القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم والرهبنة
الأب باسيليوس الرئيس السابق لدير الإيفيرون في الجبل المقدّس
نقلته إلى العربية راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة
من المعروف أنّ القدّيس يوحنّا وهو في سنّ الحادية والعشرين، وبعد إنهاء دراسته في فنّ الخطابة واللاّهوت، أقام أربع سنوات قرب شيخ ناسك في أحد الجبال ليس بعيدًا عن أنطاكية. وبعد هذه السنوات الأربع، وتلمذته لهذا الشيخ، الذي تلقّف من فمه المقدّس أسس الحياة الرهبانيّة، بقي وحده ناسكًا سنتين في إحدى المغاور.
أحبّ يوحنّا الثاوريا والحياة النسكيّة محبّة جمّة، حتّى إنّه، وبسبب مبالغته في النسك، مرض، ورافقه هذا المرض في كلّ حياته الاستشهاديّة المقدّسة.
ومن الأمور المؤثّرة أنّ القدّيس يوحنّا كان تلميذًا لشيخ سوريّ، ومع أنّنا لا نعرف شيئًا عن هذا الشيخ الناسك، ولكنّه، ولكونه سوريًّا، يذكّرنا بالقدّيس إسحق السوريّ، الذي فتح باب الحياة الهدوئيّة على مصراعيه للأجيال التي أتت بعده، مطلعًا إيّاها على دقائق السيرة الرهبانيّة، وعلى أسرار الحياة السماويّة التي بات عيشها ممكنًا لسكّان الأرض. ويقول القدّيس إسحق، صاحب الخبرة الواسعة النطاق في هذا المجال، بأنّه عندما يترك اللهُ البشرَ يتذوّقون لحظات من الثاوريا وحلول النعمة التي تسمو بهم فوق أمور العالم، لا بدّ، عندئذ، أن يطرق الجميع باب البريّة.
وعلى السؤال ما هي الرهبنة، وكيف نتعرّف إليها؟ يأتينا الجواب واضحًا من مثال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، أيّ يجب أن يكون لديك معلّمًا صالحًا ومختبِرًا وحرًّا بالروح وحارًّا بالمحبّة الإلهيّة. هذا هو المتوحّد المتواضع الذي بإمكانه أن يلدك روحيًّا لتحيا مع جميع القدّيسين في قلب الكنيسة، ويلقّنك التعليم الصحيح، ويقودك إلى المسيح، فيما يكون هو نفسه قد بلغ الحدّ الأقصى من ذلك.
إنّ أمثال هؤلاء المعلِّمين يجعلونك تدرك، وبسرعة، أنّ الرهبنة هي غصب للطبيعة، وقتل للأهواء، وليس قتلاً للطبيعة. فالراهب لا ينشغل بأيّ موضوع خارج عن نفسه كالعلم أو الفنّ أو المهنة أو… أو… كما لا ينشغل بتنظيف أيّ حقل خلا حقل نفسه، ولا يحاول أن يحرث هذا الحقل إلاّ بما يتوافق والتوبة والنسك، مقدِّمًا ذاته بكلّيّتها للمسيح.
يبدأ الجهاد، ويدخل الراهب في البرنامج اليوميّ: الخدم الكنسيّة، والمطالعة، والقانون الشخصيّ في القلاّية، والعمل اليدويّ بالإضافة إلى أعمال الدير اليوميّة. في كلّ هذا لا يطلب المتوحّد إلاّ أمرًا واحدًا أحدًا، وهو إتمام مشيئة الله لا مشيئته. ثمّ هناك، أيضًا، البوح بالأفكار، وهو أمر يتطلّب من الراهب استقامة وأمانة مع نفسه ومع الله ومع شيخه. كما لا ننسى التجارب والضيقات التي تعصف به بسبب الضعف البشريّ، روحيًّا كان أو جسديًّا، أو بسبب الحروب الشيطانيّة.
