأحبب قريبك كنفسك”. الوصايا الخمس الأولى مأخوذة من الوصايا العشر. أما السادسة والأخيرة: “أحبب قريبك كنفسك” فمأخوذة من موضع آخر، من سفر اللاويين 19: 18. كل هذه الوصايا موضوعها واحد وهو العلاقة بين الناس، والأخيرة جُعِلَت في آخر الكلام كما لتختصر الوصايا الأخرى وسائر الوصايا التي لم يذكرها يسوع ولكنها تندرج في ذات الفئة. كل علاقة بالناس، في الحقيقة، أساسها هذه الوصيّة الجامعة: “أحبب قريبك كنفسك”.
الوصيّة العظمى
هذه الوصيّة ذاتها، “أحبب قريبك كنفسك”، ذُكرت أيضاً جواباً من الرب يسوع عن سؤال لأحد الناموسيّين. هذا سأل: “يا معلم أية وصيّة هي العظمى في الناموس” (متى 22: 36). فأجاب يسوع بوصيّتين كأنهما واحدة وتتفرّع إحداها من الأخرى. الأولى، التي وصفها الرب يسوع بـ “الوصيّة الأولى والعظمى”، هي “تحبّ الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك”. هذا بحسب إنجيل متى 22: 37. أما بحسب إنجيل لوقا ففيها تفصيل زائد: “تحبّ الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك” (10: 27). والوصيّة مستقاة، في الأساس، من سفر اللاويّين 6: 5. أما الوصيّة التي نحن في صدد الكلام عنها، أي “أحبب قريبك كنفسك”، فيصفها السيّد الربّ بأنها مثلُ الوصيّة الأولى ولكنه يصنِّفها ثانية (متى 39). ويختم كلامه بالقول: “بهاتين الوصيّتَين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء” (متى 40). إذاً كل وصايا الله، كما وردت في الشريعة الموسوية والأنبياء، تنبثق من هاتين الوصيّتين الأحديتين.
على هذا تكون الوصايا الخمس الأولى التي ذكرها الربّ يسوع في جوابه للشاب الغني، أي “لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك”، أقول تكون هذه الوصايا متعلّقة بالوصيّة التي تلتها أي “أحبب قريبك كنفسك”، فيما تتعلّق هذه الأخيرة بالوصيّة الأولى والعظمى، أي “أحبب الربّ إلهك من كل قلبك وكل نفسك ومن كل فكرك”. الأولى هي مصدر الثانية والثانية تنبع من الأولى. هذا معناه أن الثانية تتوقّف على الأولى. الثانية مستحيلة وغير قابلة للتحقيق من دون الأولى. لا يمكن أحداً أن يكون محبّاً لقريبه ما لم يكن محبّاً لله أولاً. فإذا انشغل بمحبّة الله أولاً فوق كل شيء، فسيحبب قريبه كنفسه بصورة تلقائية. الثانية، محبة القريب، والحال هذه، تعبّر عن الأولى، عن محبّة الله، وتشير إليها. وبقدر ما ترسخ الأولى تعمق الثانية. كيف نعرف أننا نحبّ أولاد الله؟ “إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه”. هذا كما يجيب يوحنا الحبيب في رسالته الأولى 5: 2. وكيف نعرف أننا نحبّ الله؟ إذا أحبّ بعضنا بعضاً. وبكلام يوحنا الحبيب: “أيها الأحبّاء لنحبّ بعضنا بعضاً لأن المحبّة هي من الله وكل مَن يحبّ… يعرف الله… لأن الله محبّة” (1 يو 4: 7 – 8).
