إضطهاد وموت الأب مكسيم ساندوفيتش
شهيد الأرثوذكسية الكرباثو – روسية في القرن العشرين
نقلها إلى العربية الأب اثناسيوس بركات
ملاحظة: كارباثوروسيا هي منطقة تقع اليوم حيث تلتقي أوكرانيا وسلوفاكيا وبولندا. كانت تتمتع في وقت ما بالاستقلال ولكنها كانت عرضة دائماً للاجتياحات بحكم موقعها. أصلاً كانت أرثوذكسية ولكن الأرثوذكس كانوا يتناقصون مع كل اجتياح. غاليشيا هي تاريخياً جزء من بولندا، كانت تسمّى في الماضي بولندا الصغرى. تعرّضت منذ أواخر القرن الثامن عشر للهجمات الهنغارية والنمساوية والتي كانت تحمل معها دوماً فرضاً للكثلكة على الشعب، الذي لم يزل إلى اليوم البعض منه يحافظ على ارثوذكسيته. (المترجم)
للحركة الأرثوذكسية في روسيا الكرواتية أسباب وجذور كثيرة. لم يبدأ الاتحاد السيئ الذكر مع روما من الأوساط الشعبية، لكنه فُرِضَ بسبب كيد بعض الرعاع وقلّة من الإكليروس الذين كانوا يرغبون بالحقوق الإقطاعية نفسها التي كان يتمتع بها نظراؤهم الكاثوليك. وهكذا قامت هاتان الطبقتان من الناس بخيانة الأرثوذكس من المؤمنين والأمراء؟ ناضلت كلا الطائفتين بالسيف والنار، لكن حتى وبعد انتصار الإتحادية (الأرثوذكس الذين تخلّوا عنأرثوذكسيتهم وتبعوا روما)، لم تصر الأرثوذكسية سريعاً طيّ النسيان. حافظ الاتحاديون بكل دقة على الطقوس الأرثوذكسية الشرقية وذلك من أجل ضبط التأثير الكاثوليكي والمضي في خداع الناس، آخذين بعين الاعتبار بأن الليتنة البطيئة والتدريجية ستكون، على المدى الطويل، أكثر نجاحاً من القيام بفرض الطقس الروماني برمته. إضافة لذلك فإن ميل الشعب إلى الثقافة الكارباثو-روسية أي في الاتجاه الروسي السائد، التي عبّرت عن نفسها من خلال تعاطف جليّ مع روسيا وكل ما هو روسي، هذا الميل لم يُستَطَع إخماده حتى في المجال الديني. لم تكن الاتحادية في أعين أهالي كاليشيا والكارباثو-روس سوى أداة وطريقة استُخدمت لتقطيع أوصال العائلة الروسية الواحدة، فوجهوا أنظارهم نحو الأرثوذكسية بوصفها الإيمان القديم والأصيل للشعب عندما كانت روسيا المقدسة واحدة. هذا الميل الروسي بامتياز كان عنصراً حاسماً في مقاومة الكارباثو-روس ضد الموجة الأوكرانية التي اختُرعت بشكل اصطناعي من قِبَل الألمان كسلاح ضد الحركة السلافية التي هددت سيطرتهم على المنطقة. حتى من بين الإكليروس الكارباثو-روس الاتحاديين الذي كان هناك تعاطف مع الأرثوذكسية. كانت هذه التعاطفات حادة لدرجة أن مفهوم الكثلكة اعتُبر نوعاً من الهرطقة. وقد انحصر مفهومهم للاتحاد بمجرد الاعتراف الحقوقي أو القضائي بأولوية بابا رومية.
كانت التعاطفات الأرثوذكسية من خصائص شعب الكارباثو-روسي، وبقدر أقل الغاليشيين. بعد أن تنبهت السلطات إلى تنامي هذه التعاطف، واستنتجت بحق أن هذا التنامي كان موجّهاً نحو إعادة العلاقات مع روسيا، قامت السلطات النمساوية-الهنغارية بإبادة واستئصال العصيان “الروسي”. فُرِضَ قمعٌ لم يسبق له مثيل على الاكليروس محبي روسيا أكانوا إتحاديين أم أرثوذكس. امتلأت المنطقة بجيوش من المخبرين. لم يكونوا فقط من الدرك أو موظفي القرى ومخاتيرها، بل أيضاً، من الأساتذة وبعض الإكليروس الذي كانوا يشون (من وشى) بجيرانهم. بلغ هذا الأمر حداً لدرجة أن في بعض المناطق تمّت توقيفات كثيفة لكامل الطبقة المثقفة من إكليروس، محامين، قضاة، معلّمين، تلامذة المدارس الثانوية والجامعات، إضافة الى الفلاحين. وسرعان ما غصّت السجون بالمتّهمين بالخيانة العظمى.
