الخطيئة الجديّة بحسب الأب يوحنا رومانيدس
الأب أنطوان ملكي
حلّل الأب رومانيدس كتابات آباء القرون الأولى في الكنيسة المسيحية، واستنتج أنّه بالرغم مما يراه الغرب المسيحي بأن أوغسطين هو أول كاتب ومدقق عالج هذا موضوع “الخطيئة الجدية”، إلا إنّ عدداً من الكتّاب الآبائيين الشرقيين عالجوا الموضوع نفسه وتوصّلوا إلى استنتاجات مختلفة عمّا توصّل إليه أوغسطين. هذا ما يعني أنّ الفهم الأوغسطيني لآدم والخطيئة لم يكن الفهم الوحيد ولا هو الأكثر أهمية بين لاهوتيي القرون الأولى. فلدى الشرق المسيحي كتّابه الذين اتّبعوا خطاً مختلفاً في التفكير.
يضع الأب رومانيدس، كنقطة بداية، موقع الموت الذي صار لآدم وللإنسانية. ما إن ابتعد البشر عن الله حتّى انوجد الموت وتبعته الخطيئة، ما معناه أن خطيئة الإنسان هي الابتعاد عن الله.
يستشهد رومانيدس بالقديس باسيليوس في قوله: “على المنوال نفسه، بقدر ما ينفصل الإنسان عن الحياة، يقترب من الموت بالقيمة نفسها. لأن الحياة هي الله، وفقدان الحياة هو الموت. إذاً، هيّأ آدم الموت لنفسه بانسحابه من الله، كما هو مكتوب <الذين ينفصلون عنك يخسرون>. وعليه، الله لم يخلق الموت، لكننا نحن جلبناه لأنفسنا بعملنا السيء. ولا هو منع الفناء للأسباب التي سبق لنا قولها: حتّى لا يخلّد المرض فينا”.
من جهة أخرى، يستشهد رومانيدس أيضاً بالقديس أثناسيوس الكبير: “عندما ابتعد البشر عن الأبديات، بمشورة الشيطان، عادوا إلى أشياء الفساد وصاروا هو أنفسهم سبب التحوّل إلى الموت”.
وحول خلق الإنسان وسقوطه، يكتب القديس ثيوفيلوس الأنطاكي: “لو أنّ الله خلق الإنسان منذ البداية خالداً، لكن جعله إلهاً. من جهة أخرى، لو كان صنعه قابلااً للموت، لكن الله ظهر وكأنّه علّة الموت. لهذا صنعه لا مائتاً ولا خالداً، كما ذكرنا سابقاً، لكنّه قابل لأن يكون أيّاً من الإثنين حتّى إذا ما مال نحو أمور عدم الموت وحفظ وصايا الله يستحق منه عدم الموت مكافأةً ويصير إلهاً. أمّا إذا تحوّل نحو أمور الموت بعصيانه الله، يصير هو علّة موته. فالله صنع الإنسان حراً وسيداً.
هذا الرفض لإرجاع سبب الموت إلى الله موجود ايضاً في أعمال القديس إيريناوس أسقف ليون، الذي يشدد على أنّ الشيطان هو علّة الموت. والرسول بولس لا يعلّم في أي مكان إلى أنّ الموت هو عقاب من الله. فالله لا يعاقب مباشرة بل بطريقة غير مباشرة، بسماحه للإنسان، إذا كانت هذه رغبته، بأن يبتعد عنه وبالتالي يصير خالياً من الحياة. لقد سمح الله بموت الإنسان، حتّى لا يصير خالداً في الخطيئة. يقول القديس ثيوفيلوس “هذه بالحقيقة ؟؟ إنه إحسان عظيم من الله منحه للإنسان، وهو ألاّ يبقى إلى الأبد في الخطيئة”. هنا تظهر نقطتان مهمتان من المقاطع المقتَبَسَة أعلاه: 1) الله لم يخلق الموت، 2) موت البارّ لم يُسمَح به بسبب الغضب الإلهي بل بسبب الإشفاق الإلهي فقط.
