مختارات من سير قديسين – 2
إعداد راهبات دير مار يعقوب – دده
+ توبة راهبة +
أخبر أحد الآباء قائلاً:
“كان يوجد في مدينة سالونيك، في بلاد اليونان، دير نسائي، تعيش راهباته حياة روحيّة حارّة، لم تَرُقْ في عيني الشّيطان عدوّ كلّ خير وصلاح. فوسوس لإحدى راهباته بترك ديرها، وهجر حياتها الرّهبانيّة، والعودة إلى العالم.
بقيت هذه الرّاهبة عرضة لصراع داخلي مرير من جرّاء هذا الفكر، دون أن تجرؤ على البوح به لأحد، إلى أن خضعت أخيراً لوسوسات إبليس، واقتنعت بإيحاءاته، واستسلمت لأفكارها. فقامت ذات يوم، وخرجت من ديرها خفية دون أن تُعلم أحداً بالأمر.
بعد تركها الدّير، سقطت في الزّنى، وراحت تمارس هذه الخطيئة فترة من الزّمن، غافلة عن أمر خلاصها، وغير شاعرة بأيّة حمأة تلطّخت بها، ولا بالهوّة السّحيقة التي هوت إليها. ثم، وبعناية من الله، انتابها شعور عميق بالنّدم والأسف، واستفاقت من غفلتها، وأحسّت بحالها، وبكت بمرارة فقدان طهارتها وعفافها، وتمثّلت أمامها نقاوة سيرتها السّابقة، فعادت إلى نفسها، وخلعت عنها ثياب الخطيئة، وقامت تتضرّع إلى الله باسطة إليه يديها، طالبة معونته، وواعدة إيّاه أن تصرف ما تبقّى من حياتها بتوبة صادقة، وأخذت الدّموع تبلّل وجهها وهي تتمتم: ” يا الله ارحمني أنا الواقع..” . ثم قامت متمثّلة بالابن الشّاطر، وأخذت تشقّ طريق العودة إلى الدّير، ولكنّها ما أن وصلته حتّى وقعت عند بابه جثة هامدو.
أعلن الله موتها لأسقف المدينة، المعروف بفضله وقداسته، إذ رأى في رؤيا سماويّة ملائكة قدّيسين، يرغبون بأخذ نفس تلك الرّاهبة، والشّياطين الأبالسة تتبعهم محاولة اختطافها عنوة من بين أيديهم. ثم سمع محاورة دارت بين الفريقين، فكان الملائكة يقولون:
– لقد وعدت الله بالتّوبة، وإنّ انسحاق قلبها وانسكاب عبراتها ما هو إلاّ دليل صادق على توبتها، ولذلك فإن الله الرّحيم سوف يقبلها.
– بينما كانت الشّياطين تزعم قائلة: لقد كانت تحيا حياة لاهية عابثة، عاملة بمشورتنا، وخاضعة لإرشادنا، فهي تحت إمرتنا وسلطاننا. ثم إنّ توبتها غير مقبولة لأنّها لم تدخل الدّير لتعلن فيه ندمها، ولذلك فهي من حصّتنا. إنّها من نصيبنا وهي لنا.
– إنّها منذ اللحظة التي شعرت فيها بالنّدم والانسحاق، واعترفت بخطيئتها، وقرّرت العزوف عنها، قَبِلَ الرّبّ توبتها، ولذلك لا حظّ ولا نصيب لكم فيها.
وعند هذا القول ابتعد الأبالسة وقد اعتراهم الخزي والخجل.
