الأرثوذكسية والعلاج الإدراكي
الأب أنطوان ملكي
(عن النشرة البطريركية)
تنشد الكنيسة الأرثوذكسية في سحر أحد آباء المجمع المسكوني: “إن الآباء الموقرين المجيدين… لمّا نظموا علم النفس بجملته…” فهل صحيح أن الآباء نظموا كلّ علم النفس، وهل تُغنينا كتاباتهم عن علم النفس الحديث؟ فئتان من الناس قد تتوصّل إلى هذا الاستناج: فئة الذين يقصّرون عن فهم تفاعل التقليد مع الحياة في العالم، فيفصلون التقليد عن الحياة ويجمّدونه، وفئة تلاميذ برلعام الكاليبري الجدد، الذين يصرّون على سحب المساهمة الإلهية من التقليد ليجعلوه، بكل مكوّناته، موضوعاً للبحث بالطرق التي يستحدثها العلم. لذا، ترنو هذه الدراسة إلى أن تكون رداً على الفئتين يساهم، باختصار، في الإجابة على بعض الأسئلة التي تُطرَح مؤخّراً حول تفاعل علم النفس وطبّها مع الحياة في الكنيسة وصحة نفوس أبنائها.
المرض النفسي في كتابات الآباء
يعرف المسيحيون عدّة مقاربات للطب النفسي، تختلف في ما بينها بحسب خلفياتهم اللاهوتية ونظرتهم إلى الخلق وصورة الله في الإنسان، كما إلى مقاربتهم لتطور العلوم وما يطرحه من أسئلة وتحديات. فالمسيحية عاشت مع الثلاثية الأفلاطونية: جسد ونفس وروح. لكنّها لم تطوّرها كعقيدة، بل بالمقابل اكتفى التقليد بالتركيز على أنّ الروح في الإنسان هو الروح القدس، الذي يدخل في شركة الجسد والنفس منذ المعمودية. الصعوبة في هذا الاعتقاد تكمن في تحديد مكان العَطَب الناتج عن السقوط في الإنسان، وما يستتبع ذلك من تحديد للصورة والمثال اللذين أُعطيا له. وكون الأمر اختبارياً تطبيقياً، وليس تنظيرياً، توصّلت الخبرة الهدوئية إلى تحديد وجود النوس في الإنسان، على أنّه المَلَكة التي تعمل طوال الوقت مثل العقل، وعملها الأولي هو الصلاة، وأن العطب يطال النوس بالدرجة الأولى. لذا حدّد الآباء أنّ “كلّ مَن لم يعبر في طهارة النفس من الأهواء ولم يبلغ حالة الاستنارة بنعمة الروح القدس، هو مريض النفس” (فلاخوس، 2009).
وبالتالي فإن السقوط، أو الخطيئة، هو مرض في النوس والحياة الروحية هي الطريقة العلاجية للشفاء من هذا المرض. وقد أثبتت خبرة الكنيسة الأرثوذكسية الهدوئية صحّة هذا الاعتقاد، أقلّه في القديسين ورفاتهم، حيث يظهر في سيرهم تأثير شفاء النوس في النفس، وفي رفاتهم تأثيره في الجسد. ومثال آخر على هذا المفهوم التقليدي أنّه لم يكن مطروحاً لدى الاباء الخلطُ بين المرض والمسّ الشيطاني. لذا، استناداً إلى الخبرة عينها، لم يّرَ أحد من الآباء في قصة إخراج الشيطان أيّ وصف للصرع، كما يرى بعض الدارسين المحدثين. فالآباء اعتبروا أن إخراج الشيطان هو إخراج الشيطان وهو قوة مختلفة عن إقامة الموتى أو شفاء المرضى. ولو كان غير ذلك، لكان الإنجيليون سمّوه باسمه. طبعاً، هذا الوضوح في الرؤية نابع من صفاء النوس لدى الآباء الذي غذّى لديهم القدرة على التمييز.