يسعى الراهب لاقتناء التمييز، الذي به يستطيع تحديد سبب محارباته أهي افتقاد إلهيّ، أو خبث شيطانيّ، أو تمرّد لشهوات الجسد وأهوائه. بيد أنّ الراهب، في عراكه هذا، لا يجابه بمفرده، وإنّما يقف شيخه إلى جانبه يسنده ويشجّعه من جهة، وصلوات النسّاك الآخرين الدعم الثاني والقويّ له من جهة أخرى. وإن ثابر الراهب في تتميم المشيئة الإلهيّة، متيقّنًا بأنّ الله صالح وكلّيّ القدرة، يكون، عندئذ، قد وضع رجله في السكّة الصحيحة، مبتدئًا حياة جديدة تنبثق من داخله، يشعر فيها بقوّة جديدة تحفّزه للسير قُدمًا في معركته المقدّسة. وعندئذ يتحوّل ضعفه إلى قوّة، وينبع من جراحه إحساس مرهف بالخطيئة، ورقّة شعور ورأفة نحو الآخرين.
يبدأ الراهب جهاده بتحرّره من أفكاره الطفوليّة، وهكذا، شيئًا فشيئًا، تتوقّد فيه حرارة الإيمان، ويجتاز الجهل والشرّ، وتضعف الأهواء، وتبدأ الفضيلة بالإزهار، ويختبر مواقف جديدة تؤول به إلى النضوج الروحيّ، ويحسّ بأنّ أمرًا ما جديدًا قد جرى داخله لا علاقة له بمحاولاته وجهاده، ولكنّه عطيّة مجّانيّة من النعمة الإلهيّة. في هذه المرحلة الجديدة لا يقوم الراهب بأيّ مجهود شخصيّ، بل بالأحرى يتذوّق السماويّات أكثر فأكثر، ويشعر بتقدّمه في الحياة الروحيّة حيث كلّ شيء يعبر من دون عناء بالصلاة.
وفي نهاية المطاف، يصل الراهب إلى مرحلة متقدّمة جدًّا، إذ يدخل في غبطة المجد العلويّ، فتسكن نفسه، ويخيّم عليها صمت وهدوء داخليّان، وبتعبير آخر يصبح بحالة صلاة دائمة. ونستطيع القول بأنّ الراهب، بعد تحرّره، يصل إلى حالة من التجلّي، إذ يتبدّل كلّ شيء في حياته ويتحوّل إلهيًّا: تصير له قوّة أخرى، ويخلع عنه كلّ رأي خاصّ، ويعود لا يقود نفسه بنفسه، بل يُقاد من الروح نحو المعرفة الحقيقيّة التي تصل به إلى الحرّيّة، حرّيّة أبناء الله. نعم، لقد تغيّر فيه كلّ شيء.
المتواضع الحقيقيّ هو الإنسان غير الموجود بالنسبة لهذا العالم المخلوق والفاني، فهو له وجود آخر، وجود في النعمة الإلهيّة.
إنّ الذين توصّلوا إلى هذه الدرجة من النعمة، وتجاوزوا حدود الطبيعة هم قليلون. ولمغبوط المجتمع البشريّ لو حظي ببركة وجود واحد، فقط، نظيرهم في كلّ جيل، إذ إنّ وجودهم هو بركة للجميع.
ولكن، ولكي يتجاوز الراهب هذه الحدود، عليه أن يكون ذا طبيعة صالحة رقيقًا منسحقًا، لأنّ هذا الانسحاق يقوده إلى الخضوع خضوعًا كلّيًّا لمشيئة الله. وعندئذ لا تعود حياته تخضع لقواعد ورغبات بشريّة، بل تسير وفق الإرادة الإلهيّة.
الحياة في مجملها هي سرّ! فعندما نقرأ في الكتاب المقدّس بأنّ الله “يرحم من يشاء ويقسّي من يشاء ولعلّك تقول لي فماذا يشتكي بعد. من الذي يقاوم مشيئته” (رو 9: 18-19) ندرك بأنّه علينا أن نقبل كلّ ما يصادفنا بشكر وعرفان جميل، لأنّ الربّ يدبّر كلّ شيء بحكمة، ومن البديهيّ القول إنّنا لا نصل إلى هذا إلاّ بعد تعب وصبر جزيلين.