ولقد قال الأب القدّيس فيما بعد: “إنّ ما سمعناه وقلناه، إنّما كان لفائدتنا وبنياننا. فلنصحُ إذن يا إخوة، ولنسهر على أنفسنا طالبين دوماً عون الرّبّ، ولا نخضع أو نستسلم لوشوشات أفكارنا، بل لنجاهدْ الجهاد الحسن، ولنكنْ رجالاً أشدّاء في مواجهة العدوّ. وقبل كلّ شيء، لا ينبغي أن نترك الدّير أبداً، لأنّه في لحظة الضّعف، نعرف كيف ومن أين خرجنا، ولكنّنا لا نعلم أين وكيف سنقع بعد انفصالنا عنه، ولا ما هو مصيرنا، أو هل يسمح الله لنتوب ثانية مكفّرين عن سقطاتنا لنحوز على رضاه ؟؟
+ الشّيخة الوقور +
عندما كان اثنان من الآباء الشّيوخ متوجّهيْن إلى البريّة، سمعا أثناء مسيرهما دمدمة صادرة من إحدى المغاور، التي بعد جهد وعناء استطاعا كشف مدخلها. وعندما ولجاها، وجدا أمامهما شيخة هرمة مريضة مستلقاة على الأرض. فسألاها:
– متى أتيت إلى هنا أيّتها الأم الوقور ؟ ومن كان يهتمّ بأمورك، فإنّنا لا نرى سواك في هذه المغارة ؟
– إنّ لي في هذه المغارة نحو 38 عاماً، كنت أغتذي خلالها بقليل من أعشاب الأرض، ولم أر خلالها بشريّاً سواكما، وأظنّ أنّ الله أرسلكما إليّ لتعنيا بدفن جسدي.
وما أن تفوّهت بهذا، حتّى تلاشت قواها وأسلمت الرّوح. فمجّد الشيخان الله، وقاما بدفن جسدها بإكرام في المغارة.
+ العذراء العفيفة +
أخبر أحد الآباء المتوحّدين القصّة التّالية:
” كان يوجد في المدينة المقدّسة أورشليم متوحدة تقيّة ورعة تتقدّم بشكل سريع ملحوظ في طريق الفضيلة والجهاد المقدّسين. ولكنّ الشّرير الذي لم تعجبه هذه الحياة الفاضلة، وضع في طريقها شابّاً ألهب قلبه حبّ فاسد. ففطنت العذراء لحيلة الشّيطان وخداعه، فأخذت ذات يوم سلاً صغيراً وضعت فيه بعض البقول الجافّة، وراحت تحثّ الخطى مبتعدة عن المدينة متوجّهة نحو القفر.
وبعد مضي زمن طويل، وبتدبير إلهي كي لا تبقى فضيلة تلك المتوحّدة مجهولة مخفيّة، التقاها أحد النّسّاك في بريّة الأردن، فبادرها بقوله:
– ماذا تفعلين هنا في هذا القفر أيّتها الأم ؟
– فأرادت المتوحّدة الهرب من ملاقاته فأجابته وهي تريد المسير: لقد أضعت معالم الطّريق، فأرجوك أن تدلّني عليها أيّها الأب القدّيس.
– ولكنّ المتوحّد استطاع بإلهام إلهي أن يكشف ادعاءها وتخفّيها، فقال لها: صدّقيني أيّتها الأم، إنّك لم تفقدي الطّريق، ولا أنت تفتّشين عن مخارجها. وبما أنّك تعلمين أنّ الكذب مصدره الشّيطان، فتعالي إذن وأصدقيني القول ما هو السّبب الحقيقي في وجودك هنا ؟
– سامحني أيّها الأب القدّيس، لقد كنت عثرة لشّاب تعلّق بي، ولهذا فررت من الخطيئة وأتيت إلى هذه البريّة لأخلّص نفسي، ونفس ذاك الشّاب أيضاً، إذ من الأفضل أن أموت هنا، من أن أسبّب شكوكاً للآخرين.
– وكم لك من الزّمن هنا؟
– سبع عشرة سنة.
– ومن أين كنت تجدين طعامك؟
عندما خرجت من منزلي، أخذت معي في هذا السّلّ بعض البقول الجافّة، التي كانت طعاماً لأمتك المسكينة. ولكن، وبعناية من الله المحبّ البشر، لم تنقص كميّة هذه الحبوب. وهكذا فإنّ صلاح الله ومحبّته، حفظاني في مدّة 17 عاماً أيّها الأب القدّيس، لم يرني خلالها أحد من النّسّاك سواك. لكنّ نعمة الله القدّوسة، أهّلتني، انا غير المستحقّة، لأن أراهم جميعاً.