لماذا عليّ أن أحبّ الله؟
ولعل سائلاً هنا يسأل مستغرباً: لِمَ لا يكون كافياً أن يحبّ المرء قريبه؟! لِمَ علينا أن نحبّ الله أولاً؟ لِمَ يستحيل على الإنسان أن يحبّ قريبه ما لم يحبّ الله أولاً؟
الجواب هو أن الإنسان لمّا انفكّ رباطُه بالله، في المعصية، لم يعد قادراً على أن يحبّ. فالله هو المحبّة ومَن يزوّدنا بالمحبّة ولا محبّة من دونه. فإذ انقطع الإنسان عن الله انقطع عنه تيّار المحبّة. صار عابداً لنفسه، طالباً ما لنفسه، لا يمتدّ صوب الآخرين إلا ابتغاء ما لنفسه في الآخرين. محبّته للآخرين صارت تتحكّم بها، بمقادير، محبّته لذاته. الآخرون صاروا إليه أدنى إلى الأدوات. لم تعد لديه القوّة على المحبّة الصافية. صارت محبّته عكرة. أضحت فردوساً مفقوداً. بالمعصية خرج آدم من فردوس محبّة الله. صارت المحبّة مفتقدة. لكن الشوق إليها بقي عميقاً في الذاكرة، مغروزاً في قلب الإنسان. في إيقونة طرد آدم وحوّاء من الفردوس يصوَّران وهما يُخرَجان وأعينهما على الفردوس دامعة. هكذا أضحى الإنسان يبكي المحبّة كل أيام حياته. يطلبها، يغنّيها فلا يجدها. ليس همّ شغل أغاني الناس أكثر مما شغلها الحبّ. كل يطلب أن يُحَبَّ وليس من يُحِبّ. أمواج الحبّ في نفوس العباد دائماً ما تتكسّر على صخور أنانيات الناس. كل يشتاق إليها وليس مَن يعطيها. لذا سادت الخيبة والإحباط. أضحت المحبّة أدنى إلى الوهم والخيال. عاش الإنسان في لعنة الطرد من الفردوس كل أيام حياته. جوهره قلب ولا يستطيع أن يحبّ بمعنى الكلمة. لذا أضحى، في عمق كيانه، لا أقول إنساناً فاقد الإنسانية بل إنساناً ناقص الإنسانية.
لا شيء يُعيد المحبّة للناس، محبّتهم لبعضهم البعض، إلاّ إذا تابوا إلى ربّهم. بعودة الإنسان إلى ربّه يعود تيّار المحبّة ليوصَل به، ليُشعّ في قلبه من جديد. إذ ذاك تنساب المحبّة انسياباً بين الناس. تدفق دفقاً لتجمع إلى واحد، لتوحّد الإنسان بقريبه. إذ ذاك كل يتنفّس محبّةً لأخيه كنفسه. بلى، الله هو الحبيب ونبع المحبّة معاً. لذا قيل “الله محبّة”. في هكذا إطار نفهم، هنا وهناك في الكتاب المقدّس، بعض ما قيل في شأن المحبّة كمثل القول “المحبّة هي من الله وكل مَن يحبّ فقد وُلد من الله ويعرف الله” (1 يو 4: 7). على هذا يدعونا الحبيب يوحنا لأن “يحبّ بعضنا بعضاً” (1 يو 4: 7). ودونكم قول آخر: “نحن نحبّه لأنه هو أحبّنا أولاً” (1 يو 4: 19). هذه المحبّة هي إيّاها التي طلبها الربّ يسوع في الصلاة الكهنوتيّة، في يوحنا 17، لتقيم فينا لما خاطب أباه السماوي هكذا: “أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك. أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني، وعرّفتهم اسمك وسأعرّفهم ليكون فيهم الحبّ الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم” (يو 17: 25 – 26). المحبّة التي يتعاطاها الآب والابن فيما بينهما هي ذاتها التي أعطانا إياها الربّ يسوع من عند الآب لتكون فينا وليكون الجميع، على حدّ قول السيّد، “واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني” (يو 17: 21).
غاية الوصيّة
هذه المحبّة بالذات، اقتناء هذه المحبّة بالذات هو القصد، هو المبتغى، هو الغاية. “وأما غاية الوصيّة فهي المحبّة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء” (1 تيمو 1: 5). غاية الوصيّة، غاية كل الوصايا هي المحبّة. كيف نعرف أننا قد عرفنا الله؟ كيف نعرف أننا نحبّ الله وأن محبّته مقيمة فينا؟ الجواب يطالعنا به يوحنا الحبيب في رسالته الأولى: “بهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه. مَن قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحقّ فيه. وأما مَن حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكمّلت محبّة الله. بهذا نعرف أننا فيه” (1 يو 2: 3 – 5).
معرفة الله، أن يعرف أحدنا الله معناه أن يحبّ الله، أن يكون الله فيه وهو في الله. هذه المعرفة، هذه المحبّة تتأتى، إذاً، من حفظ الوصيّة. “إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23). بحفظ الوصيّة نعرف الله وبحفظ الوصيّة ندخل الحياة الأبديّة كما قلنا في مطلع حديثنا. هذا لأن المحبّة هي فحوى الحياة الأبدية. “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحبّ الإخوة. مَن لا يحبّ أخاه يبقى في الموت” (1 يو 3: 14). وأيضاً “هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 17: 3).
