التعليم الآبائي عن سر الثالوث
الأب جورج عطية
من أمالي مادة العقائد
سر الثالوث الأقدس الذي تؤمن به الكنيسة لم يكن اذاً نتاج فكر بشري ولا حصيلة تأثيرات دينية أو فلسفية خارجية متأخرة، وإنما كان أساس بشارة الرسل ذاتها التي عاشوها ونقلوها هم أنفسهم كخبرة تأله وحياة الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي الآب ومع ابنه يسوع. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملا (1يو3:1-4).
1 – تعليم كنيسة القرون الأولى:
دليلنا على هذا الكلام ليس فقط آيات الكتاب المقدّس التي قدّمت نماذج عنها، بل أيضاً كل ما وصل إلينا من تعليم كنسي خلال القرون الأولى.
أ – دساتير الإيمان القديمة:
وهي الصيغ المختصرة التي كان يلفظها الذين كانوا يتقدّمون من سر العماد المقدّس أو الذين كانوا يريدون أن يعبّروا بطريقة أو بأخرى عن إيمانهم المسيحي. وبالرغم من كثرة الدساتير بسبب تعدد الكنائس، إلاّ أن هناك قاسماً واحداً مشتركاً يجمع بينها وهو الإيمان بالثالوث الأقدس والخلاص بيسوع المسيح. أقدم هذه الدساتير التي وصلت إلينا الدستور الرسولي والدستور الأثناسيوسي.
ب – أسرار وعبادة الكنيسة الأولى
كانت المعمودية تمنح من أقدم العهد “باسم الآب والإبن والروح القدس” بشهادة كتاب تعليم الرسل الإثني عشر وآباء أولين – مثل يوستينوس وايريناوس وترتليانوس. لا بل أن طريقة التعميد بالتغطيس ثلاثاً تدل على هذا الإيمان. لأن كل غطسة كانت تصير باسم أحد الأقانيم الإلهية. أمّا بخصوص العبادة فأهم ما كان يميّزها “التمجيد” الذي كان يرفع للثالوث الأقدس. أقدم هذه التمجيدات المعروفة صيغة “المجد للآب والابن والروح القدس” ونشيد الغروب “يا نوراً بهياً”.
ج – إعترافات شهداء قبل موتهم
من بين هذه الإعترافات التي وصلت إلينا والتي نشهد عن إيمان الشهداء الراسخ بالثالوث صلاة القديس بوليكاريوس (أسقف أزمير) الموجهة الى الآب قبل أن يحرق حياً “أمدحك من أجل هذه النعمة ومن أجل كل شيء، وأباركك وأمجدك بواسطة رئيس كهنتك الأبدي والسماوي يسوع المسيح ابنك الوحيد الذي لك معه ومع الروح القدس المجد من الآن والى دهر الدهور آمين”.
د – آباء الكنيسة الأولى
من الطبيعي أن يستمر تعبير الكنيسة عن إيمانها بالثالوث الأقدس بعد الرسل من خلال بشارة وكتابة آبائها الرسوليين. من بين مؤلفات هؤلاء الآباء والتي تتسّم بالبساطة، وصلت إلينا رسالة القديس (اقليمندس الروماني) الى أهل كورنثوس والتي يقول فيها “أليس لنا إله واحد ومسيح واحد وروح قدس واحد انسكب علينا” (46: 6). كذلك من بين الإشارات الكثيرة للثالوث والتي وردت في رسائل القديس أغناطيوس الإنطاكي نذكر “حاولوا أن تتبعوا في عقائد الرب والرسل حتى تنجحوا في أفعالكم في الجسد والروح في الإيمان والمحبة في الآب والإبن والروح القدس” مغنيسية 13: 1.