وما أن قالت هذا حتّى أخذت تبتعد عنه. فمجّد الله وعاد منتفعاً يحدّث بما رأى وسمع.
+ بيامون النّاسكة +
كانت بيامون متوحّدة في إحدى البراري المصريّة، تمارس حياة النّسك والجهاد مع أمّها. فكانتا تأكلان يوماً بعد يوم، منصرفتين إلى الصّلاة والتّسبيح. وعند المساء، كانتا تصرفان الليل بغزل خيوط الكتّان ليكون لهما مصدر رزق وعيش. ومع مرور الأيّام، حدث أنّ إحدى القرى أخذت تستعدّ لمحاربة قرية أخرى، بسبب النّزاع حول امتلاك المياه، ممّا تسبّب في وقوع مجازر وضحايا قتل بين الفريقين. وكانت القرية الأقوى تتهيّأ لمهاجمة قرية النّاسكة بيامون.
فجاء كثير من المحاربين متسلّحين بالحراب والهراوي لضرب أهل القرية. فظهر ملاك الرّبّ للمتوحّدة في البريّة، وكشف لها أمر الهجوم. فدعت حينئذ شيوخ القرية ووجهاءها وحثّتهم مشجّعة إيّاهم وقائلة لهم: ” اخرجوا لمواجهة أولئك القادمين لمحاربتكم، لئلا تُبادوا وتُفنوا أنتم وكلّ أهل القرية، واطلبوا منهم إيقاف الحرب “.
وبما أنّ شيوخ القرية كانوا خائفين وجلين، انطرحوا عند قدمي بيامون، وتوسّلوا إليها قائلين: ” نحن لا نجسر ولا نقوى على ملاقاتهم، لأنّنا نعلم شدّة غضبهم وهياجهم وعتوّهم. ولكن، إنْ كنت تأسفين وتشفقين حقّاً لحالنا، اخرجي أنت لملاقاتهم “.
وبما أنّ بيامون لم توافقهم الرأي، صرفتهم من عندها، ثم صعدت إلى سطح منسكها وبقيت تلك الليلة بكاملها واقفة تصلّي دون أن تثني لها ركبة، متوسّلة بدموع إلى الرّبّ وقائلة: ” أيّها السّيّد، أنت الذي تحكم الأرض ولا ترتضي بأن يسود الظّلم والجور، والآن عندما تصعد إليك طلبتي وابتهالي، أوقفْ بقوّتك أولئك المحاربين، وأبعدهم عن شعبك ورعيّتك ليعلموا قوّتك ويروا جبروتك “.
وعند الصّباح، لم يستطع أولئك المهاجمين التقدّم وباءت كلّ محاولاتهم بالفشل. ولم يمكنهم التّحرّك من أمكنتهم وشعروا بأنّ قوّة خفيّة تسمّرهم وتشلّ أيديهم.
وعندما علموا أنّه بصلوات وتضرّعات بيامون النّاسكة حصل كلّ هذا ومُنعوا من مهاجمة القرية الآمنة، أرسلوا رجالاً من قِبَلِهم كسفراء إلى قرية المتوحّدة، يسألون السّلام قائلين لأهل المنطقة: ” إنّ الله يحفظكم بصلوات خادمته بيامون، فاشكروه واحمدوه لأنّه يسكب رحمته وبركاته على كلّ من يتّقيه، ويستجيب لصلوات وطلبات محبّيه “.
+ روميلا +
أخبر القدّيس غريغوريوس الأوّل بابا رومية (540 -604 ) قائلاً:
” كان يوجد في إحدى المدن الرّومانيّة متوحّدة مسنّة تدعى ريذيمبا Rezemba ( وهو اسم لاتيني معناه مخلِّصة)، تقطن قرب هيكل الفائقة القداسة والدة الإله. وكان لهذه تلميذتان تدعى إحداهما روميلا، وأمّا الثّانية فقد كنت أجهل اسمها.
كانت هؤلاء الثّلاثة يعشن في منزل واحد مجاهدات وعائشات في فقر وعوَز اختياريين، معتبرات ( عار المسيح أفضل من كنوز العالم). أمّا روميلا فقد فاقت أختها في الجهاد، وكانت تتحلّى بفضيلتي الصّبر والطّاعة، ملازمة الصّلاة المستمرّة والصّمت التّام، فكانت في نظر كافّة النّاس مثال الكمال والفضيلة.
