ما هي السعادة؟
نقلها إلى العربية بتصرّف الأب أنطوان ملكي
يتمنى الناس السعادةَ لبعضهم البعض، في مناسبات مختلفة كمثل رأس السنة، لكن ما هي السعادة؟ كيف يمكن تحديدها؟ مفهوم الإنسان المعاصر للسعادة لم يتغيّر منذ الأزمنة الأولى، أي أن السعادة هي في إحراز المزيد من الأشياء المادية والتعاسة هي عندما تأخذ مني ما أملك.
حتى ولو وضعنا جانباً أخلاقية هذا المفهوم، يبقى العيب في جوهره لأن السعادة لا يحملها تكديس الممتلكات أو السلطة أو الصيت أو الملذات. الأشياء المادية عاجزة عن حمل السعادة الحقيقية، وهي لا تحمل إلا الحياة المملّة (taedium vitae) التي من بعدها يغمر الإحباط الإنسانَ بشكل يفوق ما قبلها. من المثير للاهتمام أن نشير إلى أن كلمة “سعادة” (“تيخي” في اليونانية القديمة) نادراً ما تَرِد في العهد القديم الكتاب المقدس، دون أن تَرِد أيّ مرّة في العهد الجديد. التعبير واسع جداً وغير دقيق. والكلمة بحد ذاتها لا معنى لها. بالمقابل، يستعمل الكتاب المقدس عبارة أكثر وضوحاً وتحديداً: “الفرح” (“خارا” في اليونانية القديمة) التي تشكّل السعادة إحدى مكوناتها.
يقول السيد المسيح عن الفرح: “لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ”. وهو أيضاً يشير إلى مصدر هذا الفرح: “إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ” (يوحنا 10:15و11). هنا يكمن الجواب على السؤال الذي منذ الدهور. السعادة الحقيقية، الفرح الحقيقي هو أن نحب الله ونكون معه. هذا ما يؤكّده الرسول بولس بشكل كامل في قوله: “لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ” (روما 17:14). ويضيف يوحنا: ”…ولاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ” (يوحنا 22:16)، ما يعني لا شيء ولا لا أحد، لا العذاب ولا الحرمان ولا الاضطهاد ولا حتّى الموت.
هذا الكلام يفهمه جيداً الذين وجدوا حلاً مع أنفسهم لمسألة البشرية القديمة، والذين وجدوا السعادة: القديسون والذين أرضوا الله في الماضي والحاضر. مع هذا، فإن سلوكهم يحيّر الآخرين. لم يستطع الرومان القدماء أن يفهموا سبب فرح المسيحيين. الوثنيون المعاصرون، وأغلبهم يظنون أنّهم ويسمّون أنفسهم مسيحيين، يسألون السؤال نفسه. تنتشر فكرة عامة عاطفية رومانسية ذات منشأ أوروبي غربي، وهي تُقَدَّم كجواب على هذا السؤال: وهي أنّ في العالم القديم كان للناس فهم محدود لما يجري بعد الموت فكانوا يخافونه، وقد حمل المسيحيون فكرة أن الناس يعيشون بعد الموت وأنّ المسيح قد خلّص الجميع وغفر للجميع ووعدهم بالحياة الأبدية والسعادة في الملكوت، ولهذا السبب كان المسيحيون شديدي الفرح. هذه الفكرة، شائعة بشكل أو بآخر، لكنها تفتقد للدقة بشكل كامل.
بالحقيقة، لم يَعِد المسيح أبداً بالبركة في الملكوت. غالباً ما يورِد تحذيرات مرعِبة: “… هناك يكون البكاء وصرير الأسنان… اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِه” (متى 51:24)، “يمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَاب أَبَدِيٍّ…” (متى 46:25). إلى هذا، الرسول بطرس في كلامه عن خطر العذاب الأبدي الرهيب يذكّرنا بأنّه حتّى الأبرار بالكاد يخلصّّون أنفسهم، وأنّ هذا لا يكون للفجّار والخطأة” (1بطرس 18:4).
فكرة أخرى ذات منشأ بروتستانتي وهي تنتشر بين المسيحيين المتحررين مفادها أنّ المفهوم التعيس عن الحياة بعد الموت وصعوبة الخلاص هو نتاج مرحلة متأخّرة متأثّرة “بالرهبان والنساك الكئيبين العادمي الفرح”، وأنّ في ما قبل ذلك، كان يسيطر على المسيحية “مزاج مبتهج وفهم بأنّ خلاص الإنسان يأتي فقط من لإيمانه بالمسيح”. إن أصحاب هذا المعتَقَد يخترعون لأنفسهم نسختهم من المسيحية لا أساس لها ولا برهان، لا في الإنجيل ولا في الرسائل، ولا في التاريخ المسيحي.