أمّا لاهوتيو الغرب، في الألف الثاني، فقد وجدوا أنّ في دمج الروح بالنفس انسجاماً أكبر مع اللاهوت المختَزَل في المصنّفات السكولاستيكية التي جرى تبنّيها كمدرسة حصريّة للاهوت الغربي (Ρωμανίδου, 2004). من هنا، وجد الغرب نفسه، يطرح بدءً من القرن التاسع عشر أسئلة تشكّك في الإنجيل، ومن ثمّ يتبنّى، في القرن العشرين، مدارسَ علم النفس ويدخلها في تدريبه الإكليريكي ويعدّل “عملية” الاعتراف على أساسها. وهو الأمر نفسه الذي أدّى إلى تبنّي تقنيات الشرق الأقصى (يوغا، تأمّل تصاعدي،…) لدى بعض الرهبنات الغربية واعتبارها مدخلاً للصلاة التي صارت مجرّد ممارسة ذهنية نفسانية.
هل من موقف للكنيسة الأرثوذكسية؟
كعادته في التعاطي مع مستجدّات العلوم، لم يتفاعل الشرق الأرثوذكسي بشكل قوي مع ظهور علم النفس واختلاف مدارسه. بل جاء هذا التفاعل هادئاً، ولم ينتج عنه أيّ تبنٍ لهذه المدرسة أو تلك، كما لم يصدر عنه أيّ إدانة لهذه المدرسة أو تلك. فالكنيسة الأرثوذكسية لا ترفض الطبّ النفسي ولا غيره من فروع الطب، لكنّها في الوقت عينه لا تتبنّى أيّاً من التقنيات في ممارستها. من هنا أنّ تنشئتها اللاهوتية أو الإكليريكية، في مختلف معاهدها ومدارسها، تضمّ، إلى مواد اللاهوت والتاريخ والليتورجيا، الوعظَ والأمورَ التنظيمية كجزء أساسي من هذه التنشئة، فيما تخلو من كلّ أنواع التدريب على التقنيات النفسية.
وفيما موقف غالبية الأرثوذكس واضح في رفض الفرويدية، كواحدة من المدارس العديدة في هذا الطب، إذ يرون أن هوة لا يسهل ردمها تفصلها بالأصل عن الأرثوذكسية، إلاّ إنّهم لا يرفضون الطبّ النفسي. في هذا الإطار، جاءت الكتابات المتعددة التي صدرت عن كتّاب ومرجعيات أرثوذكسية تحت عنوان طبّ النفس الأرثوذكسي لتعالج الخطيئة كحالة وارتباطها بالسقوط، وبوجود المرض ككلّ، والنفسي منه بوجه خاص، كنتيجة لهذا السقوط. أهم هذه الكتب “طبّ النفس الأرثوذكسي” للميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس في اليونان والذي تُرجِم إلى اثني عشر لغة. أما في المقاربة الطبية للموضوع نفسه فنجد كتاب “الطب النفسي الأرثوذكسي” للدكتور الروسي ديمتري أفديف وفيه يصنّف الأمراض النفسية المنتشرة ذات البعد الروحي. يُضاف إلى هذين الكتابين-المقاربتين، الآبائيين بامتياز، عدد لم يعد قليلاً من الدراسات التي تظهِر وضوح التعليم والحدود بين النوس والنفس وتفاعلهما. من جهة أخرى، تتعاطى الكنيسة بحذر مع العلاج النفسي لعدد من الأسباب قد يكون أهمها ندرة الأطباء النفسيين المؤمنين الذين يمسكون بفكر الكنيسة مع طبّهم فيساهمون بحمل الشفاء إلى نفوس المؤمنين.
إلى هذا، يظهِر الواقعُ اليوم أن العلاج الإدراكي (Cognitive therapy) يكتسب تبنيّاً مطّرداً لدى أطباء النفس الأرثوذكسيين أو المهتمّين بهذا الأمر. في ما تبقّى من هذا المقال، سوف يتمّ عرض هذه المدرسة، والتوقف عند علاقتها بالتقليد الأرثوذكسي ومواقف بعض أطباء النفس الأرثوذكسيين منها.