قد يستطيع جهاد يوم واحد، من الصباح حتّى المساء، أن يصل بالراهب المجاهد، إلى هذه الدرجة الإلهيّة، وقد يجلس راهب آخر مئات السنين في قلاّيته، غير قادر على إدراك هذا القول. ولكنّ الله ليس بظالم، لأنّ النجاح في الجهاد لا يفرّق بين الأشخاص، بل يوحّدهم. ففوز الواحد، الحقيقيّ لا الوهميّ، هو فوز الجميع. النجاح والتعزية والرجاء لا يتمتّع بهم الراهب وحده، فقط، بل يشترك بهم الفاشلون، رغم محاولاتهم، والذين لا علاقة له بهم، بل والغرباء أيضًا.
وأمّا إن كان النجاح في الحياة الروحيّة، أو التقدّم في النقاوة والفضيلة سببًا لتكبّر الراهب واستعلائه على الآخرين، فإنّه يسبّب لنفسه السقوط وفقدان كلّ برّ وصلاح. فالهدف من النسك هو أن يصل الراهب إلى التواضع الذي يقوده إلى الحرّية الداخليّة الفردوسيّة، ويآخيه مع الجميع.
فأحبب الربّ، إذًا، وتحسّس حضوره الإلهيّ، ومحبّته التي لا تقاس، والتي جعلت كلمة الله أن يصير إلى ما ليس هو عليه لكي يخلّصك. لقد تواضع الربّ، بل بلغ التواضع الأقصى، هذا التواضع الذي كان يخفي وراءه مجده ومحبّته اللذين لا يُعبَّر عنهما. أحبب المصلوب الذي ضُحّي من أجل حياة العالم وخلاصه. اعشق هذا الصليب، وهذه التضحية، من دون ملل ولا كلل، وردّد مع القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ “ولي شهوة أن أُصلب”. أحبب التواضع حتّى درجة الإخلاء الذاتيّ، وعندها سوف تفقد نفسك لتجدها بحسب القول الإنجيليّ. لا تشته أمرًا بشريًّا، وسوف تعطاه مجّانًا. لقد طلب الأب بمفو (أحد أباء برية مصر) ألاّ يتمجّد على هذه الأرض، فأشرق وجهه ساعة موته بلمعان لم يستطع أحد أن يتحمّله. والأب سيصوي حَسِب نفسه تحت الخليقة كلّها، فربح كلّ ما هو سماويّ حتّى بات مشاركًا لجوق الملائكة. قدَّمَ كلّ شيء لله محبّة بالله، فأعاد له الله كلّ شيء مبارَكًا ومقدَّسًا. عاد فأعطى، وعاد الله، أيضًا، وأغدق عليه بعطاياه. قضى كلّ حياته يعطي، معتبرًا أنّ السرّ الأوّل والأخير للحياة هو محبّة العطاء والتضحية، والله أخذ، بدوره، يفيض عليه بركاته.
هكذا هو الراهب المتواضع غير الموجود بالنسبة للعالم المادّيّ، موجود هو بطريقة أخرى خفيّة بالنسبة لله وللعالم أجمع.
البرّيّة هي المدرسة اللاّهوتيّة للكنيسة، إنّها مدرسة الفلسفة الحقيقيّة التي اغترف منها الآباء علمهم. البرّيّة هي رحم الروح القدس الذي يلد للكنيسة أناسًا جددًا.
لا وجود للراهب خارج الكنيسة، ولا خارج الحياة، ولا هو بعيد عن آلام العالم، بل هو موجود في قلب الكنيسة، وقلب العالم. فالرهبنة خُلقت وحُفظت وعملت داخل جسم الكنيسة. إنّها نتيجة التدبير الإلهيّ، وتجسّد كلمة الله.