الحياة الأبدية والموت الأبدي
الحياة الأبدية، إذاً، هي محبّة الله، هي حياة الله، هي أن تكون لنا شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1 يو 1: 3)، هي الله نفسه فينا. هذا ما يتحقّق في روح الحياة، في الروح القدس، إذ نقتني الروح القدس، إذ يقيم فينا الروح القدس إلى الأبد، إذ يستقرّ الآب والابن في الروح القدس فينا. “ألستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله…” (1 كور 6: 19). ليست العبرة في الحياة الأبدية أن تكون لنا حياة بلا حدود في الزمن. الزمن، في ذاته، لا وجود له ولا قيمة. نحن نقيم في الزمن، في كل حال، لأننا خِلقة الله. العبرة هي في الفحوى. الكفرة، الذين لا يقبلون الله، هؤلاء أيضاً سوف يكونون، في الزمن، وإلى الأبد، لكنهم لن يذوقوا الحياة الأبدية. هم أيضاً سيقومون في القيامة العامة، لكنهم لن يعرفوا قيامة الحياة، “فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع مَن في القبور صوته [صوت ابن الإنسان] فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيّـآت إلى قيامة الدينونة” (يو 5: 28 – 29). هؤلاء يُطرحون في الظلمة الخارجية (مت 25: 30)، يمضون “إلى عذاب أبدي” (مت 25: 46)، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان (مت 25: 30). أما الأبرار فيمضون “إلى حياة أبدية” (مت 25: 46). من هنا أن الحياة الأبدية لن تكون امتداداً للحياة على الأرض بل شيئاً أخر بالكلية. المؤمنون بيسوع يذوقونها منذ الآن. أما الذين لا يؤمنون فهؤلاء يذوقون الموت الأبدي منذ الآن. لذا قال الربّ يسوع لليهود: “إنْ لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم” (يو 8: 24). يسوع، هنا، لم يكن يعني موت الجسد بل ما يسمّيه سفر الرؤيا الموت الثاني. “وأما الجبناء وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسَحَرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتّقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني” (رؤ 21: 8). الحياة الأبدية هي ما يقابل هذا الموت الثاني، لذا قال يسوع: “إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد” (يو 8: 51). وقال أيضاً: “كل مَن كان حيّاً وآمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد” (يو 11: 26).
الموت اختراع بشري
على هذا، إذا كانت الحياة الأبدية هي محبّة الله، حياة الله، اللهُ نفسه فينا فالموت الثاني هو أن يخلو الإنسان من روح الله، من محبّته، من حياته، من نوره. هذا أفظع، بما لا يقاس، مما يمكن أن يتصوّره إنسان. إذا كنا هنا، على الأرض، لنذوق جحيماً على هذا القدر من الضيق والألم والعذاب إذ لا نشاء أن نستجيب لدعوة الله، للصلاح الذي زرعه في وجدان كل واحد منا حيث للجميع فرصة أن يسلكوا في الإيمان، حتى في أقسى الظروف، فماذا تراه يكون حالنا متى فاتت الفرصة وبتنا في الظلمة المطبقة، في الظلمة التي دعاها الربّ يسوع “البرّانية” حيث يخلو الإنسان من حضور الربّ؟! ألم نسمع ما قاله يسوع عن العين الشريرة، عن القلب الأثيم: “إن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون” (مت 6: 23)؟ كلا، أبداً، ليست هذه الظلمة من الله ولم يخلقها الله، بل الناس اخترعوها إذ شاؤوا أن ينصرفوا عن الله إلى بلد بعيد على غرار الإبن الشاطر. في سفر الجامعة هذا القول: “انظر. هذا وجدتُ فقط أن الله صنع الإنسان مستقيماً. أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا 7: 29). الموت الثاني هو الثمرة الأخيرة لهذه الاختراعات. تصوّروا ما يمكن أن تكون عليه هذه الحالة في المدى الأخير. إنسان خُلق مفطوراً على عِشرة الله لأن نَفَس الله فيه. أليس هذا ما يعنيه قول سفر التكوين، الإصحاح 2، الآيتان 7 و 28، ان الربّ الإله جَبَل آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفْساً حيّة؟ لا يقدر الإنسان البتّة أن يتحرّر من نَفَس الله فيه لأنه هكذا كُوِّن. تصوّروا، إذاً، أن هذا الذي كوِّن من الله وإليه يرتدّ عنه لا بفعل الطبيعة بل بعمل الإرادة ليلقي بنفسه في العدم، لأنه خارج الله ليس هناك سوى العدم الذي أخرجه اللهُ منه في البدء. الموت هو بالضبط خبرة العدم في الوجود. يشتهون، من وطأة العذاب في الكيان، لو لم يوجدوا فلا يُعطى لهم. لعل تعبيراً عن هذه الحال هو ما ورد في سفر الرؤيا “في تلك الأيام سيطلب الناس الموت ولا يجدونه ويرغبون أن يموتوا فيهرب الموت منهم” (رؤ 9: 6). الله لم يصنع الجحيم ولا يعذّب أحداً. فقط “ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً لأن مَن يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً ومَن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية” (غلا 6: 7 – 8).