العلاج الإدراكي
في الخمسينيات من القرن الماضي اهتمّ آرون باك، وهو أحد أطباء النفس المتدرّبين على التحليل النفسي، ببحثٍ يهدف لتحسين مهنة العلاج النفسي التي كانت بغالبيتها تقوم على مدرسة فرويد ومتفرعاتها. وكانت الغاية الأولى تقديم دعم اختباري لنظرية التحليل النفسي (Weishaar, 1993). فلكي يمتحن نظرة التحليل النفسي القائلة بأن الإحباط سببه العدائية الموجّهة نحو الداخل، جمّع أحلام عدد من مرضى الإحباط وفسّرها. في بحثه الأوّلي، وجد باك أنّ أحلام المحبَطين تظهرهم دائماً خاسرين، وفي هذا دعم للنظرية التحليلية. لكن متابعة الدرس أظهرَت أنّ أحلام المحبَطين تعكس تفكيرَهم الواعي وليس عدائيتهم الداخلية. من هنا تابع باك دراساته بشكل منهجي حول الإحباط، ما أوصله إلى تطوير العلاج الإدراكي وجعل منه أحد أهمّ أطباء النفس في القرن العشرين. فالبحث المستفيض أثبت صحّة العلاج الإدراكي كنظرية كما أظهر فعاليتَه كتطبيق (The Beck Institute, 1999).
وفي تصنيف دائرة علم النفس العلاجي في الجمعية الأميركية لعلم النفس (NACBT, 2010) أنّ العلاج الإدراكي يتمتّع بدعم اختباري قوي، وقد اختارت الدائرة العلاج الإدراكي على أنّه العلاج المدعوم اختبارياً لاختلالات الإحباط، القلق، الذعر، الرهاب الاجتماعي، اضطراب ما بعد الصدمة (Post-traumatic stress disorder)، والوسواس القهري (Obsessive Compulsive Disorder).
يرتكز العلاج الإدراكي على نموذج الإدراك للاستجابة العاطفية، أي على أنّ الأفكار هي التي تسبب المشاعر والتصرفات، لا الأمور الخارجية، كالناس والأحداث. هذا يعني أن تغيير طريقة التفكير تقود إلى تصرّف أو إحساس أفضل في ظل الشروط نفسها. إلى هذا، فإن العلاج الإدراكي هو من أسرع الطرق وصولاً إلى النتائج. فبحسب دراسات قامت بها الجمعية الوطنية للمعالجين الإدراكيين في الولايات المتّحدة، فإن ما يتطلّب سنوات من العلاج في أشكال أخرى، كمثل التحليل النفسي، لا يحتاج لأكثر من ست عشر جلسة، مع ما تتضمّنه من التمارين، بحسب طريقة العلاج الإدراكي. ويأتي هذا التوفير بالوقت من كون العلاج يقوم على إفهام المريض من البداية أنّ الجلسات سوف تتوقّف عند نقطة ما، بناءً على قرار مشترك يتّخذه المعالِج والمريض معاً. ولهذا، يتطلّب العلاج علاقة إيجابية بين المعالِج والمريض، دون أن تكون هذه العلاقة هدفاً بحد ذاتها. ففيما يعتقد الكثيرون بأنّ المرضى يتحسّنون بفعل العلاقة الإيجابية مع معالجهم، إلا إنّ التحسّن، في العلاج الإدراكي، ينتج من تعلّم المرضى أن يفكّروا بطريقة مختلفة وأن يتصرّفوا على أساس هذا التعلّم. فمحتوى الجلسات هو تعليم المريض المهارات الذكيّة للإرشاد الذاتي (Pretzer & al., 2004). لهذا، يسعى المعالج إلى معرفة ما يريد مريضه من الحياة ويحاول أن يساعده على تحقيقه. فدوره هو أن يستمع ويعلّم ويشجّع، بينما دور المريض هو أن يعبّر عن همومه ويتعلّم وينفّذ ما يتعلّمه (Trader, 2011).
نجاح العلاج الإدراكي
أظهرت دراسات قام بها د. روبرت دوربيس من جامعة بنسلفانيا أنّ 58 بالمئة من مرضى الإحباط تجاوبوا بشكل جيد مع العلاج في فترة ستة عشرة أسبوع، وهي الفترة الضرورية لظهور النتائج الإيجابية لدى المرضى الذين يتعاطون الأدوية المهدئة. لكنّ الفرق يظهر بعد سنة من انتهاء العلاج حيث إمكانية الانتكاس المسجّلة لدى الذين عولجوا بالأدوية هي 76 بالمئة بمقابل 31 بالمئة للذين اتّبعوا برنامج العلاج الإدراكي (DeRubeis & al., 2004).