يعيش الراهب ويجاهد لكي يصل، بعد مروره بجسمانيّته الخاصّة، لأن يقول: “لتكن مشيئتك”، وعندها يهيمن داخله السلام والشكر ورهافة الحسّ. إنّه دائم الولادة، لأنّه دائم التضحية ودائم الموت. هو مولود أبدًا ومحتضر أبدًا. هو موجود، دائمًا، بين يدي محبّة الله اللاّمنظور. لا اختلاف، بالنسبة إليه، بين النفس والجسد، ولا بين التحرّك والتوقّف، ولا بين السكون والنشاط، بل هو ينشد قائلاً: قدّوس واحد وربّ واحد يسوع المسيح، الذي هو الكلّ في الكلّ. وهذا ما يعظ به المتوحّدون الحقيقيّون بصمتهم، بل وبمجرّد حضورهم فقط.
تتحقّق رسالة الرهبان داخل جسم الكنيسة، لا بل داخل الخليقة كلّها. رسالتهم هي تقبّل ملء النعمة بانسحاق وتواضع، ليصبح وجودهم تمجيدًا صامتًا لله. إنّهم يعملون بصمت في جسد الكنيسة، ولا يحتاجون لأن ينظرهم أحد، لأنّ مجرّد وجودهم يساعد الجسد برمّته ويسنده. وأخيرًا الرهبان هم شهود لله، وظهور سرّيّ لمحبّته المحتجز وصفها.
يؤثر الراهب التواضع والازدراء به لكي يرتفع الآخرون، ويسعى إلى التخفّي وعدم الوجود لكي يوجَد الآخرون. إنّه جمرة غير ماديّة تدفئك وتندّيك في آن إن كنت قريبًا منها أو بعيدًا عنها. إنّه يقظ دائمًا لما يحتاجه الآخرون لكي يعيشوا ويتقدّموا. الراهب متوحّد وحيد، ولكنّه يحيا مع الجميع، وله رسالة خفيّة، ولكنّ نتائجها ظاهرة للعيان.
الرهبان الحقيقيّون الذين نجحوا في الوصول إلى هدفهم وتجاوزوا حدود الطبيعة هم قليلون. وهذه القلّة لا تحصى، لأنّها لا تخضع للعدد، إذ إنّها غير محصورة حسّيّاً. لقد تحرّرت، بتواضعها، من القيود الدنيويّة، وبتحرّرها هذا استطاعت أن تقدّم الكلّ لمنفعة الكلّ. وهذه القلّة هي نموذج الراهب الحقيقيّ والإنسان الحقيقيّ. إنّها تعيش، وتوجَد، لأجل الآخرين، وتصوّر الربّ القائم، والمقيم معه المسكونة كلّها.
وهكذا، فعندما يوجَد الراهب في هذه الحالة من التجدّد الدائم، يبقى منفصلاً عن الجميع ومتّحدًا بالجميع حسب تعبير إفاغريوس البنطيّ، وموجود في كلّ مكان، وغير موجود في آن على حدّ قول القدّيس أفرام السوريّ.
ولقد حصل القدّيس الذهبيّ الفم على هذه النعمة، ونقلها إلى العالم بطريقته الخاصّة وأقواله الخاصّة.
فأنت، بالطبع، لن تسكر ما لم تشرب النبيذ. ولا تستطيع أن تستدفئ ما لم تقرب النار، ولا أن تحترق ما لم تصل إليك النار بكلّيّتك. هكذا الراهب، لا يستطيع أن يصبح راهبًا ما لم يصبح بجملته نارًا تلتهب محبّة بالربّ.
أتى القدّيس يوحنّا إلى الرهبنة، وعاش بقرب شيخه أربعة أعوام، وبقي بمفرده عامين، وحصل على النار كما حصل عليها الرهبان “جهّال المسيح” وغير الموجودين، وبقي ذاك الراهب الملتهب، ولم يبرح البتّة بعيدًا عن مناخ النعمة والقوة، مناخ حرّيّة الفردوس.