الحياة الأبدية بيسوع وحده
ها قد جُعلت الحياة الأبدية، إذاً، في متناول الجميع لأن السيّد جاء ليخلّص ما قد هلك، والله يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون (1 تيم 2: 4). “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا… ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1 يو 1: 3 – 4).
هناك واحد فقط أُعطي لنا به أن نخلص: يسوع! “ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص” (أع 4: 12). هو حياتنا (كو 3: 4). والكلام الذي يكلّمنا به “هو روح وحياة” (يو 6: 63). هو إياه الحياة نفسها والقيامة (يو 11: 25). إذ يعطينا الحياة يعطينا نفسه. “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 35). هو نفَس أنوفنا الجديد. “نَفَس أنوفنا مسيح الربّ” (مرا 4: 30). هو المعلم، من فمه نأخذ الكلمة، من كل نبرة، من كل حركة نستقي الوصيّة. هو الموصي وهو الوصيّة. غاية الوصيّة هي يسوع مقيماً فينا. يسوع فينا هو ذاتنا الجديدة، ذات كل منا، هو “أنانا” الأصيلة، “أنا” كل منا خاليةً من الأنانية. لذا مستحقٌ هو أن نحببه أكثر مما نحبب أنفسنا، أو هذا ما ينبغي علينا أن نفعله. فإن أحببناه، على هذا النحو، وجد كل منا نَفْسَه الحقّانية فيه.
المحبّة والصليب
على أن هذا يبقى كلاماً في الهواء طالما لم يقترن بصليب المسيح. مستحيل على أي كان أن يتبع المعلّم إلاّ بالصليب على عاتقه. “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني” (لو 9: 23). لاحظوا: “كل يوم”! والصليب صليب بالمعنى الكامل للكلمة. ليس هناك نصف صليب أو ربع صليب. كذلك لا ينكر الإنسان نفسه نصف إنكار أو ربع إنكار بل إنكاراً كاملاً. لا خلطة لما هو للناس، لما هو لأنانيات الناس بما هو ليسوع، لغيرية يسوع الكاملة، لانعطاف يسوع الكامل على الناس. لذا قيل: “مَن يحبّ نفسه يُهلكها ومَن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية” (يو 12: 25). الصليب، صليب المسيح، هو علامة المحبّة والسبيل إليها وتالياً إلى الحياة الأبدية. المحبّة في العالم الساقط، في عالم الخطيئة، لم تعد ممكنة إلاّ إذا كان طالبها مستعداً لأن يضحّي بما لنفسه وبنفسه أيضاً من أجل مَن يحبّ. ليس الصليب ناموساً إلهياً ولا يُسَرّ الله بآلام الناس. الصليب ضرورة علاجية أوجبتها خطيئة البشريّة. بالأحرى خطيئة الناس فرضت الصليب على السيّد الرب فاتّخذه لأنه أحبّ خليقته إلى المنتهى ولأن الصليب، والحال هذه، كان خياره الوحيد. لا يقوى الإنسان على مآسيه ومآسي البشريّة إلاّ إذا اتخذ صليب المسيح صليباً لنفسه. ليس بإمكانك أن تستأصل الشرّ من العالم بأن تعنُف على الناس وإلاّ كان عليك أن تبيد البشريّة وتنتحر لأن بذار الخطيئة والشرّ منثور في قلوبنا أجمعين. بالأحرى، إذا أردت أن تستأصل الخطيئة والشرّ فلا مناص لك من أن تحبب الخاطئ، على غرار يسوع، ولكن من دون خطيئته، ان تمتنع عن مقاومة الشرّ بالشرّ وأن تقابل الشرّ بالخير وأن تصل أخيراً إلى حدّ محبّة أعدائك. وهذا صليب هائل. لكنه، مع ذلك، صليب المحبّة ولا محبّة من دونه. هذا ما اتّخذه يسوع وغلب لأنه “إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيّن لأجل الفجّار… وبيّن الله محبّته لنا لأنه ونحن بعض خطأة مات المسيح لأجلنا” (رو 5: 6، 8). “وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام” (2 كور 5: 15).