إلى هذا، تظهر دراسات أخرى أن العلاج الإدراكي فعّال في حالات الإحباط ويُغني كثيراً عن المهدئات وحبوب علاج الإحباط، وتظهر فعاليته بوجه خاص في حالات الإحباط المزمِن، حيث ينخفض معدل الانتكاس، كما أنّ نتائجه إيجابية جداً في حالات الإحباط لدى المراهقين.
وفي الإطار عينه، أظهرت الإحصائيات على موقع Daily Strength، وهي تستند إلى خبرات المشتركين، أنّ نسب النجاح هي 84 بالمئة على عيّنة من 3286 مريض بالإحباط ، و88 بالمئة على عيّنة من 1014 مريض باضطراب ما بعد الصدمة، 86 بالمئة على عيّنة من 829 مريض بالوسواس القهري، 70 بالمئة على عيّنة من 239 مريض بإحباط المراهقين، و95 بالمئة على عيّنة من 142 مصاب بالقلق (Daily Strength, 2010).
العلاج الإدراكي والتحليل النفسي
كما ذكرنا سابقاً، إنّ مؤسس مدرسة العلاج الإدراكي آرون باك خرج من مدرسة التحليل النفسي الفرويدية، وذلك بحثاً عن قرائن اختبارية للنظرية المعتَمَدة في التحليل النفسي، ما يعني أنّه لم يكن مقتنعاً بهذه النظرية التي تفتقد إجمالاً إلى القرائن الاختبارية. فإضافة إلى الفرق الكبير في مدة العلاج، لا بدّ من التوقّف عند المقاربة نفسها في العلاجين. ففيما التحليل النفسي يفترض أنّ الإنسان أسير طفولته وما كبته من الاختبارات والمشاعر، كما أنّه محرّك بالدرجة الأولى بجنسانيته وميوله الجسدية، يقوم العلاج الإدراكي على احترام الشخص وعقله وفكره وحريته وقدرته على التعلّم كما على تطوير هذه المكوّنات والقدرات. من هنا أنّ التحليل النفسي يقوم على عدائية وقَدَريّة محبِطَة بحدّ ذاتها تضعه في مواجهة مع الإيمان، بينما العلاج الإدراكي قائم على الشجاعة والمحبة والإيمان والرجاء (Good, 2010). وبتعبير آخر، يتطلّع التحليل النفسي على الماضي ويركّز عليه، أمّا العلاج الإدراكي فيتطلّع إلى المستقبل.
الأرثوذكس والعلاج الإدراكي
للوهلة الأولى، قد يظهر الكثير من التشابهات بين التقليد الرعائي الآبائي والعلاح الإدراكي. فالإبيستسمولوجيا الأرثوذكسية توحّد بين النظرية والتطبيق، تقابلها العقلانية والتجريبية اللتان تميّزان العلاج الإدراكي. فالحقيقة، إن المسار التجريبي الذي اتّبعه آباء الكنيسة هو عينه يكمن وراء البحث الإدراكي، فالمراقبة السريرية تسبق تكوين النظرية، أو بعبارة أخرى تأتي التجربة ومن ثم يأتي الخطاب العقلاني. من جهة أخرى، يشترك الآباء والمعالجون الإدراكيون بعدد من الأمور منها الاقتناع بوجود حرية محدودة، الادراك بأن الكلمات يمكن أن تكون وسيلة لتغيير السلوك، النظرة إلى الأفكار غير الصحية عن الذات والبيئة والمستقبل كمصدر للمشاكل النفسية، الاعتراف بأن تصحيح الأفكار أو تنقيتها هو البعد التأسيسي للعودة الى الصحة والكمال، وأن لاستعمال العقل دور فعال في تحسين أداء الإنسان، ويشددون على أن أي إنسان قادر على ممارسة السيطرة الشخصية على الأفكار والسلوكيات التي تعزز التغيير في اتجاهٍ صحي (Trader, 2011).