على سبيل المثال، اقرؤوا كتاب “الراعي” لهرماس، وهو كاتب من القرن المسيحي الأول، وسوف ترون كم كان مسيحيو تلك الفترة متطلّبين في ما يختصّ بالخلاص وكما كان فهمهم واضحاً بأن أصغر إشارات العمل غير الأخلاقي تضع الإنسان في خطر الموت الأبدي. كُتِب هذا الكتاب متأثّراً بالكلمات المرعِبة في ما ترنمه الكنيسة عن أن آلام الخاطئ لا تُحصى. وهذا كان ينطبق أيضاً على نقاوة الإيمان والإخلاص للكنيسة.
من هنا، أن وجهة النظر المسيحية قد تبدو أقل إشراقاً بكثير من تلك الوثنية. إن لدى الوثنيين “مملكة من الظلال” بعد الموت، غير محددة بوضوح، ويمكن للإنسان أن يشكّل عنها الكثير من تصورات المختلفة. عند أحد الأطراف، توجد “الحقول الفردوستية (Elysian)” كمملكة يسهل دخولها. وعند الطرف المظلم يوجد مفهوم العدم والدمار الكامل بعد الموت. بحسب سقراط “بما أني لم أتألّم قبل ظهوري على هذه الأرض، يعني أني لن أتألّم عندما أتركها”. إذا قارنا هذا بالصورة المرعبة للعذاب الأبدي والجحيم فسوف نرى أن النظرة المتحررة عن أسباب فرح المسيحيين الأوائل هي غير صحيحة بشكل جوهري. فبرغم ذلك، الفرح المسيحي كان موجوداً وما يزال، وهو يلمَع في كل سطر من سطور سيَر الشهداء والمجاهدين، ويتوهّج في حياة الرهبان والعائلات المسيحية. بالحقيقة، وحده الفرح المسيحي يستحق هذا الاسم. وبقدر ما يكون الإنسان روحياً يكون فرحه أكثر وضوحاً وكمالاً. هذا الفرح، هذه النظرة الزاهية إلى العالم لم يترك المسيحيين الأوائل، حتّى خلال العذاب وعند باب الموت.
ما هو إذاً مصدر هذا الفرح؟ الجواب بالطبع هو الإيمان. لكن ليس كما يفهمه البروتستانت. ليس إيمان شكلياً لا حياة فيه بلا جهاد روحي بطولي (فالشياطين تؤمن وتقشعر)، بل بالأحرى هو إيمان منعِش فاعل يعيش في قلب نقي مستدفئاً بنعمة الله، إيمان متوهّج بمحبة الله ورجاء مدعِّم فيه. يقول أحد الكتّاب المسيحيين المعاصرين أنّه لا يكفي أن نؤمن بالله بل يجب أن نصدّقه أيضاً. كلمات الطِلبة “لنودِع ذواتنا وبعضنا بعضاً وكل حياتنا للمسيح الإله” تصف الإيمان المسيحي بشكل صحيح. إنها إيداع كامل واثق بنوي للذات بين يدي الله. هذا هو ما يفتح، الآن كما في الماضي، أبواب السعادة الحقيقية. إذا وثق المسيحي بالله يكون مستعداً لتقبّل أيّ شيء منه: الملكوت أو الجحيم، الآلام أو التعزية، لأنّه يعرف أنّ الله حسن بشكل لامتناهٍ. إنّه يعاقبنا لخيرنا. إنّه يحبنا كثيراً حتّى أنّه مستعد أن ينقل السماء والأرض ليخلّصنا. إنه لا يخدعنا، ولا لأي سبب، وسوف يخلصنا بأي شكل. يعبّر القديس أوغسطين عن ذلك بالقول: “الملاذ الوحيد من غضب الله هو عطفه”.
مع هذا النوع من الفهم، يسكن الفرح والنور بشكل راسخ في قلب المسيحي، ولا يبقى مكان للغمّ. العالم، هذا الكون غير المحدود، هو لله إلهي. ما من حَدَث، من الأصغر إلى الأعظم، ممكن أن يتمّ من دون إرادته، وهو يحبني بشكل لامتناهٍ. حتّآ هنا على الأرض، هو يسمح لي بدخول ملكوته، كنيسته المقدسة. هو لن يطردني أبداً من ملكوته طالماً أنا مخلص له. فوق هذا، إذا سقطتُ يرفعني ما أن أدرك خطيئتي وأذرف دموع التوبة. لهذا أنا أثق بأن خلاصي وخلاص كل الناس، ليس فقط مَن أحب، هو في يدي الله.
الموت لا يُرعِب، فقد غلبه المسيح. الجحيم والعذاب الأبدي ينتظران أولئك الذين بوعي وبإرادة حرّة تحوّلوا عن الله، الذين يفضّلون ظلام الخطيئة على نور محبته. الفرح والبركة الأبدية ينتظران المؤمنين “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (1كورنثوس 9:2). فليساعدنا الله الكلي الرحمة على بلوغ الثقة الكاملة به. وليجددنا نحن الضارعين إليه!