وحرصاً على خلاصها وتواضعها، فقد سمح الرّبّ بأن تُمتحن بمرض الشّلل كبليّة جسديّة، إذ بقيت، ولسنين طويلة، مسمَّرة لا تستطيع مبارحة فراشها أبداً، لأنّ أطرافها فقدت كلّ قدرة لها على التّحرّك. ولكنّ هذا المرض العضال لم يفقدها صبرها، بل على العكس، فإنّ هذا الضّعف الجسدي كان منبع قوّة روحيّة ومصدر تعزية داخليّة، إذ أخذت تنعكف وتنكبّ على الصّلاة المستمرّة كجهاد وحيد لها، بما أنّها لم تكن تقوى على القيام بعمل جسدي آخر، متذكّرة قول الرّسول ( وإن كان إنساننا الخارجي ينهدم، فإنّ إنساننا الدّاخلي يُبنى يوماً بعد يوم ).
وذات ليلة، وعند منتصف الليل، نادت روميلا أمّها الرّوحيّة وأختها النّاسكة الثّانية إليها، وفجأة سطع نور باهر أضاء كلّ أنحاء القلاية اللواتي كنّ فيها، وامتلأت قلوبهنّ هلعاً، وجمدت أطرافهنّ وأجسادهنّ إذ اعترتهنّ قشعريرة شديدة. وبينما هنّ مندهشات، متحيّرات، سمعن ضجّة كبيرة في الخارج، وكأنّ جمهرة من النّاس تحاول الدّخول إليهنّ، وأخذت أبواب المنزل ترتجّ، وكأنّ أحداً يريد ولوجه عنوة. ومن شدّة الاضطّراب والذّعر، اضطررن لإغماض أعينهنّ، بحيث لم يعدن يرين شيئاً، ولكنهنّ أحسسن برائحة زكيّة عطرة تملأ المكان. ومع أنّ الخوف غمر أفئدتهنّ، إلاّ أنّ تلك الرّائحة بدّدت ذلك الخوف وأحلّت محلّه فرحاً لا يوصف، ثم أخذت روميلا ترطّب خواطر رفيقتيها قائلة: ” لا تجزعا، لن أموت الآن “. وبينما كانت تكرّر هذه الجملة مراراً، أخذ الضّوء يتلاشى ويختفي رويداً رويداً، بينما بقيت الرّائحة تملأ القلاية. لقد بقيت تلك الرّائحة ثلاثة أيّام. وفي اليوم الرّابع نادت روميلا أيضاً أمّها وأختها إليها، وطلبت أن تتناول القربان المقدّس كزاد أخير لها. وبعد أن تناولته، وفي السّاحة الكائنة أمام باب القلاية، رأت ريذيمبا والرّاهبة الأخرى جوقتين منتصبتين متأهّبتين للتّرتيل، إحداهما للرّاهبات والأخرى للرّهبان. أخذت تلك الجوقتان ترتّلان بأصوات ملائكيّة، وبينما هم يرتّلون ويمجّدون الله، تحرّرت نفس روميلا من رباطات الجسد، وأخذت تصعد إلى السّماء والجوقتان ما زالتا ترتّلان ترافقانها أثناء صعودها. وكان كلّما ارتفعت النّفس، ارتفعت معها الجوقتان وخَفَتَ معهما صوت التّرتيل. ثم وبعد قليل اختفى الجميع وتلاشت الأصوات. وعند ذاك اختفت الرّائحة الزكيّة أيضاً. وأما روميلا فحلّت في المكان الرّحب حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد, يعيَّد لهن حسب التّقويم الرّوماني في 23 تموز.
+ ايسيذورا +
كانت تعيش في أحد الأديار راهبة تدعى ايسيذورا. اعتادت راهبات الدّير أن يطلقن عليها اسم الهبيلة نظراً لتصرّفاتها التي كانت تصدر عنها، إذ كانت تتظاهر بالبله والجنون حبّاً بالمسيح.