- أما الآباء المدافعون: فقد اضطروا أن يتكلموا أكثر عن سر الثالوث لكي يدافعوا عن المسيحية ويدحضوا الهرطقات. فأشاروا بصورة خاصة الى الكلمة الإلهي وعلاقته بخلق العالم. لكن عباراتهم اتسمت أحياناً بعدم الدقّة. وذلك بسبب عدم الإتفاق النهائي في ذلك الحين على الإصطلاحات التي يمكن من خلالها التعبير عن الأسرار الإلهية. فمثلاً: يدحض (اثيناغوراس) تهمة الإلحاد الموجهة الى المسيحيين قائلاً: كيف يدعى ملحدين الذين يعترفون (بالله الآب والله الإبن والروح القدس) ويقرون بقدرتهم في الوحدة (وحدة الجوهر) وبتمايزهم في النظام.
- في حين يهاجم (ايريناوس) ثنائية الغنوسيس معلناً أنه يوجد إله واحد فقط كلي القدرة الذي خلق الكل بواسطة كلمته وروحه.
وعموماً وإن كان قد ظهرت أحياناً لدى الآباء المدافعين نزعة تعبّر عن عدم مساواة بين الأقانيم كخضوع الإبن للآب فهذا يمكن تفسيره أما من باب التشديد على كون الآب في الثالوث هو المصدر والمبدأ، وأما للرغبة في دحض تطرف الهراطقة الذين كانوا يشددون على وحدانية أقنوم الله مثل الصابليوسيين. وقد ازداد اهتمام الآباء بإيجاد التعابير المناسبة لشرح سر الثالوث الأقدس مع نمو الهرطقات المضادة لهذا السر كالمنارخيين الذين أنكروا حقيقة الأقانيم، والأريوسيين وأعداء الروح القدس الذين هاجموا وحدتها في الجوهر وقد برز بصورة خاصة ضد المونارخيين ترتليانوس والقديس غريغوريوس العجائبي وديونيسيوس بابا رومية. بينما لمع في دفاعهم ضد الآريوسيين القديسون اثناسيوس الكبير والكبادوكيون الثلاثة (باسيليوس وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصصي) وايلاريوس أسقف بواتييه (Poitiers + 367) والقديس امبروسيوس وتلميذه أوغسطينوس.
2 – الإصطلاحات المتعلقة بسر الثالوث (Η Αγια Τριας)
إنه لمن المستحيل أن نعبّر بلغتنا البشرية المخلوقة والقاصرة عن سر الثالوث الفائق على كل إدراك وتعبير. ومع ذلك كان لا بد بسبب الهرطقات التي نمت غالباً في أجواء فلسفية من أن تحارَب بسلاحها. فتستخدم كلمات كانت لها سابقاً معانٍ معينة لتحمل الآن معان جديدة يتفق عليها. فتكون بمثابة السدود المحددة لسريان طوفان البدع. وكما هو معروف فاصطلاح ثالوث (Τριας) نفسه لم يرد في الكتاب المقدس. وكان أول من استخدمه من الآباء في الشرق ثيوفيلوس الإنطاكي (185+) أما الكلمة التي تقابلها باللاتينية وهي Trinitas فكان ترتليانوس (220+) أول من استخدمها.
يمكن تقسيم الإصطلاحات المختصة بسر الثالوث الى نوعين:
- ما له علاقة بالجوهر الإلهي.
- ما له علاقة بالأقانيم الإلهية.
وبديهي جداً أن هذه المصطلحات لم تُقبل في البداية بسهولة، بل أثار تداولها عاصفة من سوء التفاهم. لأن ما كان يعتبر عند البعض له علاقة بالجوهر فُهم عند البعض الآخر كمختص بالأقانيم، والعكس بالعكس، ولهذا احتاج الأمر الى وقت طويل حتى تمّ الإتفاق نهائياً بين الآباء على التحديدات الدقيقة التي يحملها كل منها.
أ – الإصطلاحات التي تشير الى وحدة الجوهر الإلهي:
- جوهر (ουσια): تعنى قاعدة او أساس حقيقة ما، أي هي ما يجعل شيئاً ما أن يكون هو نفسه وليس شيئاً آخر مثلاً جوهر الإنسان هو في كونه حيواناً عاقلاً.
