مختارات من سير مباركة – 1
إعداد راهبات دير مار يعقوب – دده
في هيكل الأصنام
سمع مرّة القدّيس دانيال العامودي (409-493) البعض يتحدّثون عن معبد للأصنام تقطنه الشّياطين في منطقة قريبة منه، وإنّ هؤلاء الأبالسة ألحقت بالمنطقة أضراراً بالغة، فلم يكن يجسر أحد من السّكّان أن يمرّ بالمعبد لا نهاراً ولا ليلاً حتى قنط هؤلاء من طردهم واستكانوا لوجودهم.
عرف القدّيس بتوجّعهم وآلامهم ومخاوفهم، فراح يفكّر كيف يستطيع أن ينجدهم. تذكّر القدّيس أنطونيوس الكبير وكم تحمّل من هجومات الشّياطين وكيف انتصر عليهم في النّهاية. فدعا أحدهم وأخذ يستخبر منه عن المعبد وما بداخله ثم طلب منه أن يدلّه على مدخله.
وعندما وصل البار إلى المكان الخطر تظاهر بأنّه أحد المحارِبين، فدخل المعبد دون خوف متسلّحاً بكلمات صاحب المزامير: ” الرّبّ نوري ومخلّصي فممن أخاف. الرّبّ عاضد حياتي فممن أخشى.. “. (مز1:26) ثم راح يتجوّل داخل المعبد وهو يرسم إشارة الصّليب ويسجد مصلّياً في كلّ زاوية منه.
ولمّا حلّ الليل إذا به يسمع ضربات قويّة وضجة أناس كثيري العدد، فبقي لابثاً دون حراك يصلّي.
وفي الليلة الثّانية عادت الضّربات أيضاً وبقي هو على نفس الوضع مصلّياً. وفي الليلة الثّالثة أراد أن ينام قليلاً، فإذا به يشاهد أثناء غفوته جماعة سوداء تقترب منه وتصيح: ” من أرسلك إلى هذا المكان أيّها البائس الشّقي لتستحلّه. أتريد أن تلقى موتاًشنيعاً كما صادف غيرك؟ سوف نجرّك لنلقيك في النهر فتموت غرقاً “. بينما راحت جماعة أخرى ترجمه بالحجارة بغية سحقه بها. استيقظ جندي المسيح وراح يتجوّل من جديد في أطراف المعبد مرتّلاً ومسبّحاً الرّبّ ومستهزئاً بالشّياطين بلهجة متوعّدة: “هيّا ارحلوا بسرعة قبل أن يفوتكم الوقت. ستنزل نار من صليب المسيح لتحرقكم، فارحلوا قبل فوات الأوان “.
راحت الشّياطين تزيد من هجماتها، بينما بقي القدّيس هائداً بدون حراك داخل المعبد رافعاً يديه مصلّياً.
سمع أهل المنطقة وتعجّبوا مما يحدث، فاتّجهوا بأجمعهم كباراً وصغاراً ليروا بأمّ العين كيف أن هذا المكان الشّديد الخطورة قد أصبح مكاناً هادئاً، وكيف في هذا المكان بالذّات صار يتمجّد اسم الرّبّ، بينما كان لوقت قصير مسرحاً ترقص عليه الشّياطين ومرتعاً للأرواح الخبيثة. سمعوا جماعة الشّياطين تهدد رجل الله صارخة: ” إنّ هذا المكان هو لنا منذ أعوام طويلة، فاهرب أنت منه قبل أن نقطّعك إرباً “. وآخرون منهم كانوا يتوعّدون: “لا بل سنلقيك في النهر… “. وفعلاً أحسّ البار بأنّ الشّياطين تجرّه بقدميه، فلم يضطّرب، بل أخذ يصلّي بقوّة صارخاً في وجههم: “إنّ المسيح هو مخلّصي وسوف يغرّقكم الآن بقوّة يمينه في الهاوية السّفلى المريعة “. وللحال سُمعت صرخات مدوّية مخيفة، واختفى فجأة بعدها الأعداء المظلمون.
نعم، إنّ صلاة وتهديد القدّيس طردهم بعيداً عن مكانهم. وهكذا تخلّصت المنطقة من شرهم وجورهم.
X X X
القدّيس يوحنّا الخوزيبي
روماني الأصل. لم يُذكر شيء عن مكان أو تاريخ مولده. جلّ ما نعرف أنّه أُعطي اسم إيليّا في المعموديّة. تيتّم باكراً. ربّته جدّته وساهمت في تأمين متابعة علومه. بعد وفاة جدّته، احتضنه عمّه الذي كان أباً لعائلة كبيرة. في وسط هذه العائلة عاش يوحنّا. عانى من البؤس والمعاملة السيّئة مما جعله يبدو حزيناً ووحيداً.
