الكآبة: الإدراك والروحانية
الأب د. جورج موراللي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
إن الكآبة هي ثالث اضطراب عقلي من حيث الانتشار، إذ يعاني منه ما يقارب 8% من السكان(Robins & Regier, 1991). تتنوع آثار الكآبة مع نتائج ماكرة لكل من المُعاني وعائلته ومجتمعه. عرف أيوب الكآبة وهو يخبرنا: “كَلَّتْ عَيْنِي مِنَ الْحُزْنِ [الكآبة]، وَأَعْضَائِي كُلُّهَا كَالظِّلِّ” (أيوب 7:17). ويقول لنا إرميا: “مَنْ مُفَرِّجٌ عَنِّي الْحُزْنَ [الكآبة]؟ قَلْبِي فِيَّ سَقِيمٌ.” (إرميا 18:8). عرف الرسل وآباء الكنيسة آثار الكآبة المؤذية. يقول الرسول بولس “الحزن [الكآبة] العالمي يولّد الموت”. هذا “الموت” هو موت عن كل العمل الاجتماعي والمهني المُتوَقَّع منّا في هذا العالم، وهو “موت روحي” للنفس يعوق نور محبة الله ويتركنا في ظلام اليأس. يخبرنا القديس يوحنا كاسيان: “لكن أولاً علينا أن نجاهد ضد شيطان الكآبة الذي يطرح النفس في اليأس. علينا أن نطرده من قلبنا. إن هذا الشيطان هو الذي لم يترك قايين يتوب بعد أن قتل أخاه، ولا يهوذا بعد أن خان معلمه”.
لأننا مخلوقون على صورة الله ومثاله، يمكننا أن نستعمل فكرنا لفهم الاضطرابات العقلية ومعالجتها، ومن بينها الكآبة. إن أفضل استعمال لعقلنا اليوم هو البحث العلمي. أحد ثمار هذا البحث هو النموذج الإدراكي-السلوكي لاختلال وظيفة العاطفة(Cognitive-Behavioral Model of Emotional Dysfunction (Beck, Rush, Shaw & Emery, 1979,; Ellis, 1962,; Morelli, 1987, 1988. 1996).). بحسب هذا النموذج، تصدر العواطف كالكآبة من اعتقادات ومواقف وإدراكات مشوّهة وغير عاقلة. إن الأوضاع، أي بعض الأحداث التي جرت أو الأشياء التي ذكرها أحدهم أو قام بها، لا تنتج اضطراباً عاطفياً ولا تسببه، بل بالأحرى نحن نقلِق أنفسنا بتفسيراتنا “غير العاقلة” لهذه الأوضاع. أظهر آخر أبحاث إيزارد Izard (1993) سبلاً جديدة للتنشيط العاطفي، من بينها أحداث تتعلّق بالنشاط الحسّي والحركي معاً، وأحداث عصبية مثيرة للعاطفة. من ناحية ثانية، أشار موريللي (1996) إلى أنّه بسبب التفاعل التبادلي لهذه الأحداث، فالعلاج الإدراكي-السلوكي هو بالعادة فعّال مع المرضى الذين يعانون من اضطرابات عاطفية تحرّكها أيّ من المجازات الثلاث (الإدراكية، الحسية-الحركية، العاطفية). وهكذا، فإن فهم التشوهات الإدراكية التي تنتِج عواطف مختلة وظيفياً، وبشكل أخصّ الكآبة، ضروري للتدخل السريري الفعّال.
يوجد ثماني تشوهات إدراكية. التجريدية الانتقائية (Selective Abstraction) وهي تركّز على حدث واحد فيما تستثني الأحداث الأخرى. جاك هو إحدى آخر الحالات التي عاينتها، وهو مهندس ركّز انتقائياً على تأنيب رسمي تلقّاه من المشرف عليه، فيما أهمل الثناء الذي تلقّاه قبل أسبوع من رئيس مدراء المشروع الذي يعمل عليه. هذا الإدراك الحسي غير الصحيح قاد إلى كآبته. الاستدلال الاعتباطي (Arbitrary Inference) هو في التوصّل إلى استنتاج لا تبرره الوقائع في وضع ملتبس. المهندس نفسه المذكور أعلاه، استنتج أن التقييم التالي (الذي يقدمه المشرف عليه) سوف لن يكون مرضياً. هذا قاده إلى مزيد من الكآبة. حمل الأمور شخصياً (Personalization) هي أن ينسَب سبب بعض الأحداث التي تجري إلى الشخص نفسه. مريضة أخرى، ليندا، أصيبت بالكآبة بسبب أنّ رئيسها ذكر، خلال أحد اجتماعات العمل الذي ضمّ موظفي القسم الذي تعمل فيه والبالغ عددهم 25 موظفاً، أنّ بعض أفراد القسم ليسوا “لاعبين جماعيين”. لقد أخذت الملاحظة مباشرةً بشكل شخصي، من دون أن يتوفّر أي دليل على أن الرئيس كان يوجّه كلامه إليها. الاستقطاب (Polarization) هو فهم الأحداث وتفسيرها على مبدأ الكلّ أو لا شيء. سينتيا، وهي إحدى مرضاي، أصيبت بالكآبة بعد