لم تكن تأكل أبداً مع الرّاهبات. فطعامها اليومي كان فضلات الطّعام وبقاياه. أمّا عملها الدّائم، فكان تنظيف الصّحون والطّناجر. كان لباسها يختلف قليلاً عن لباس بقيّة راهبات الدّير البالغ عددهنّ 400 راهبة، إذ كانت تعصب رأسها بمنديل مغاير لمنديل الرّاهبات.
لم تكن ايسيذورا تسمح لفمها أو لفكرها أن يدين أو يهين إحداهنّ. بل بالأحرى كانت البعض منهنّ يحسبنها غبيّة قليلة الإدراك، فكنّ يعاملنها بازدراء وبشيء من القسوة أو التّهكم موجّهات إليها الإهانات.
كان الأب بيتيروم ناسكاً متوحّداً جليلاً ومعروفاً بنقاوة سيرته وشظف عيشه. هذا ظهر له ملاك الرّبّ قائلاً: “لماذا تفتخر متشامخاً متباهياً بتقاك وورعك وبسكناك مكاناً قفراً كهذا؟! هل تعلم أنّ هناك امرأة تفوقك تقىً وورعاً؟ اذهب إذن إلى الدّير النّسائي الكائن في تابنيسي، وستجد راهبة تعصب رأسها بمنديل يختلف شكله عن بقيّة مناديل الرّاهبات. هذه الرّاهبة هي أفضل منك. إذ إنّ قلبها وفكرها لم يبتعدا أبداً عن ذكر الله مع أنّها تتحمّل أحزاناً كثيرة، بينما أنت قابع هنا في البريّة، وفكرك يجول ويدور في كلّ أنحاء المدينة “.
وهكذا، فإنّ الذي لم يكن يعرف الخروج أبداً من قلايته، قصد آباء وشيوخ المنطقة طالباً إذناً يخوّله دخول الدّير. وبما أنّه كان معروفاً بفضله وفضيلته وحسن سيرته، أذنوا له. وحال وصوله الدّير، طلب من رئيسته أن يرى جميع الرّاهبات، فأتين كلّهن يلثمن يده طالبات البركة إلاّ الرّاهبة إيسيذورا، فإنّها أبت الحضور لأنّها فهمت، أو بالأحرى كُشف لها قصد الأب من زيارة الدّير. وعندما أصرّ الأب على رؤيتها، أسرعت الرّاهبات إليها وجذبنها من ثيابها رغم تمنّعها. فما أن رآها الأب بيتيروم، حتّى انطرح ساجداً عند قدميها وقائلاً: ” باركيني أيّتها الأم القدّيسة “. فسجدت هي بدورها وأجابت: ” بل باركني أنت يا أبي القدّيس “. عند رؤية الرّاهبات لهذا المنظر شهقن من العجب وقلن: ” لا تلتفت إليها يا أبانا لأنّها مجنونة وهبيلة “. وأمّا هو فقال لهن: ” ليست بهبيلة يا أخواتي، بل هي أمّنا كلّنا، وأرجو أن تشفع بي يوم المداينة “.
ارتعشت الرّاهبات لدى سماعهنّ هذا الكلام وخفن، وبدأت كلّ واحدة منهنّ تعترف جهاراً بالإساءات التي كانت توجّهها إلى إيسيذورا، من كلام وشاية أو نميمة أو تهكّم أو غيره. فحلّهنّ الأب من خطاياهن ومضى منصرفاً إلى منسكه.
مضت عدّة أيّام وإيسيذورا تلحظ إكرام الرّاهبات وتقديرهنّ لها. فانزعجت لهذا الأمر، وخشيت أن تخسر أجر تحمّلها وتواضعها، وأن تهوي في هوّة الكبرياء والزّهو. فانسحبت خفية من الدّير، ولم يعد يعلم أحد بمصيرها أو بمقرّها. لقد آثرت الهرب من المجد الباطل الوقتي لتتمتّع بالمجد الأبدي السّرمدي العتيد أن تحصل عليه في السّموات برفقة المجاهدين أمثالها الذين أرضوا الرّب.