كانت زيارة مدافن الأموات في عيد الفصح المجيد عادة قديمة درج عليها العديدون من أقارب إيليّا. فذهب هو بدوره ليزور قبر جدّته التي لم يكن قد مضى على وفاتها وقت طويل. وبينما كان يبكي فراقها سمع فجأة صوتاً مصحوباً برنين أجراس يقول له: ” لا تبكِ. أنا معك، المسيح قام “. نهض الصّبيّ خائفاً، مفتّشاً عن مصدر الصّوت، فرأى المسيح القائم يبتسم له وهو خارج من هيكل الكنيسة.
أتمّ القدّيس يوحنّا علومه الثّانويّة، وما عليه الآن إلاّ أن يختار المهنة التي تناسبه. وفيما كان يصلّي ذات يوم سمع صوتاً يهمس له: ” إلى الدّير، إلى الدّير “.
وهكذا ما أن أنهى خدمته العسكريّة سنة 1936 حتّى لبّى الدّعوة ودخل دير نيامتس Neants الشّهير (وهو دير روماني يقع في منطقة مولدافيا. عاش فيه لفترة من الزمن القدّيس الروسي باييسي فيلتشوفسكي مؤسس الحياة الرّهبانية في روسيا.) وكان حينها في سنّ العشرين من عمره. خدم في الدّير كمساعد للأخ المسؤول عن الصّيدليّة وبعدها عمل كأمين للمكتبة ثم سيم بعد ذلك مبتدئاً لابساً الجبّة. ضاعف يوحنّا أصوامه وصلواته وذهب ببركة الرّئيس حاجّاً إلى الأراضي المقدّسة برفقة راهبين آخرين، وأقام في دير القدّيس سابا حيث كان يعيش رهبان يونانيّون ورومانيّون معاً. أتقن هناك اللغة اليونانيّة واستطاع أن يترجم عدّة كتب روحيّة من اليونانيّة إلى اللغة الرّومانيّة خاصة كتابات القدّيس نيقوديموس الآثوسي (وهو قدّيس نسك في الجبل المقدس في القرن التاسع عشر.) حظي باحترام كلّ الآباء لصمته واندفاعه في تطبيق الحياة النّسكيّة وخاصّة الصّلاة القلبيّة.
في تلك الآونة تعرضت المنطقة لبعض الاضطّرابات السّياسيّة وخاصّة عندما كان يشنّ العرب بعض الهجمات على الإنكليز المحتلّين، فكان الدّير عندئذ يتحوّل إلى مستشفى لإسعاف الجرحى مقدّماً لهم الاسعافات اللازمة. فصرف يوحنّا بدوره وقتهوذاته في سبيل الاعتناء بالمصابين حتّى وقع هو نفسه أسير مرض الديزنطاريا بسبب قلّة المياه وفقدان الوسائل اللازمة والضّروريّة للعيش السّليم.
في بداية الحرب العالميّة الثّانية، وبما أنّ رومانيا كانت حليفةً للألمان ومعادية للإنكليز، فقد اعتقل هؤلاء الأخيرون الرّهبان الرّومانيّين، وكان يوحنّا من بين الأسرى، فاختير كمترجم للإنكليز آنذاك. أخيراً أُطلق سراحه وعاد إلى سابق أعماله في الدّير. ثم ما لبث أن توشّح بالإسكيم الكبير (اللباس الذي يحصل عليه الراهب إشارة إلى نّذوره عندما يُعلنها) وعُيّن رئيس على دير روماني في وادي الأردن.
أدّى يوحنّا واجبه على أكمل وجه وبكلّ دراية وحكمة وتواضع (1947-1953). كان يمضي يومه بالعمل اليدوي وتدبير شؤون الإخوة، وأمّا لياليه فكان يلجأ إلى الصّحراء بعيداً مصليّاً. كان الشّوق إلى حياة الهدوء والنّسك يلهب قلبه وعقله إلى أن شعر ذات يوم بأنّ الوقت قد حان لكي يتنحّى عن رئاسة الدّير ويحيا حياة التّوحّد والعزلة. فأخبر تلاميذه بمنية قلبه، وأشعل فيهم الحميّة من أجل مواجهة الحروب الرّوحيّة محبّةً بالسّيّد. وفي عام 1953 انكفأ كليّاً في الصّحراء القريبة من دير خوزيبا (دير لوالدة الإله) وأقام في مغارة ترتفع 50 متراً فوق واد جبلي. واظب خلال سبع سنوات متوالية على الصّلاة المستمرّة وقراءة كتب الآباء وتأليف الأناشيد الرّوحيّة. تحمّل بجلادة حرارة المناخ وبرودته وكلّ أنواع التّقشّفات وهجوم الشّياطين واعتداء العرب عليه الذين حاولوا صرفه عن المكان. كان يقصد الدّير في الأعياد الكبيرة فقط. لم يكن يستقبل في مغارته سوى تلميذه إيوانيكيوس، تلك المغارة التي كان يتعذّر الوصول إليها خاصّة بعد نزع السّلّم عنها. وبعد أن عاين القدّيس رؤيا إلهيّة تنبؤه بقرب أجله أسلم الرّوح بين يدي خالقه وهو يبارك الجهات الأربع وكان ذلك في 5 آب من عام 1960.