نظراً لأوجه التشابه هذه، ليس من المستغرب أن نجد تزايداً في عدد الأرثوذكسيين المتخصصين في الطب النفسي وفي الوقت عينه هم كهنة رعاةٌ أو متخصصون في اللاهوت. ومن أهم الأمثلة الأب باسيليوس ثارموس (Thermos , 2002) والأب أدامانتيوس أفغوستيذيس (Avgoustidis, 2004) اللذين يوردان أمثلة آبائية على ما يعرف حالياً باسم تقنيات العلاج المعرفي. الأب جورج موريللي أكثر تأكيداً على هذا إذ يشدد على أن “علماء النفس الإدراكيين، باستخدامهم مفرداتهم التقنية الخاصة، يقدّمون الأدلة التجريبية” على عمليات موصوفة في الأدب النسكي. ويذهب أبعد من ذلك إلى استنتاج مفاده أن “التقليد المسيحي الروحي ، بما فيه الصلاة وممارسة الكنيسة والكتاب المقدس وكتابات الآباء الروحية، يفسح المجال لتكامل أنيق مع أساليب العلاج الإدراكي المشار إليها أعلاه” (Morelli, 1996). أمّا لائحة أسماء الأرثوذكس الذين عالجوا وكتبوا على أساس العلاج الإدراكي فهي تزداد طولاً بسبب ما يختبرونه من اتفاق بين هذا العلاج وطب النفس الرعائي، وهذه اللائحة تغطّي كل جنسيات الأرثوذكس، فإلى موريللي وأغوستيذيس في أميركا، أفديف في روسيا، لارشيه في فرنسا (Larchet, 2005)، الآباء ثارموس (Θερμος, 2008) وفيلوثاوس فاروس وإسبيريدون لوغوثاتيس في اليونان، قسطنطين زورين في رومانيا، وغيرهم. أمّا أهم الدراسات في هذا الإطار فهي للراهب الأثوسي الأب الكسي ترايدر، من دير كاراكالو، حيث يتطرّق في كتاب من 367 صفحة إلى كتابات القديسين غريغوريوس بالاماس ويوحنا السلّمي ومرقس الناسك وإيسيخيوس العوسجي، مقارناً إياها بأدب العلاج الإدراكي وذلك “بهدف تخطي النظرة الفرويدية المشكّكة بالدين والقائمة على اعتباره إسقاطاً مضلَلاً للوعي البدائي… على أمل التعرّف إلى حكمة الله الموحّدة في كل من الوحي الإلهي واستعمال المنطق المعطى منه للعقل البشري” (Trader, 2011).
محاذير رعائية
إن النجاح المذكور أعلاه لا يعني أنّ رعاية الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية صارت بألف خير. فالعلاج الإدراكي هو إمكانية يستدعي اللجوءُ إليها الانتباهَ خشية تحويلها عن هدفها الذي هو رفع الألم عن الناس. إلى هذا، قد تؤدّي العشوائية في التعاطي مع هذه الحالات وعدم احترام المنهج العلمي إلى تشويه هذا التكامل القائم مع التعليم الآبائي. لذا ينبغي ألاّ يغيب عن بالنا حقيقتان: أولاً، لم يكن الآباء معالجين نفسيين يعالجون أشخاصاً يعانون من القلق أو الاكتئاب، بل كانوا بشراً يسعون إلى اتباع وصايا المسيح، وإلى اكتساب المحبة التي “لا تطلب لذاتها”، وإلى الوصول إلى الاتحاد مع الله. ثانياً، المعالجون الإدراكيون ليسوا آباء كنسيين يسعون لوصف الانسانية في حالتها المثالية أو للرد على الأسئلة المصيرية، بل هم متخصصون في مجال الصحة العقلية يحاولون الحد من آلام أولئك الذين يعانون من اضطرابات مختلفة حتى يتمكّن هؤلاء المرضى من العمل بشكل أفضل في المجتمع (Chrysostomos & Brecht, 1990)، وممارسة حياتهم بمختلف أوجهها.