- وقد استُعمل هذا الإصطلاح في الفلسفة الإغريقية بصورة خاصة عند أرسطو وقد ورد بمعنيين:
أ – جوهر فعلي ما، أي وجود فردي ما. موضوع ما لخبرة مباشرة مثلاً: فلان شخص بشري ما، أي حنا، سعيد، وهذا ما يسميه أرسطو الوجود الأول (πρωτη ουσια).
ب – وجود مجرّد، طبيعة خاصة محققة في أفراد كثيرين من هذا النوع أي ما هو عام في الجميع مثال إنسان، حيوان. وهذا ما يسميه أرسطو جوهراً ثانياً (δευτερα ουσια).
- فلو طبّق الآباء القديسون كلمة جوهر (ουσια) بالمعنى الأول على الثالوث لوجب أن يقولوا بأنه يوجد ثلاثة آلهة. ولو طبقوها بالمعنى الثاني لوجب القول أن الوجود الإلهي موزّع بين ثلاثة أشخاص. لكنهم فضلوا أن يكونوا مينين للإعلان الإلهي ويضربوا عرض الحائط بالمفاهيم الفلسفية معبّرين عن الثالوث الأقدس بجهالة الحكمة، فقالوا أنه لا يوجد ثلاثة آلهة بل إله واحد في أقانيم ثلاثة وليس عند الأقنوم الكيان الإلهي موزعاً ولا مكرراً كما عند الأفراد البشريين ولا هو أكبر ذاته عند واحد مما هو عند الآخرين ولا حتى أصغر مما ه عند الثلاثة معاً لأن لكل من الأقانيم الثلاثة الجوهر الواحد والذي ليس مقسّماً فيما بينها. من هنا فوحدة الثالوث وحدة حقيقية عملية وليست مجردة كما عند البشر. إذا في الله يوجد جوهر وحيد هو بالذات الألوهة، وهنا الكيان أو الجوهر هو كامل في كل واحد من الأقانيم الثلاثة.
كلمة (ομοουσιος) والتي هي تعبير منشق من كلمة (ομο) تُظهر ليس فقط أن الكيان الإلهي مشترك بين ثلاثة أقانيم بل أيضاً وحدة هذا الكيان الذي هو واحد وحيد، إذ يوجد كيان الآب بكليته في الإبن وفي الروح القدس لكن كلمة (ομοουσιος) لا تُظهر فقط الوحدة بل التمايز أيضاً، لأنها تعبر كذلك عن وجود شخص يتحد مع آخر في الجوهر.
ولقد مرّت فترة عبّر فيها البعض عن جوهر أو كيان الله بكلمتين (ουσια و υποστασις) دون تمييز. وكان من الذين لم يميزوا في البداية بين هاتين الكلمتين، القديسان أثناسيوس الكبير وابيفانيوس ووحتى المجمع المسكوني الأول ذاته، لكن مع الوقت صارت كلمة υποστασις معتبرة عند الأغلبية في الشرق كأقنوم. ولهذا حدث كثير من الإشكال في هذا الموضوع لأن الغربيين كانوا يفهمون هذه الكلمة بمعنى الجوهر.إذ ترجموها بكلمة substantia ولهذا اتهموا اليونان الذين تكلموا عن ثلاثة (υποστασεις) بالآريوسية لإعتقادهم أنهم يتكلمون عن ثلاثة جواهر. وكانت الكنيسة لصالح الكنيسة الجامعة إذ تنبه الآباء لضرورة تحديد وتوضيح معاني الإصطلاحات الثالوثية. وكان من ضمن التدابير التي اتخذوها عقدهم لمجمع سنة 362 في الإسكندرية توصلوا فيه الى الإعلان عن تطابق الإيمان بالثالوث في الشرق والغرب بالرغم من استعمال ممثلي كل منهما اصطلاحات بمدلولات مختلفة. إذاً فالحقيقة التي يعبر عنها الشرقيون بقولهم جوهر واحد (ουσια) وثلاثة أقانيم υποστασειςهي ذاتها التي يعبر عنها الغربيون بـ(substantia) والتي تترجم حرفيا بـ (υποστασεις) وثلاثة أشخاص (Persoane) والتي تترجم حرفياً بـ (υποστασις).