أثناء خدمة الدّفن، اجتاحت المغارة فجأة أسراب كبيرة من الطّيور الكاسرة، وحطّت على جسد القدّيس لكي تشارك الرّهبان بأصواتها أثناء ترتيل خدمة الجنّاز.
بعد عشرين سنة من رقاده، أبصر تلميذه إيوانيكيوس في حلمه القدّيس يوحنّا يأمره بإخراج جسده المدفون من الموضع الذي فيه، إلاّ أنّ رئيس الدّير آنذاك أجّل طلبه لأنّ الظّروف لم تكن مؤاتية. زار بعد فترة المغارةَ بعض من أبنائه الرّوحيّين لنيل بركة القدّيس. ويا للعجب!! فما أن فتح التّلميذ القبر، حتى اكتشف بأن جسد القدّيس لم يبلَ وكانت تفوح منه رائحة عطرة. نُقلت الرّفات بعدها باحتراز إلى دير خوزيبا حيث أصبح مصدر بركة وشفاء للكثيرين من الحجّاج الذين كانوا يؤمّون الدّير.
فبشفاعاته أيّها الرّبّ يسوع المسيح ارحمنا وخلّصنا آمين.
X X X
الأخ دانيال المريض
كان الأخ دانيال واحدا من مجاهدي جبل آثوس، يتابع جهاده النّسكي في كوخ القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم في اسقيط القدّيس بندليمون. وقد أكّد لنا هو بنفسه ما سبق أن سمعناه من آباء كثيرين وذلك أنّ له عشرين سنة ونيِّف مطروحاً على سرير الأمراض، يعاني من ألم شديد في الرّأس والوسط، في الكليتين والقلب والرّجلين، ولم يكن من النّادر أن يجتاح الألم جسده كلّه عضواً فعضواً. إلى أطبّاء كثيرين لجأ وتحاليل عديدة أجرى، كما خضع لوفرة من الصّور الشّعاعيّة. غير أنّ النّتيجة كانت أبداً واحدة لا تتغيّر: لم يستطع الأطبّاء تحديد أي مرض عضوي يفسّر تلك الأمراض التي استمرّ يعاني منها، لقد وقف الطبّ والعلم عاجزين أمام أدوائه الغامضة.
منذ سنوات قليلة وتحديداً في السّابع والعشرين من شهر تمّوز وخلال سهرانة القدّيس بندليمون، انتصب الأخ دانيال أمام أيقونة القدّيس والدّموع تملأ مقلتيه متضرّعاً: “يا قدّيس الله وشفيع إسقيطنا، إنّك طبيب شهيد وقد أرقت دمك حبّا بالرّبّ يسوع، لذا أسألك أن تصنع محبّة وتتوسّل إلى السّيّد المسيح أن يهبني الصّحّة، لكي وأنا أيضاً إذا ما تمتّعت بالعافية أستطيع أن أمجّد الله وأرتّل خلال السّهرانات.”
ما إن انتهى من صلاته حتى أُخذ في إغفاءة بسبب تعبه وألمه الجزيلين. فإذا به يشاهد خلال رؤيا القدّيس بندليمون ساجداً أمام العرش الإلهي يتضرّع إلى الله ليمنّ على الأخ دانيال بالصّحّة. وسمع صوت السّيّد يقول للقدّيس: “يا أخي العظيم في الشّهداء بندليمون، أتراك أوفر رأفة منّي؟ أم أنّك أكثر محبّة للبشر. أعرف تماماً كيف أنّك سفكت دمك لأجل محبّتي. ولكن ألم أرق أنا أيضاً دمي وقتاً ما لأجل خلاص النّفوس؟ إعلم أنّي أرتضي مرّات عديدة أن يمرض الجسد لتخلُص النّفس. بهذه الطّريقةأبغي أن يخلص جمعٌ كبير من النّاس.”