لا يميل الآباء الشرقيون إلى رؤية الموت وكأنّه عقاب غاضب من الله للبشر. بالأحرى، يتمسّك الآباء الشرقيون بصلاح الله، ويؤمنون بأنّه بصلاحه يمنح الإنسان الإرادة الحرّة وحرية الاختيار. البشر هم مَن يقرر الانفصال عن الله، وهذا هو الموت تعريفاً، إذ يفصل البشر أنفسهم عن مصدر الحياة. لم يُخلَق البشر لا كمخلوقات كاملة ولا مكمّلة. فهم، إذ أُعطوا الإرادة الحرّة وحرية الاختيار حصلوا على إمكانية اختيار الكمال أو عدم. إذاً، لا يسقط البشر من حالة من الكمال إلى بعض أشكال الوجود الأقلّ كمالاً. فالله لم يختَر بل البشر اختاروا، ففي النهاية هو مَن منحنا الإرادة الحرّة وحرية الاختيار. يسمح لنا الله بأن نختبر نتائج اختياراتنا. لقد مال الكتاب الابائيون إلى النظر إلى الموت كنتيجة وكأن الإله الرحوم لا يسمح للبشر بأن يبقوا الخطيئة إلى الأبد. لكن نزولنا إلى قابلية الموت جعلنا عبيد للموت. من هذا السجن، ينقذنا الله ويبيد السجّان الذي يمسكنا في الاعتقال.
لم يخلقنا الله غير قابلين للسقوط، فهذا كان ليعني أننا بلا إرادة حرّة. لم يخلقنا الله خطأو، ولا هو فرض علينا أيّ نوع من حالات القدرية التي لا نستطيع، ونحن فيها، أن نختار غير الخطيئة. لم يرغب الله لنا بأن نخطأ أو نموت، بل سمح بأن يكون لدينا إمكانية اختيار الاثنين. إذا ما سمحنا للمحبة بأن تكون قائدتنا نصير قادرين على اختيار مشيئة الله. ما أن ابتعد البشر عن الله حتّى دخلت قابلية الموت في الصورة، وصارت قدرة الإنسان على اختيار بشكل مناسب أكثر ضعفاً، وصار للموت والخطيئة تأثير على فكرنا، ما جعل اختيار الخير أمراً اكثر صعوبة على البشر.
يقدّم الأب رومانيدس افتراضات أساسية حول أساس الفهم الأرثوذكسي الشرقي للدور الذي يلعبه كلّ من آدم والخطيئة والموت في فهم كلٍ من الخلاص ومعنى أن يكون الإنسان إنساناً. أولاً، الموت هو مشكلة الإنسان، أكثر مما الخطيئة هي مشكلة له. فالموت هو رمز انفصالنا عن الله ونتيجة هذا الانفصال. الموت هو آخر عدو يغلبه الله في مخططه العظيم للخلاص. البشرى الحسنة هي إفناء الموت.
ينظر الآباء الروميّون إلى الخلاص من منظار كتابي ويرونه كافتداء من الموت والفساد وشفاء للطبيعة البشرية التي اعتدى عليها الشيطان…. في الغرب يوجد العكس حيث لا يعني الخلاص، أولاً وقبل الكلّ، خلاصاً من الموت والفساد، بل من الغضب الإلهي”. وهكذا يميل الشرق إلى ألاّ يرى الخلاص كتخلّص من الغضب الإلهي (وبالتالي تحرر من الله نفسه)، بل بالحري الخلاص هو شيء يقوم به الله للبشر ليحررهم من عدوهم الحقيقي – الموت.
لم يكن السقوط بالنسبة للاهوتيي الكنيسة الأوائل مسألة قانونية بل بالأحرى عجز الإنسان عن بلوغ الكمال والتمجيد (theosis) لأنّه وقع بين يدي مَن له قوة الموت. وهكذا، الخلاص عندهم كان إبادة قوة الشيطان واستعادة الخليقة إلى مصيرها الأصلي عن طريق كمال الإنسان وتألهه. ما خسره البشر في السقوط لم يكن القدرة على اختيار الخير، بل شركتهم مع الله. نحن صرنا منفصلين عن مصدر الحياة. لقد أُعطي للبشر القدرة على اختبار الاتحاد مع الله من خلال خياراتهم. لكن بالابتعاد عن الله، صاروا منفصلين عنه وخاضعين للخطيئة والموت. يسعى الله نحو البشرية بالمعونات ليقود البشر معيداً إياهم إلى الطريق الصحيح. لكن، بالمطلق، خيار الله هو إبادة الموت نفسه حتّى تعود البشرية إلى الشركة الكاملة معه.