تطبيقاً لتعليمات صادرة من فيينّا، وبسبب الخشية من تنامي الأرثوذكسية، قام ميتروبوليت لفوف Lvov الاتحادي بتغيير سياسته الكنسية وعزلها عن كل ما هو روسي أو أرثوذكسي. تم تلفيق طقس أوكراني إتحادي يخالف بوضوح الطقس الأرثوذكسي. وكذلك تم إسقاط أسماء القديسين، المُكرَّمين خاصّةً في روسيا، من التقويم. أيضاً ألغي تكريم الأيقونات العجائبية للسيدة الفائقة القداسة التي أظهرت نفسها في روسيا (مثل أيقونات الايفيرون – سيدة قازان وبوشاييف Pochaev). استُبدلت عبارة “أرثوذكسي” في الخدم المقدسة بعبارة “كاثوليكي”. رُفض المرشحون لدخول المعاهد اللاهوتيّة الاتحادية الذين كان مشكوكاً بأنهم يخفون حبهم للروسية، واقتصر القبول، حصرياً، على من كانوا أوكرانيين بالمظهر، فكان يتمّ إعدادهم عن طريق إعترافهم خطيّاً بقَسَم يحوي كرهاً لروسيا.
على امتداد الإقليم الكارباثي أُقفلت الرعايا بجَيَشان مُروِّع. خُلع الكهنة الإتحاديون الميالون إلى روسيا من مراكزهم، ثم رُميت عائلاتهم في الشوارع، فكانت لقلّة الجرأة على تحدّي السلطات بإيواء من أصبح بلا مأوى. سُلّمت الرعايا إلى كهنة حديثي الرسامة كانوا قد تلقّوا علومهم عن طريق يسوعيي الكليّة الباسيليّة. عُهد بأمر فرض الطقوس الأوكرانية الاتحادية إلى رهبان ذوي ثقافة يسوعية حول قانون القديس باسيليوس الكبير. لكن، رغم أن الحياة بلغت حداً من الصعوبة فيما يخص الكهنة الاتحاديين محبي لروسيا، إلاّ أنها كانت أسوأ بالنسبة للقلّة من الكهنة الأرثوذكسيين وعائلاتهم. سوف نتطرّق إلى قصة الأب مكسيم ساندوفيتش الطيب الذكر.
***وُلد الأب مكسيم في غاليسيا Galicia التابعة لمقاطعة هورليتسكي، هو ابن لمزارع ناجح خدم كقائد للجوقة في رعية الكنيسة المحلية. بعد أن أنهى السنوات الأربع في الثانوية، تسلل مكسيم عبر الحدود إلى روسيا ودخل كمبتدئ في لافرا بوشاييف الكبير في فولينيا. وبالتالي داوم في معهد اللاهوت الأرثوكسي في زيتومير Zhitomir. لكنه عاد وتزوّج من صبية أرثوذكسية تدعى بيلاجيا. رُسم سنة ١٩١١ كاهناً لله العلي ثم عاد الى بلاده. لم تدم خدمته الرعائية التبشيرية طويلاً، ذلك لأن الميليشيا كانت دائمة اليقظة. وُشي به من قبل معلّم أوكراني يدعى ليو، فاقتاده الدرك النمساوي بالقوة مغلولاً الى السجن في لفوف سنة ١٩١٢. كان ليتلاشى وَهَناً في السجن دون محاكمة أو استجواب امدّة سنتين تحمّل خلالهما ظروفاً رهيبة لا توصف من الاضطهاد والتعسّف. أخيراً، في عشية الحرب العالمية الأولى، أُطلق سراحه لعدم ثبوت التُهم عليه.
عاد الأب مكسيم، ثانية، الى بلدته هارب Harb، لكن لم يكن مُقدّراً له أن يبقى هناك طويلاً. كانت أولى طلقات الحرب نذير قمع جديد للكارباثوروس محبّي روسيا. في الرابع من آب سنة ١٩١٤، قامت الميليشيا بتوقيف الكاهن الفتي إضافة الى أمّه، أبيه، أخيه وخوريّته وذلك بعد تعسّف، إذ قاموا بجرّهم مُكبّلين بالأغلال الى سجن المقاطعة في هولبيتسك. كانت الطريق قاسية جداً فكان السجناء يُجبرون عن التنقل سيراً على الأقدام، ويتمّ حثّهم على التقدّم بحراب الدرك. لا تستطيع الكلمات أن تصف لنا عذاب عائلة ساندوفيتش البريئة.