أنّى حلّ الراهب، وحيثما وُجد، فهو باق أبدًا في حالة واحدة، منفصلاً عن الكلّ، ومتّحدًا بالجميع. وهذا ما حصل مع القدّيس الذهبيّ الفم، وتستطيع أن ندركه بوضوح من طريقة كلامه، وكيفيّة شرحه الكتاب المقدّس، ومن أين كان يستمدّ غذاءه الروحيّ، وماذا كان يقدّم للعالم، وكيف أحبّ العالم، وكيف أحبّه العالم. كيف واجه الأمور، وكيف أنهى حياته الاستشهاديّة بقوله: “المجد لله على كلّ شيء”.
قول الذهبيّ الفم هذا يُظهر بجلاء خبرة المتوحّد الحقيقيّ الذي يكلّمك بسكون وهدوء، وينقل إليك الفرح والتأكيد بأنّ الله محبّة “الله محبّة ومن يثبت في المحبّة يثبت في الله والله فيه” (1يو 4 :16). وهكذا، فالذهبيّ الفم أينما حلّ كان ينقل نعمة البرّيّة. فهو لم يعبر عبورًا بسيطًا في الرهبنة، ثمّ انتقل بعد ذلك إلى معترك آخر يختلف اختلافًا كلّيًّا. بل بقي في المناخ الرهبانيّ، والمنطق الرهبانيّ بما فيه من قوّة ومحبّة مميّزين، هذا المناخ جعله، بالنعمة، مكانًا يستقرّ فيه الغير الموسوع في مكان، وبوقًا يصدع بالحرّيّة الداخليّة إحدى أبرز ثمار البرّيّة، وببساطة أبناء الله وطفولتهم، وعمل النعمة التي تجمع المضادّات، وترفض كلّ ما هو خداع وكذب وافتراء.
لقد أصبح الذهبيّ الفم راهبًا، وهذا يعني أنّه جُبل على حبّ السكون والوحدة، فما عادتا تنفصلان عنه البتّة. عاش مع المسيح، وعاش، أيضًا، للآخرين ومع الآخرين. أكسبته الرهبنة منطقًا آخر، منطق تجسيد وصيّة المحبّة الشاملة الذي يرفع الوجود إلى درجة عدم الوجود.
وبما أنّه كان يحيا الحدث بكيانه كلّه، فقد آمن بعمق أنّ الله محبّة، فراح يعظ بها، وينشرها بدويٍّ الفرح والتعجب اللذين كانا يملآن قلبه، واللذين جعلا منه خطيبًا، بل بالحريّ خطيب اللاّهوت بامتياز.
لا يقدّم فنّانو الكنيسة وقدّيسوها المساعدة بما يخلقون ويبدعون فقط، بل بشذا النعمة الذي يضوع من تواضعهم لا من فضيلتهم وأعمالهم الصالحة وحسب، فهم بتواضعهم هذا يخلّصون البشر، ويقودونهم في طريق التألّه. هذا التواضع الذي يُظهر مدى النقاوة التي اشتملت عليها حياتهم وأعمالهم.
وُلد الذهبيّ الفم في رحم الرهبنة، وداخل الحياة الليتورجيّة التي للكنيسة، ونقل ملء النعمة بوضعه القدّاس الإلهيّ الذي يترجم تجلّي العالم كلّه بالروح، ويجعل الحياة كلّها تمجيدًا وتسبيحًا شكريًّا. هذه الليتورجيا التي تحيي الكنيسة، وتغذّي الجميع سواء كانوا رهبانًا في البرّيّة، أو مؤمنين مجاهدين في المجتمع. وبهذا عُرف الذهبيّ الفم مغذّيًا روحيًّا، ومعلّمًا للرهبان والعلمانيّين على حدّ سواء.