ما يبقى غير مقترب إليه خلال هذه العملية هو الإرادة الحرّة. لا يشنّ الله حرباً ضد الشر بالقوّة ولا بتجريد الخلائق من الحرية بل بأن يحتمل الألم باستمرار بالمحبة والعدل. لم يمل كتّاب المسيحية الشرقيون إلى تحميل البشرية أي نوع من قابلية الخطيئة المقدّرة والتي قد تحدّ حرية إرادتنا. لذا نحن مسؤولون أمام الله عن خياراتنا ولا يمكننا أن نلوم القَدَر أو جيناتنا أو طبيعتنا أو تربيتنا. نحن دائماً نقوم بخيارات نتحمّل مسؤوليتها، من هنا الصلاة غير المنقطعة في الأرثوذكسية: “يا رب ارحم!”
الخيار الحر كان جزءً من الكيان البشري منذ البدء، فهو في صلب الطبيعة التي خلقنا الله بها. فالإنسان قد خُلِق في طبيعة وسطية، لا هو بالكليّة قابلاً للموت ولا هو بالكليّة خالد بل هو مؤهّل لكلا الحالين. الوصيةا تشير إلى أي عمل غير حفظ وصايا الله. بحسب القديس إيريناوس، الرحل والمرأة الأولان لم يكونا كاملين أخلاقياً منذ البدء وإلا لكن هذا يعني أنه تنقصهما الإرادة الحرة، وكل أعمال البشر بالحقيقة لا معنى أخلاقي لها. لهذا، صلاحهما كان ليكون بلا معنى لأنّه من جوهرهما وليس من إرادتهما. كانا ليمتلكا الصلاح أوتوماتيكياً بدلاً من الاختيار. إذاً جدّانا الأولان أعطيا فرصة التألّه، لكنّهما لم يكونا مخلوقين كاملين ولا حتى بلا خطيئة، لأنّ الإنسان يمكن أن يكون خاطئاً أو بلا خطيئة فقط من خلال الخيارات التي يتّخذها. لقد خلِق البشر بإمكانية أن يكونوا كاملين إذا اختاروا ذلك.
عندما نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الإنسان خُلِق ليصير كاملاً بالحرية والمحبة، على شكل كمال الله، أي بمحبة الله وقريبه بنفس الطريقة الخالية من الأنانية التي يحب الله العالم بها، يصير ظاهراً أن موت النفس، اي فقدان النعمة الإلهية، وفساد الجسد جعلا هذه الحياة الكاملة مستحيلة. بقوة الموت والشيطان، الخطيئة التي تسود على الإنسان تنشئ الخوف والقلق والغريزة العمومية لحماية الذات أو الحياة survival. بسبب الموت، صار على الإنسان أن ينتبه أولاً لضروريات المعيشة لكي يبقى على قيد الحياة. في هذا الصراع لا يمكن تلافي الاهتمامات الذاتية. وهكذا، لا يستطيع الإنسان ان يحيا بتناغم مع مصيره الأوّل أي المحبة الخالية من الأنانية.
يخسر البشر قدرتهم على أن يكونوا خليقة مَحَبة، مُحِبَّة لله وللأخ، بقدر ما يهتمّون كبشر البقاء على قيد الحياة والحفاظ على النفس. تدفعنا الخطيئة بعيداً عن الله. تظهِر المسيحية لنا طريق العودة إلى الله، إلى الكينونة بشراً كاملين، لذا هي تتضمّن المحبة المضحّية بالذات: تقليد المسيح الذي نتممّه في حمل الصليب لاتّباعه.