مرّ يومان في السجن حتى حلّ فجر الأحد في السادس من آب. بعد قيامه من السرير بسبب سوء وضع مكان المنامة، تلا الأب مكسيم صلواته الصباحية قبل طلوع النور إضافة إلى ثلاثة قوانين تضرعية. ثم وقف بدون حراك غارقاً في أفكاره متفرّساً من خلال نافذة زنزانته الصغيرة نحو الخارج، محاولاً أن يلمح زوجته أو أحد أقربائه. لقد كانوا جميعاً سجناء في زنزانات مختلفة ولا يُسمَح لهم برؤية بعضهم. كان للبناء المظلم صمت القبور، لكن، خلف الجدران، كان بالإمكان سماع ضجيج مجموعة من الناس.
بمَ يُنذر هذا؟ ربما كانوا قد جلبوا بعض “الجواسيس”؟ من الممكن أن يكونوا قد قبضوا على جنود فارّين من أهوال الحرب لأن الكثيرين لم يستطيعوا تحمّلها. كان الوقت قبل السادسة بقليل حين قطع حبلَ أفكار الكاهن صوتُ ارتطام قويّ على بوابات السجن السوداء. كان هذا ديتريخ، نقيب ألماني من لينز، رجلاً اشتهر بالعنف والسادية قد دخل الى مجمّع السجن يصحبه جنديان وأربعة دركيين. كان يتبعهم مباشرة آمرو السجن، عدّة خدام مدنيين، ضباط ومجموعة صغيرة من السيّدات الفضوليّات. كان يقود هذه الحاشيةَ ستاروستا ميتشكا قاضي مقاطعة هوليتسكي. أُعطي الأمر لآمر السجن بجلب الأب مكسيم من زنزانته.
حلّ السكون. قاد جنديان الكاهن الأرثوذكسي، ذا الثمانية والعشرين عاماً، من السجن. فجأة أيقن الى أين يأخذونه. “كونوا لطيفين فلا تحملاني. سوف أذهب بسلام أينما تريدان”، قالها بتواضع وكرامة مَن أصبح راعياً حقيقياً للنفوس. كان يسسر نحو الفصل الأخير من عذاباته. لم تنل دمدمات الجمع ونظراته الحاقدة ولو بأقل تقدير، من شجاعة “الخائن” وصبره. مشى، كما يليق بخادم المسيح، بهدوء وبخطوات متّزنة نحو الجدار المشؤوم.
ساد السكون ثانية. سيتمّ تنفيذ حكم الإعدام باسم الأمبراطور “الرسولي”. إعدام كاهن روسي على أرض روسيّة! انتزع النقيبُ ديتريخ، بطل ذلك اليوم، الصليبَ عن صدر الأب مكسيم رامياً إيّاهُ على الأرض أمام أقدام الكاهن ودائساً إياه بقدمه. ثمّ قام بتكبيل يديّ السجين وراء ظهره وربط عينيه بمنديل أسود. “عبثاً تقوم بذلك، فليس لديّ النيّة بالهرب”. ضحك النقيب بطريقة شيطانيّة ورسم بالطبشور علامة على صدر الكاهن فوق غنبازه الأسود كهدف للرُماة. ثمّ أوقف الجلاّدين بشكل منتظم – دركيَين في كلّ جهة. وقف الجنديان المدجّجان بالسلاح على بعد ثلاثة خطوات من الرجل الذي لا حول له.
حلّ على المشهد سكون إضافي تامّ. أخرج ستاروستا ميتشكا ورقة زرقاء من محفظته وتلا حكم الموت. لفظ النقيب أمراً سريعاً، رُفع السيف الى أعلى، وعندما أُنزل، سُمع صوت طلقات البنادق. تردّدت أصداء الطلقات في أرجاء ممرات السجن ثمّ حلّ السكون. اجتاح السكون أيضاً باحة السجن. وعبر هذا الصمت سُمع صوت الأب مكسيم واضحاً: “يحيا الشعب الروسي”! أطلق هذه الصرخة مائلاً برأسه نحو حائط السجن. “يحيا الإيمان الأرثوذكسي المقدّس”. أكمل، ثم أصبح صوته أضعف. “تحيا السلافيّة” أنهاها بصوت لا يكاد يّسمع. كانت تلك كلماته الأخيرة. انزلقت هامته الجبّارة على الحائط منهارة بتأثير رصاصات الموت ومستقّرة على بلاط الباحة. اقترب أحد الدركيين وأنهى عذاب الكاهن بثلاث طلقات من مسدسه، فلطّخ نخاع الكاهن جدار السجن. كان كلٌّ من والده ووالدته المسنين يُشاهد بصمت موت ابنهم البطولي، إلاّ أنّ بيلاجيا زوجته كانت تنتحب بيأس في زنزانتها، وعندما دوى صوت الطلقات التي جلبت نهاية زوجها الشاب، سقطت على الأرض فاقدة الوعي.
وهكذا مات الأب مكسيم ساندوفيتش، الشهيد الجديد للأرثوذكسيّة المقدّسة.