أبرز الذين ساهموا في توضيح الفرق بين (ουσια و υποστασις) كان الكبادوكيون الثلاثة وعلى رأسهم القديس باسيليوس الكبير في رسالته التي وجهها الى أخيه غريغوريوس النيصصي، أظهر فيها أن (ουσια) هي قاعدة الطبيعة الإنسانية لأشخاص كثر، بينما (υποστασις) هي الفرد القائم بحد ذاته أي بطرس، بولس… ثم بيّن كذلك الإختلاف بين البشر والثالوث في تطبيق هذه الإصطلاحات… وهكذا مع الزمن صارت الـ (ουσια) إصطلاحاً يخص الجوهر والكيان الإلهي، بينما الـ (υποστασις) تعني الأقنوم أو الشخص.
“substantia” (اللاتينية):
تعتبر في الغرب مطابقة لفحوى إصطلاح (ουσια) كما رأينا. هذه الكلمة في الأساس لها معنيان:
- القاعدة التي تستند عليها الخواص أو التي فيها مجزرة، وهو ما يوافق تركيبها اللغوي الحرفي (تقف تحت) أو الذي يقف في الأساس أو في الجذور أو في القاعدة، وهو أيضاً ما يقابل حرفياً (υποστασις) اليونانية.
- المعنى الثاني هو الجوهر الذي يوجد في شيء قائم بذاته من أجل ذاته.
“natura” المقابلة لـ (Φυσις) (طبيعة):
اعتبر هذا الإصطلاح متماثلاً في أكثر الأحيان مع الجوهر ولهذا فـ natura أو essentia أو substantia هي المادة التي يتألف منها ما هو واقع وحقيقي مثال: الخشب هو المادة التي صنعت منها المنضدة. إذا فالطبيعة هي ما هو عام لكل الأفراد أو الأشياء من هذا النوع أو الصنف على وجه التحديد الطبيعة هي الجوهر ذاته لأنها معتبرة موضوع الخواص أو المبدأ الداخلي المحدد للأشياء.
ب – الإصطلاحات التي تشير الى الأقانيم الإلهية:
- Προσωπον – personae
- υποστασις
- υποστασις: تعني الجوهر الذي ليس جزءاً من مجموع (كرجل، يد…) بل الجوهر الفرد التام الموجود في ذاته ومن أجل ذاته، موجود في ذاته يعني أنه مختلف عن أي (υποστασις) آخر. أو هو طبيعة في صورة فردية قائمة بحد ذاتها. بإختصار هو الطريقة التي توجد فيها الطبيعة أو موضوع حامل الطبيعة.
- Προσωπον: يعني شخصاً من طبيعة عقلانية مثال نبيل، أسعد… أو وجود مستقل للطبيعة العقلانية.
وفي حين أن (υποστασις) هو إسم عام لكل الموجودات الفردية إن كانت عاقلة أو غير عاقلة فالشخص (Προσωπον) يحوي عنصري الفردية والعقلانية معاً. أو يمكن القول أنه وجود فردي لطبيعة عقلانية. ويعرّف الدمشقي الـ Προσωπον بأنه الموضوع الذي يعبّر عن ذاته بأعماله وخواصه فيتميز عن كيانات أخرى من الطبيعة ذاتها، ولهذا يمكن القول أن الشخص عنده وعي لذاته، قوة أن يقرر، وإرادة أن يكوّن شركة مع أشخاص آخرين. أو بعبارة مختصرة عنده فكر وإرادة ومحبة. وبالنسبة للثالوث الأقدس فلا يفرّق القديس باسيليوس أو أكثر الآباء القديسين بين إصطلاحي Προσωπον والـυποστασις.