عند سماع هذه الكلمات استيقظ الأخ دانيال ممجدّا اسم الله وشاكراً للقدّيس وساطته. وكما أخبرنا هو بنفسه، شعر حينئذ أنّ حملاً ثقيلاً قد أُزيح من فوق منكبيه وتعلّم كيف يحتمل بصبر وشكر وفرح صليب مرضه ووهنه.
X X X
الفقير والغني
أخبر المطران ثيوفانيس، ملاك أبرشية آفيا (جزيرة في اليونان) ، القصّة التّالية: كان أحد أبناء أبرشيّته الفقراء قد ورث إناءً ذا قيمة أثريّة جزيلة. حدث مرّة أن رأى أحد أغنياء المنطقة هذا الإناء فأُخذ به ورغب في شرائه بأيّة وسيلة ممكنة. غير أنّه فشل في الحصول على مراده بالحسنى والتملّق وذلك لأنّ الفقير، رغم جهله قيمة الإناء، رفض بيعه كونه إرثاً عائلياً. إذ ذاك لجأ الغني إلى القوّة وسلب الفقير ميراثه الغالي.
لم يمض زمن طويل على هذا الأمر حتى رقد الغني وهو في ريعان الشّباب. أراد أهله أن يصنعوا له حسب العادة الجارية وينقلوا جسده بعد ثلاث سنين من وفاته، فلمّا فتحوا القبر ألفوا الجسد غير منحلّ. انتظروا ثلاث سنين أخر وأعادوا الكرّة فلم يوفّقوا إذ وجدوا الجسد منتفخاً كالطّبل دونما انحلال. فقاموا بمحاولة ثالثة لكن دون جدوى. حينئذ دعوا الأسقف ثيوفانيس وطلبوا إليه أن يتلو صلاة الحلّ على الميت، غير أنّ النّتيجة لم تتغيّر.
بعد ذلك نصح الأسقف الأهل بأن يوقفوا الجسد المنتفخ في مكان عام ليأتي كلّ سكّان القرية واحد فواحد ويسامحوا الميت وهكذا يسامحه إلهنا الكلّي صلاحه ويحلّ جسده. كما أنّ الأسقف طلب من أحد الثّقاة أن يقف بجانب الميت ويسمع كلّ ما يقال.
مرّ أهل القرية كلّهم أمام الجسد مصلّين إلى الله ليسامح الرّاقد. ولمّا جاء دور الفقير سمعه رجل الأسقف يقول: “هيه إنّه لعدل أن تعاني هذا الأمر وتبقى دون انحلال بسبب الإناء الذي اغتصبته مني. فلتلبث هكذا منتفخاً إلى الأبد ما دمت قد ارتضيت أن تسلبني ما ورثته عن أمّي التي ولدتني.”
ولمّا عرف الأسقف بما حدث استدعى الرّجل الفقير وسأله عمّا عناه بمقولته تلك. وعندما وقف على الحقيقة سأل أهل الغني عن الإناء، فعرف منهم أنّه، أي الإناء، يشكّل، حالياً، جزءاً من ثروتهم. فطلب إليهم أن يعيدوا الإناء إلى صاحبه الحقيقي عسى الله يمنّ بالغفران على ابنهم الرّاقد.
عمل الأهل بمشورة الأسقف الذي وضع الإناء بطريقة ما بيد الميت وسأل الفقير أن يتقدّم ويأخذ الإناء مسامحاً الغني من كلّ قلبه على الظلم الذي لحقه بسببه. فلمّا تمّ ذلك أمام عيون أهل القرية المجتمعين، انحلّ ذاك الجسد، الذي لبث منتفخاً غير منحلّ سنين طويلة، على الفور وتحوّل إلى غبار. ذهل الحاضرون ومجّدوا الله الكلّي الصّلاح والدّيّان العادل. على إثر ذلك هجر الأسقف العالم وذهب إلى جبل آثوس حيث أمضى حياته كراهب بسيط مجهول من كلّ أحد مبتغياً إرضاء وجهه تعالى.
” ما فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الصّغار فبي قد فعلتموه.”
إن كانت الطّريق الأقصر إلى قلب الله هي محبّة القريب والإحسان إليه، فظلم الإنسان لأخيه الإنسان هو الطّريق الذي يقوده بعيدا عن الله.