صورة الإنسان الجديد
إذاً المحبّة صليب ولا محبّة من دون صليب. مسيحنا سمّرته محبّته لنا قبل أن يسمِّره اليهود على الصليب. لذا كانت حياته في الجسد، على الأرض، كلُّها صليباً:
w أفرغ نفسه من مجد الألوهة ومن قوّته كإله وسار بين الناس كعبد، كخادم، كنكرة، بحسب مقاييس الناس، كمن لا هيئة له ولا جمال. وضع نفسه حتى إلى التواضع الأقصى لما أطاع حتى الموت، موت الصليب (في 2: 8). “لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني” (يو 5: 30). خبزه الجوهري كان أن يعمل مشيئة أبيه الذي أرسله ويتمّم عمله (يو 4: 34).
w لم يفعل شيئاً من نفسه بل تكلّم بما تعلّمه من أبيه (يو 8: 28).
w لم يكن لنفسه في شيء. كان مبذولاً، كلُّه مبذولاً. بذل نفسه لأجلنا (تي 2: 14). بذل نفسه لأجل خطايانا (غلا 1: 4).
w لم يكن له مكان يسند إليه رأسه. لا شيء في الدنيا أخذ بمجامع قلبه. لم يرتح لشيء في الدنيا، لا لمقام ولا لقنية. كان فقيراً كيانياً إلى أبيه أي إنه كان، كإنسان، يعتمد على أبيه بالكامل ولا يعتمد على نفسه في شيء. لذلك كان لا يملك من حطام الدنيا شيئاً على الإطلاق.
w كان تجسيداً كاملاً للصورة التي رسمها الرسول بولس عن المحبّة في رسالته الأولى إلى كورنثوس 13. تأنّى على الناس ورفِق بهم. لم يعرف الحسد لأنه لم يطلب شيئاً لنفسه. لا تفاخر ولا انتفخ لأنه حسِب نفسه عبداً ليهوه. الآب السماوي وحده كان افتخاره. لم يأتِ قبيحة واحدة ولا طلب ما لنفسه. لا غضب باطلاً ولا ظنّ بأحد سوءاً. غضبه كان فقط على المرائين في التقى ومَن يتعاطون الإلهيات بنجاسة قلوبهم. بالحقّ وحده كان فرحُه فيما كان في حزن عميق على مآثم الناس. احتمل كل شيء، غلاظة قلوب الناس وقسوتهم. صبر على كل شيء. كان كلّه لأبيه وأسلم نفسه إليه بالكامل.
w لأنه كان يعمل في كل حين ما يرضي أباه السماوي كان يعرف أن الآب معه ولا يتركه وحده (يو 8: 29) وأنه، في كل حين، يسمع له (يو 11: 42).
w ولأنه استودع الآب روحه بالكامل أقامه الآب من بين الأموات (مثلاً كو 2: 12).
هذه هي صورة آدم الجديد، صورة الإنسان الجديد، الصورة التي أُعطي لنا أن نكون إيّاها ولا صورة إلاّها. بكلام بطرس الرسول في رسالته الأولى: “لقد أبقى لكم المسيحُ قدوةً لتقتفوا أثره” (1 بط 2: 21). “مَن قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً” (1 يو 2: 6).