إنّ هدف الصمت لدى الهدوئيّين وعظات الذهبيّ الفم واحد، فهم يصدحون بالشيء نفسه، وينقلون الفرح ذاته، والإيمان الأكيد عينه. إنّهم طروباريّة متشابهة، وترتيلة واحدة لها عمق المحبّة الملائكيّة “كما أحبّني الآب كذلك أنا أحببتكم” (يو 15: 9). وهكذا يظهر سرّ الحياة الثالوثيّ عندما تعيش المسيح إذ تعلّم بصمتك، وتاليًا تنقل سكون البرّيّة وهدوءها. فالرهبان والوعّاظ يغتذون من نبع واحد، ويحيون بالقوّة نفسها، وينقلون النعمة ذاتها، ويجسّدون، بتعليمهم، حقيقة واحدة هي حقيقة اتّحاد طبيعتيّ المسيح.
ففي الكنيسة الأرثوذكسيّة يجد المتوحّد نفسه، بعد انفصاله عن العالم، واحدًا مع كلّ إخوته يشدّدهم ويسندهم. والذهبيّ الفم عاش الهدوئيّة التي أكسبته نقاوة الذهن، فعاد وعاش في العالم بعد أن تحرّر داخليًّا من صخب العالم. فالهادئ، بوجوده، يعلّمك كيف تعيش في العالم بشكل صحيح، والذهبيّ الفم الذي عاش في العالم يملؤك، بواسطة الليتورجيا الخاصّة به وبعظاته الناريّة، بالنعمة وبحرّيّة الدهر الآتي.
لقد بيّن الذهبيّ الفم بأقواله وحياته ماهيّة الرهبنة، وكذلك الناسك المتوحّد المستسلم للنوح البهيّ، والمتذوّق حلاوة البكاء المفرح، يكشف، بدوره، ماذا قدمت عظات الذهبيّ الفم العطرة الشذا. إنّها حياة واحدة لكلا الاثنين: ناسك البرّيّة والمؤمن المجاهد في العالم، لأنّ الكنيسة هي واحدة في السماء وعلى الأرض، والذهبيّ الفم هو ذاك الأسقف الشهير الذي عاش وحقّق هذه الوحدة، ولذلك تسمّيه الكنيسة “الإنسان السماويّ والملاك الأرضيّ”.
إنّ ما تشعر به قرب أيّ ناسك حقيقيّ هو التحرّر من العالميّات، وعظمة التواضع، والدالّة لدى الله، ومنطق الدهر الآتي. وهذا ما تراه، أيضًا، لدى الذهبيّ الفم بما أنّه أنهى دراساته العليا في الفضيلة في مناخ البريّة النقيّ. لقد تقدّس، وسيبقى حيًّا إلى الأبد. لقد غدا قدّيسنا شعلة متوهّجة، فأتى عطر أقواله تعزية وحياة لكلّ البشر على مرّ العصور، لا سيّما عظته الخاصّة بيوم القيامة المجيدة، إذ وحّد اللحظة الحاضرة بالأبديّة، منعشًا الكون لا بمفردات بشريّة عقليّة، بل بكلمات ناريّة ترينا ظفر الحياة على الموت، وتفوّق المحبّة على كلّ ظلم أو عدالة أرضيّة. هذه القيامة التي تبطل كلّ شيء دنيويّ، وتدعو الجميع للاشتراك بالفرح السماويّ: “فادخلوا كلّكم إلى فرح ربّكم… تناولوا كلّكم مشروب الإيمان… المائدة مملوءة فتنعّموا كلّكم! العجل سمين، فلا ينصرف أحد جائعًا… لا يتحسّر أحد شاكيًا… ولا يندب معدّدًا آثامًا لأنّ الفصح قد بزغ من القبر مشرقًا. المسيح قام ولا ميت في القبر…”.
لذا أضحى من الواجب، بعد هذا الميمر الرائع، أن نرنّم مباشرة طروباريّة القدّيس: “لقد أشرقت النعمة من فمك مثل النار، فأنارت المسكونة، ووضعت للعالم كنوز عدم حبّ الفضّة، وأظهرت لنا سموّ الاتّضاع يا أيّها الأب المؤدِّب بأقواله يوحنّا الذهبيّ الفم، فتشفّع إلى الكلمة المسيح الإله في خلاص نفوسنا”.