X X X
القدّيس أدريانوس رئيس دير أوندروسوف Ondroussov
والمغبوط كبريانوس الذي من ستوروجيفسك Storojevsk
كان اسم القدّيس أدريانوس وهو في العالم اندراوس زافالاشين. ينحدر من إحدى عائلات البوايار Boyards التي كانت من حاشية القيصر الكبير يوحنّا الثّالث Vasilievitch . عاش في أملاك ذويه بالقرب من بحيرة لادوغا وكان مولعاً بالصّيد. وبينما كان في أحد الأيّام من سنة 1494 يلاحق أيّلاً في الغابة المجاورة للبحيرة، وصل أمام قلاية القدّيس ألكسندر سفير (عيده في 30 آب) (svir) الذي كان يعيش في نسك صارم إذ لم يرَ وجه آدمي مدّة 7 سنوات متتالية.
أُعجب الشّاب أشدّ الإعجاب بالقدّيس ألكسندر وبجهاداته الرّوحيّة، وأخذ يتردّد على زيارته بانتظام. كان يحضر له المؤن الضّروريّة، ويحصل بالمقابل على النّصائح الرّوحيّة القيّمة والارشادات المفيدة.
دخل الشّاب أدريانوس إلى دير فالامو ببركة القدّيس ألكسندر، وخلال فترة قصيرة حصل على إذن من الآباء الشّيوخ لكي يعيش متوحّداً على الضّفاف الشّرقيّة لبحيرة لادوغا.
ابتنى له هناك كنيسة على اسم دخول السّيّدة والدة الإله إلى الهيكل، وكنيسة أخرى على اسم القدّيس نيقولاوس. اجتمع طلاّب الرّهبنة حوله، فأسّس لهم بجانب الكنيسة ديراً على اسم القدّيس نيقولاوس أيضاً، أمّا سكّان تلك المنطقة فأطلقوا عليه اسم ديراندراوس.
هناك في غابة جزيرة سالا الواقعة مقابل منسك القدّيس، كان يعيش رئيس عصابة يخلق لأدريانوس الإزعاجات والمتاعب الكثيرة. لكنّ رجل الله نجح، بلطافته ودماثته، في ثنيه عن شروره، حتّى تركه ذلك اللص يعيش بسلام وهدوء. بعد ذلك بفترة وجيزة هاجمت شرذمة من الأشرار الأشقياء ذلك اللص وزجّوه في السّجن. فجأة وهو في سجنه ظهر أمامه القدّيس أدريانوس وقال له: ” لأجل رحمة السّيّد وباسم الذي طلبتُ منك أن تُبقي على الأخوّة بيننا، ها أنت منذ الآن تصير حرّاً طليقاً “. وللحال سقطت السّلاسل الحديديّة من يدي الأسير وتحرّر من قيوده وراح يركض نحو الدّير لكي يشكر القدّيس على صنيعه وإحسانه إليه. ثم ما لبث اللص أن علم بأنّ القدّيس كان قد أمضى ليلته يصلّي ويتضرّع من أجله.
بعد هذه الأحداث، أدرك رئيس اللصوص بأنّ حياته الفاسدة هذه قد أدّت به إلى الضّياع. فارتدّ إلى الإيمان وتاب وأتى إلى القدّيس يطلب منه بأن يقوده في طريق الخلاص.
رُسم (هذا اللص) راهباً تحت اسم كبريانوس. وبجهاداته النّسكيّة ومحبّته ورحمته، لم ينل فقط غفران خطاياه، إنّما اكتسب أيضاً موهبة صنع العجائب. وبعد موته نال الكثيرون، بفضله وشفاعاته، إحسانات إلهيّة جزيلة.
في عام 1549 استُدعي القدّيس أدريانوس إلى البلاط الملكي في موسكو ليكون عرّاباً للملكة حنّة ابنة القيصر يوحنّا الرّابع. وفي طريق عودته إلى الدّير، وعلى بعد 20 فرسخاً منه، قتله أناس أشرار أرادوا الاستيلاء على العطايا التي وُهبت له من قِبَلِ الملكة (يُعيّد له في 15 أيار).
لم يعلم أحد بما جرى. ولكن، بعد سنتين من تاريخ موته، ظهر القدّيس لشيوخ الدّير وأعلمهم بحادثة وفاته. وبأمر منه، أطلق الرّهبان حصاناً يدلّهم على مكان وجود بقايا القدّيس. نُقلت الرّفاة وأودعت كنيسة القدّيس نيقولاوس. يعيَّد لذكرى نقل رفاته في 17 أيّار.
أُهمل الدّير بعد أن هجره الرّهبان وأصبح خرِباً. في عام 1789 هبّت فجأة عاصفة هوجاء في ذلك الموضع وهدّدت بالخطر حياة أحد الرّهبان واسمه اينوكنديوس، فوعد هذا أنّه إن نجا من هذه العاصفة سوف يجدّد بناء الدّير. بعد شهر من وقوع هذه الحادثة، ظهر القدّيس نيقولاوس يرافقه القدّيس أدريانوس للرّاهب اينوكنديوس لكي يذكّراه بوعده، معلنَيْن له عن قرب وقوعه في تجربة أخرى جديدة إن لم يفِ بوعده.