لا شك أننا نضلّ أنفسنا إذا حسبنا أن يسوع قَدِر أن يسلك كما سلك لأنه الله وابن الله. كلاّ البتّة لأنه لما شاء أن يفرغ نفسه وأخذ صورة عبد سلك كإنسان، كواحد منا، وكابد ما كابد كإنسان. حتى ما أتاه من أعمال إلهية كإقامة الموتى وشفاء المرضى وتكثير الخبز والسمك كان منّة من أبيه لأنه كان يفعل في كل حين ما يرضيه (يو 8: 29). لذا كان يسوع يصلّي: على انفراد، في الجبل، في البراري، في البستان، وفي حضور الآخرين أيضاً. نزول الروح القدس عليه لمّا اعتمد من يوحنا حصل فيما كان يصلّي (لو 3: 21). تجلّيه في طور ثابور أمام تلاميذه كان “فيما هو يصلّي” (لو 9: 29). إقامته لعازر جاءت بعد صلاة (يو 11: 41 – 42). طبعاً ما منّ به عليه الآب السماوي كان منه أيضاً لأنه هو والآب واحد، ولأن كل ما للآب هو له أيضاً ولأنه الإله الكلمة. هو الشاهد لنفسه والآب الذي أرسله يشهد له أيضاً (يو 8: 18). ومع ذلك قال إنه إن كان يشهد لنفسه فشهادته ليست حقاً والذي يشهد له هو آخر (يو 5: 31 – 32). إنسانية يسوع في مسراه بين الناس، إفراغ ذاته من الألوهة واتخاذه صورة عبد صائراً في شبه الناس، هذا كان شأنه بتواتر بيننا في الجسد ولم يغادره يسوع لحظة واحدة. ألوهته كانت لها إطلالاتها، هنا وثمّة، لأنه ابن الله أيضاً. هذا ما يطالعنا في مثل حديثه عن الآب السماوي، في كلامه عن نفسه، في تعليمه وفي الطريقة التي تكلّم بها. لكن التجلّي الأكبر للاهوته كان في تواضعه الأقصى على الصليب. إذاً لاهوته استبان في إنسانيته لا من دونها ولا على حسابها، بل، بالضبط، في إفراغه لذاته ومن خلاله. فابن الإنسان تعاطى أعظم المحبّة لأنه قيل “ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع نفسه لأجل أحبّائه” (يو 15: 13). ولأن الله محبّة فإن اللاهوت تكشّف، بامتياز، على الصليب. هذا لم يكن ليبين لعيون الناس، في كل حال، بغير نعمة من فوق. حدود الناس كانت الدهش والتساؤل. حتى التلاميذ تساءلوا: “مَن هو هذا فإن الريح أيضاً والبحر يطيعانه؟” (مر 4: 41). أما اليقين بشأن مَن يكون فكان بنعمة الله. لذا عقّب يسوع على اعتراف بطرس به: “أنت هو المسيح ابن الله الحيّ”، بقوله له “إنّ لحماً ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات” (مت 16: 17).
ضعف الناس وضعف ابن الإنسان
فلا يتذرعنّ إنسان بعد اليوم بأنه ضعيف ولا يستطيع أن يكون كالمسيح ولا أن يفعل ما فعله المسيح فإن يسوع اتّخذ ضعف الناس، وصُلب من ضعف، كما يقول الرسول بولس إلى أهل كورنثوس (2 كور 13: 4)، وكذلك قَدّم، في أيام جسده، “بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرّعات للقادر أن يخلّصه من الموت [وكأنه غير قادر أن يخلّص نفسه من الموت] وسُمع له من أجل تقواه مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألّم به. وإذ كُمّل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي” (عب 5: 7 – 9). بالعكس ضعفنا وإحساسنا بضعفنا لم يعد مجلبة للذلّ ولا سبباً للفشل بل مدعاة للإفتخار وضرورة للنجاح وإحراز للغلبة، فإن الربّ الإله سرّ أن تستقر قوّته، بالإيمان، في ضعفنا (2 كور 12: 9). لذلك، كما قال الرسول بولس، “أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2 كور 12: 10).