خاتمة
إنّ تقييم العلاقة بين التقليد الآبائي الرعائي والعلاج الإدراكي يتطلب مقارنة لوجهات النظر الكامنة وراء كل اتجاه والمكونات التي تشكّل كلّ نهج، لكن الأهمّ من الدراسة الأكاديمية والتقييم النظري هو تقدير نتيجة هذا التفاعل وتأثيره على صحة المتألّمين ومساعدتهم. فمن جهة، تختلف الأنثروبولوجيا الأرثوذكسية، القائمة على الوحي الإلهي بشكل حاد، عن الأنثروبولوجيا الفلسفية الكامنة وراء العلاج الإدراكي. لكن من ناحية أخرى، هناك تشابه مذهل بين العناصر المكونة للعلاج الإدراكي وتلك التي في التقليد الآبائي. من هنا أن المقاربة الواعية أدّت إلى تقبّل عادل ومفيد للعلاج الإدراكي عند الأرثوذكس، كما أدّت إلى تقدير اللاهوت الأرثوذكسي النسكي من قِبَل المعالجين الإدراكيين. وفي الحالتين، أدّى التفاعل الصحّي بين التقليد الرعائي والمعالجين الإدراكيين إلى التخفيف من ألم الكثيرين، مثبّتاً إياهم في كنيستهم، من دون أن أيّ تشكيك بها أو توجيه إلى خارجها.
المراجع
- Avgoustidis , Adamantios G.. (2004) ARE PSYCHIATRIC PRECONCEPTIONS AGAINST PASTORAL CARE SCIENTIFICALLY APPROVED? Scottish Journal of Healthcare Chaplaincy. Vol. 7. No. 1. 2004. Pp 17-20
- Chrysostomos Bishop and Brecht, Thomas. (1990). Jung and the mystical theology of the Eastern Orthodox Church: Comments on common ground. Pastoral Psychology. 38(4). Springer Netherlands. Pp 197-203.
- Daily Strength. (2010). Cognitive Behavioral Therapy. http://www.dailystrength.org/treatments/Cognitive_Behavioral_Therapy
- DeRubeis RJ, Hollon SD, Amsterdam JD, Shelton RC, Young PR, Salomon RM, O’Reardon JP, Lovett ML, Gladis MM, Brown LL, Gallop R. (2005) “Cognitive therapy vs medications in the treatment of moderate to severe depression”. Arch Gen Psychiatry. 62(4). Pp 409-16.
- Thermos , Fr. Vasileios. (2002) “In Search of the Person: True and False Self according to Donald Winnicott and St. Gregory Palamas”. Alexander Press. Montreal, Canada.
- Good, Jennifer J., (2010). “Integration of Spirituality and Cognitive-behavioral Therapy for the Treatment of Depression “. Psychology Dissertations. Paper 55. http://digitalcommons.pcom.edu/psychology_dissertations/55
- Larchet, Jean-Claude. (2005). Mental Disorders & Spiritual Healing: Teachings from the Early Christian East. Sophia Perennis.
- Morelli, G. (1996). Emotion, cognitive treatment, sacred scripture and the church fathers. Paper presented at the annual meeting of the Orthodox Christian Association of Medicine, Psychology & Religion, Brookline, Mass. http://ocampr.files.wordpress.com/2011/03/depression-cognition-and-spirituality-fr-george-morelli-2003.pdf
- National Association of Cognitive-Behavioral Therapists (2010) Cognitive-Behavioral Therapy. http://www.nacbt.org/whatiscbt.htm
- Pretzer James, Fleming Barbara, Simon Karen (2004) Clinical Applications of Cognitive Therapy. Second Edition. Springer.
- Rupke, Stuart J., David Blecke, Marjorie Renfrow. (2006) “Cognitive Therapy for Depression.” American Family Physician. 73.1 (January 2006):83-6.
- The Beck Institute. (1999) “The Beck Institute for Cognitive Therapy and Research” Dr. Aaron T. Beck’s Biography. http://www.beckinstitute.org/
- Trader, Father Alexis . (2011) Ancient Christian Wisdom and Aaron Beck’s Cognitive Therapy. American University Studies. Series VII. Peter Lang Publishing.
- Weishaar, Marjorie. (1993). E. Aaron T. Beck. London: Sage.
- π. Θερμος Βασελειος. (2008) “Ταραγμένη Άνοιξη, Για μια κατανόηση της εφηβείας” (Understanding adolescence.Troubled spring). Δομη Εκδοσεις. Αθήνα. 2008.
- Ρωμανίδου, Ιωαννου Σ. (2004). Πατερική Θεολογία , Εκδόσεις Παρακαταθήκη, 2004
- فلاخوس، الميتروبوليت إيروثيوس. (2009) “في النوس واللاهوت”. التراث الأرثوذكسي. السنة الخامسة العدد الثامن. http://www.orthodoxlegacy.org/Year5/050804Ierotheos.htm