في السّنة التّالية، واجهت الرّاهب اينوكنديوس من جديد عاصفة في الموضع السّابق عينه بالقرب من الدّير. ورغم هذا الإنذار الثّاني، دفع عنه فكرة التّرميم وأجّل وعد تحقيق مشروعه. في وقت لاحق رأى إينوكنديوس في الحلم القدّيس أدريانوس ينقذه من الغرق ويذكّره بوعده.
أخيراً وبعد حوالي 30 عاماً استطاع الشيخ إينوكنديوس أن يُصلح المنسك عام 1817، وسنة 1883 شُيّدت كنيسة صغيرة في المكان الذي استُشهد فيه القدّيس أدريانوس.
فبشفاعاتهما اللهم ارحمنا وخلّصنا آمين.
X X X
القدّيس فانتينوس العجائبي
وُلد الأب فانتينوس حوالي عام 927م. في كنف عائلة تقيّة ومعروفة في منطقة كالابرا جنوبي إيطاليا. انعكف منذ الطّفوليّة على المطالعة والتّعمّق في الكتب المقدّسة. كان يزدري بكلّ أنواع التّسليات والملّذات التي كان يتعاطاها الأولاد الذين كانوا في سنّه، إذ وجّه كلّ اهتمامه نحو التّأمّل بالخيرات الأبديّة.
لاحظ ذووه ميل الطّفل نحو الأمور الإلهيّة، فكرّسوه لله وهو في الثامنة من عمره، وعهدوا به إلى القدّيس إيليّا الكهفي (وهو أحد الوجوه البارزة في الرّهبنة البيزنطيّة في جنوبي إيطاليا). أبصر القدّيس ما كان عليه فانتينوس من دعوة مميّزة ففوّض أمر تدريبه في الطّريق الرّوحي إلى أفضل رهبانه، فاقتنى فانتينوس حكمة الشّيوخ وهو بعد طفل، لهذا ألبسه القدّيس إيليّا الثّوب الرّهباني بعد 5 سنوات من دخوله الدّير، وجعله طبّاخاً. كان العمل صعباً وشاقّاً بالنّسبة إليه، ولكنّه كان مطهِّراً أيضاً للنّفس، لأنّه كلّما اتّفق أن ألِفَ نفسه أمام النّار التي كان يضطّرم لهيبها داخل الفرن، كان ينتقل للحال بفكره إلى تلك النّار الأبديّة التي سوف يُلقى الخطأة فيها، وهكذا اكتسب بهذا الفكر نعمة النّدامة وروح التّوبة.
منذ دخوله الدّير لم يكن يتناول الطّعام إلاّ كلّ يومين أو ثلاثة. وبدأ في التّقشف الزائد في السّنة الثّانية لتوشّحه بالنّذر الرّهباني، إذ لم يكن يأكل إلاّ الخضار ومرّة واحدة في الأسبوع، ونادراً ما كان يتزوّد بالقليل من الخبز.
كان فانتينوس يتقدّم في كلّ الفضائل طارداً عنه كلّ لذّة جسديّة، وقد أصبح قلبه النّقي أرضاً خصبة تحمل وبوفرة ثمار الرّوح القدس.
عندما أسلم القدّيس إيليّا روحه لله سنة 960م. قرّر فانتينوس اعتناق حياة الوحدة الكاملة، وكان ذلك بعد أن مضى عليه 20 عاماً في الدّير اكتسب خلالها خبرة كافية تؤهّله لاقتبال نظام نسكي صارم. انعزل في موضع صحراوي في منطقة جبلميركوريون Mercurion في شمال الكالابرا في وادي لاو Lao حيث عاش عدة سنوات في تقشّف شديد، شبه عريان، يقتات فقط من الأعشاب البريّة. جُرّب بقساوة من الشّياطين التي كانت تظهر له بشكل أهله وهم يتوجّعون في حزن وأسى على فقده محاولين إعادته إلى العالم. وأحياناً أخرى كانت تظهر له الشّياطين بشكل حيوانات مفترسة. إلاّ أنّه كان ينتصر على كلّ هذه التّجارب برسم إشارة الصّليب المحيية وبالصّلوات الليليّة الطّويلة.