يسوع كغريب
كل مَن تذرّع بالضعف بيننا كان متعلِّلاً بعلل الخطايا. أبان، بكلام آخر، أنه لا يشاء أن يؤمن. وحيث لا مجال للتذرّع بالضعف لا مجال للمساومة أيضاً. أية خلطة للبرّ والإثم وأية شركة للنور مع الظلمة (2 كور 6: 14). حنانيا وسفيرة اللذان رغبا في الاحتفاظ لنفسَيهما بنصيب من المال دون الله قضيا بميتة شنيعة (أع 5). الكل لله أو لا يكون لنا معه نصيب. “لنودع أنفسنا وبعضنا بعضاً وكل حياتنا المسيحَ الإله”. فإذا كنا نرغب فعلاً في أن نتجدّد بروح ذهننا ونلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البرّ وقداسة الحقّ (أف 4: 23) فلا سبيل لنا، للصدق والأمانة، إلاّ أن نخلع، من جهة التصرّف السابق، الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور (أف 4: 22). ليس الموضوع أن نقتبل أفكاراً أو شعارات عن يسوع ونصدح بها ونرفعها على الرايات وأن نتزيى، خارجياً، بلباس التقوى. هذا الدم المهراق على الصليب يفضح عقم ذلك كلّه. ليس افتخارنا بالهياكل الفخمة بعد، فهذه الربّ يسوع تخلّى عنها لما نبذ هيكل أورشليم وترك حجارته تتبعثر. لا قيمة للمؤسّسات، المسمّاة إنسانية وليست كذلك بالكامل عندنا، نظير مؤسّسات أهل العالم، لأن أنّات الجائعين وتأوّهات المرضى ونظرات الأرامل والأيتام المكسورة تدينها وتبطلها. لسنا بعدُ قبيلة جاهلية تفتخر بذاتها وبالناس ولها حقوق وكرامات في هذا الدهر. ذاك الغريب سفّهها مرّة وإلى الأبد. والغريب كان غريباً في شعبه يومذاك ولا زال غريباً في شعبه اليوم. هذا الغريب هو إيّاه مَن نلتمس. “أعطني هذا الغريب الذي أبناء جنسه أماتوه بغضاً كغريب… أعطني هذا الغريب الذي يعرف أن يُقْرِي الفقراء والغرباء. أعطني هذا الغريب الذي غرّبه اليهود من العالم حسداً… الذي بما أنه غريب ليس له أين يسند رأسه…” (طروبارية إن يوسف. الجمعة العظيم). ليس أحد منّا صالحاً. الصالح الذي أنكر على الناس أن يقولوا إنه صالح لأنه ليس صالحاً إلاّ الله، هذا حوّل عيوننا عن صلاحنا وأثبتها على خطايانا. “كلّنا كغنم ضللنا. مِلنا كلُّ واحد إلى طريقه والربّ وضع عليه إثم جميعنا” (إش 53: 6).
الخروج إلى يسوع
لا ننسينّ أبداً أنّ يسوع تألّم خارج الباب (عب 13: 12)، خارج غرور هذا العالم وأشواكه واهتماماته. “فلنخرج إليه خارج المحلّة حاملين عاره لأنه ليس لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية” (عب 13: 13 – 14).
يوم نخرج إليه عراة، حفاة، جيّاعاً، عطاشاً، شُرَّداً، غرباء، لا ما نلتمسه غير وجهه قِبلةً، يومذاك نصير منه، نصير جسده، كنيسته، فيما يتغنّى المتخلِّفون، في أرض صادوم، بالأطلال والأوابد يبخِّرون عليها وفي ظنّهم أنّهم يبخِّرون لله. كلا، الله مَرَّ من هناك ولم يعُد هناك! ويل لمن يَحيد بنظرِه، في المسير إلى الملكوت، عن يسوع المَشرقِ إلى ما وراء، لأنّه سيستحيل عمود ملح حيث هو. أن تكون، في يسوع، في جسده الإلهي، في كنيسته معناه أن تبقى في وصال الأمانة للسيّد وإلاّ سقطت ولو لم يعلنك أحد في الدنيا ساقطاً. كثير مما يقوله الله لا يشاؤه الناس، ولا يتورّعون، باسم الله، عن تبرير أهوائهم مصدّقين الكذب. الحقّ باق في غربة، على الصليب، إلى قيام الساعة، فمن صدّق خبرنا؟!
فيما يتعاطى الأكثرون يسوع في المحلّة وثناً بين الأوثان يخرج قطيع صغير خارج المحلّة مزمِّراً: “أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه. تعالَ يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى… هناك أعطيك حبّي… اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك، لأن المحبّة قويّة كالموت… مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبّة والسيول لا تغمرها… أهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كأولاد الأيائل على جبال الأطياب” (نشيد الأنشاد 7 و 8). يومذاك، يا حبيبي، لا تعود تسأل “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” لأنّك تكون قد وجدتَ يسوع الذي هو الحياة الأبدية!