بعد 18 سنة من الجهادات والأتعاب الجزيلة، عثر عليه أهله، الذين كانوا يفتّشون عنه، في عزلته. وبعد عدّة لقاءات مؤثّرة معهم تهتزّ لها العواطف استطاع، وبنعمة المسيح، أن يقنعهم لكي يبتعدوا هم أيضاً عن حياة العالم وأباطيله. وهكذا أودع والدته وأخته في دير للرّاهبات، وأجرى بنفسه سيامة والده واثنين من إخوته لوقا وكوزما فأصبحت العائلة كلّها رهباناً، فقادهم هو كلّهم في الطّريق الضيّقة التي تؤدّي إلى الملكوت.
أصبحت تلك الجبال الصّحراويّة فيما بعد مساكن يقطنها الرّجال والنّساء الذين اختاروا أن يعيشوا وهم على الأرض حياة ملائكيّة تحت إرشاد المغبوط فانتينوس الذي كان أباً للكلّ ومعلّماً للشّريعة الإلهيّة ومثالاً حيّاً للفضائل الإنجيليّة.
وبما أنّ تحمّل مسؤوليّة خلاص العديد من النّفوس لم تدعه يتفرّغ لله وحده دونما تشتّت، وبما أنّه كان متعطّشاً للتّعمّق أكثر في التّأمّل بالإلهيّات، عهد إدارة شؤون الدّير إلى أخيه لوقا، كما وضع مدبّرين يديرون الأمور في الشّركات الرّهبانيّة الأخرى، وانصرف بعدها سرّاً ليعتزل في موضع آخر حيث اعتبره سكّانه جاسوساً فأوثقوه ورموا به في مكان مظلم تحت الأرض وتركوه دون عناية عرضة للسع الحشرات وكلّ حثالة. وجد القدّيس نفسه في المكان الذي وضعوه فيه مغموراً بالنّعمة الإلهيّة، فبقي غريباً عن كلّ توجّع وألم من جرّاء وضعه الصّعب لا بل أحسّ بحلاوة الحياة مع الله وهو على هذه الحالة.
عندما أدرك الذين سبّبوا له هذه الآلام ما كان عليه من الفضيلة والإيمان، فكّوا أسره منطرحين عند قدميه طالبين منه الصّفح والغفران. عاد فانتينوس فانتقل ليقيم في موضع آخر ملائم للحياة الهدوئيّة، وحيث تتوفّر فيه المياه والخضرة، إلاّ أنّه تعرّض من جديد للاضطّرابات التي كان يسبّبها له الزوّار. للحين قرّر العودة إلى ديره.
عاد إلى حياة الشّركة دون أن يتخلّى عن نظامه النّسكي الشّاق الذي كان يتّبعه من قبل. كان يقتات من الخضار النيّئة ويفترش الحضيض ويتنقّل شبه عريان. كان فنّ الخطّ عمله اليدوي، وكان يمضي نهاريه ولياليه في الصّلاة المتواصلة وإنشاد التّراتيل. كان شوقه إلى الله يزداد يوماً فيوماً حتّى اكتسب نعمة اللاهوى، ولم يعد يشبع من الرّحيق الإلهي الذي كان يستقيه من فيض قلبه. اقتنى موهبة طرد الشّياطين وشفاء الأمراض النّفسيّة منها والجسديّة. كانت له السّلطة على الحيوانات المفترسةوالزحّافات ويأمرها كآدم جديد فتخضع له. كان، بعجائبه، يزوّد الدّير بكلّ احتياجاته.
عند فجر أحد الأيّام وأثناء خدمة الصلاة السّحريّة، أُخذ القدّيس في انخطاف وبقي رافعاً يديه وعينيه نحو السّماء حتّى صلاة الغروب. وعندما سأله تلاميذه ما الذي عاينه أجابهم بدموع حارّة: ” إنّ الذي تريدون معرفته أمر يفوق الوصف ولا يعبَّر عنه “.وعلى أثر هذا الكلام ألقى جبّته على الأرض تاركاً كلّ شيء، وخرج من الدّير عارياً متوغّلاً في الجبل حيث مكث هناك مدّة 20 يوماً صائماً دون طعام أو شراب.
عاش هكذا ولمدّة 4 سنوات محلوق الرأس واللحية، يقتات فقط من الأعشاب البريّة. بدا وكأنّه مسّه الجنون بالنّسبة للذين يجهلونه وأيضاً بالنّسبة لرهبان ديره. راح يتنبّأ عن حدوث قريب لاجتياحات تطال البلاد من قبائل العرب المغاربة، كما تنبّأ النّبيإرميا قديماً في أورشليم وذلك بسبب تقهقر وانحلال التّقاليد المسيحيّة.
عاد في أحد الأيّام وقابل الإخوة من جديد وأعلن لهم عن مجيء القدّيس نيلس الذي نسك في جبل ميركوريون كالابرا Mercurion Calabra (عيده في 26 أيلول) ، الذي سبق ودرّبه على الحياة النّسكيّة و كان يكنّ له في قلبه تقديراً كبيراً. عندما أخبر القدّيس فانتينوس القدّيس نيل عن رؤيا كان قد حُمل خلالها من قِبَل ملاكين ليتأمّل في مكان العذاب الأبدي ومكان الرّاحة والغبطة الأبديّة، راح القدّيس نيل يوبّخ الرّهبان على اتهامهم القدّيس فانتينوس بأنّه قد خرج عن طوره، بينما هو قد ارتفع إلى السّماء الثّالثة مماثلاً القدّيس بولس الرّسول.
بعد وقت طويل من الجهاد والأتعاب النّسكيّة، ظهر ملاك الرّب للقدّيس فانتينوس خلال صلاته الليليّة وأمره بأن يحضر إلى تسالونيكي بغية جذب العديد من النّفوس هناك إلى عمل الفضيلة.
جمع القدّيس الرّهبان في الكنيسة، وأوصاهم بأن لا يهدروا الوقت الذي أعطاه الله لنا من أجل التّوبة في التّعلّق بالأمور الأرضيّة أو في الاهتمامات الباطلة، بل أن يحثّوا بعضهم البعض ويجتهدوا لكي يكونوا مستحقّين لملاقاة السّيّد عندما سوف يعود ليدين العالم. بعد أن ودّعهم، أبحر إلى اليونان يرافقه تلميذاه فيتاليوس ونيكيفوروس.
وصلوا إلى جزر البيلوبونيز بعد رحلة بحريّة جميلة وأقاموا فترة في كورنثوس وأثينا. كثيرة هي النّفوس التي كانت تلتمس الخلاص لأنّها، لمجرّد رؤية هؤلاء الرّجال الإلهيّين الذين كانت تفوح منهم رائحة طيب الرّوح القدس، كانت تتسارع إليهم لنيل البركة. إلاّ أن فانتينوس وقع في مرض شديد وانتظر الجميع موته، لكنّه أنبأهم بأنّه سوف يقضي أجله في تسالونيكي.
عندما استعاد عافيته، انتقل إلى لاريسا وعاش لبعض الوقت بالقرب من كنيسة القدّيس أخيلّوس ناشراً بفيض تعاليمة الرّوحيّة. من هناك أبحر الثّلاثة إلى تسالونيكي، حيث أقاموا في كنيسة القدّيس ميناس. جذبت شهرة فانتينوس الواسعة العديد من شخصيّات المدينة المعروفين، حتّى أتاه المطران نفسه لزيارته ونيل بركة صلاته والاستماع إلى عذب كلامه.
أصبح القدّيس طبيباً لكلّ المجرَّبين وملجأ للمحزونين، ومعلِّماً للذين يريدون السّير في طريق الله. بدّل مسكنه بعد ثلاثة أشهر ومع هذا لم يتوقّف تدفّق الزوّار عليه، بل كان يزداد بالأكثر.
بينما كان ذات يوم موجوداً بالقرب من باب كاساندرا Porte de Casandra نزل فانتينوس فجأة وتوجّه نحو كنيسة القدّيسة أنيسيّة، فالتقى هناك براهبين آتيين من الجبل المقدّس ومتوجّهين نحو أثينا. أحدهما كان شيخاً وقوراً والآخر شاباً دون لحية (خصيّاً)، انحنى أمامهما ساجداً عند قدميهما وطالباً بركتهما. بعد اجتيازهما، أوحى القدّيس فانتينوس إلى تلميذه، المنذهل من هذا التّصرّف، بأنّ أحد الاثنين كان القدّيس أثناسيوس مؤسّس دير اللافرا الكبير، والآخر القدّيس بولس الذي من ديركسيروبوتامو، اللذين سوف يتألّقان كنجمين لامعين في الجبل المقدّس.
ولدى عودة الرّاهبين الآثوسيّين من تسالونيكي، تقدّما بدورهما إلى فانتينوس لينل بركته، بعدما سمعا بعجائبه وأدركا بأنّه إيّاه الرّاهب الذي التقياه أثناء مرورهما إلى أثينا في كنيسة القدّيسة أنيسيّة.
استمر القدّيس فانتينوس ينشر رحمة الله بعجائبه، وبفضل تبصّره أُنقذت المدينة من هجوم البلغار. بعد حوالي 8 سنوات من إقامته في مدينة القدّيس ديمتريوس، رقد بسلام في الرّب سنة 1000م. عن عمر يناهز 73 عاماً.
فبشفاعاته اللهم ارحمنا وخلّصنا آمين.