حصولها على درجة “جيد جداً” في إحدى مواد الكلية. لقد “استقطبت” الأحداث إلى فئتين، طالب جيد – طالب سيء، ووضعت درجة “جيد جداً” في قطب الطالب السيء. لقد فشلت في أن ترى أن كل الأحداث ممكن ترتيبها على خطّ ممتد بين قطبين وأن درجة “جيد جداً” هي أقرب إلى “ممتاز” منها إلى “راسب” على هكذا الخط. التعميم (Generalization) هو الميل إلى رؤية الأمور في فئتين: دائماً أو أبداً. مريضة أخرى، ماري، وقعت في الكآبة خلال علاج متعلّق بالزواج حين استنتجت من دون سبب أن زوجها لن يتغيّر وسوف يبقى دائماً على ما هو عليه. لقد قادها قلقها إلى نمط محبِط من السلوك الذي زاد من بعدها عن زوجها وجعلها تضع زواجها في خانة الفشل الذي لم تكن ترغب فيه أبداً. التوقعات المتطلبة (Demanding Expectations) هي الاعتقاد بوجود قوانين وقواعد ينبغي احترامها. أتت كيم (Kim) إلى العلاج لأنّها كانت مكتئبة من وقوف ابنها في وجهها. لقد اعتقدت عن غير وعي بوجود “قوانين في الكون” تقول بأن على الأولاد أن يقوموا بما تطلبه الأمّهات وإلاّ فلها الحق في أن تغضب. يطلب منّا الله أن نطيعه. لقد أعطانا إرادة حرّة. المسيح نفسه، احترم الإرادة الحرة للمخلوقات التي أوجدها، كما يظهر من لطف تحذيراته. وعلى مثال المسيح، ينبغي بالأهل أن يفضّلوا الطاعة العاقلة من أبنائهم وأن يعملوا لتحقيقها بشكل بنّاء. قد يكون بنّاءً وجود برنامج للمكافآت على السلوك المناسب والعقاب على السلوك غير المقبول، وأن يُدار هذا البرنامج من دون غضب ولا قلق ولا كآبة. التفجّع (Catastrophizing) هو إدراك أن شيئاً ما هو سيء وفظيع وبغيض بنسبة أكثر من 100%. لقد تفاعلت كيم بشكل خاطئ مع وقوف ابنها في وجهها وكأن هذا التصرف هو “نهاية العالم”. أخيراً، التفكير العاطفي (Emotional Reasoning) هو الحكم بأن أحاسيس الإنسان هي وقائع. كانت ساندي تحسّ بأنّ مديرها لا يستلطفها. عندما سألتها كيف عرفت ذلك، أجابت بأنّ “أحاسيسها دائماً صحيحة”. لقد أخفقت في تمييز بين حقيقية الإحساس وقدرته على برهان الأشياء. على سبيل المثال، الناس في أيام كريستوف كولومبوس كانوا يحسّون بأن العالم كان مسطحاً، إلاّ إنّه بالرغم من قوة إحساسهم إنه لم يكن كذلك.
أشار Beck, (1976) إلى أنّ الكآبة تتضمّن فكرة “الخسارة” إلى جانب التشوهات الإدراكية بالإضافة إلى ما يسمّيه الثلاثية الإدراكية (cognitive triad): نظرة سلبية إلى الذات والعالم والمستقبل. بكلام آخر، إذا أراد الطبيب المعالِج أن يحلّل أقوال المرضى المكتئبين، فإن هذه المواضيع سوف تكون موجودة إلى جانب التشوهات الإدراكية. إن مثالاً مما سبق سوف يوضح هذا الأمر. يفكّر المهندس جاك، الذي تلقّى تأنيباً رسمياً من رئيسه، بخسارته لاحترام وتقدير رئيسه له وبالتالي يرى أنّه إنسان أقلّ قيمة، سوف ينظر إليه الآخرون على أنّه غير كفء، وقد يخسر وظيفته ولن يكون قادراً على إيجاد غيرها. تنتج هذه الحلقة الإدراكية المردودة من التشوهات والخسارة والثلاثية سقوطاً شديداً يعمّق الكآبة.
يتضمّن التدخل السرير الفعّال أولاً مساعدة المريض على التعرّف على التشوهات والمواضيع الإدراكية ووصفها. هذا يتبعه مساعدته على عملية إعادة تركيب التشوهات التي تتضمن ثلاث أسئلة مهمة: 1) أين الدليل؟ 2) هل هناك طريقة أخرى للنظر إلى الأمر؟ و3) هل الأمر هو على ما يبدو عليه من السوء؟ يمكن تصوير هذا مع جاك المذكور أعلاه. في إجابته على هذه الأسئلة قد يتوصّل جاك إلى إدراك حسي بديل وأكثر منطقية، “صحيح إن رئيسي انتقد مشروعي، لكن بالحقيقة، قد أثنى على عمل آخر قمت به حتى أن رئيس مدراء المشروع كان فعلاً مسروراً بعمل آخر كنت أقوم به”، “فقط لأني تلقيت تأنيباً رسمياً على غلطة ما لا يعني أن كل عملي سيء وغير مُقَدَّر وبالتأكيد هذا لا يعني أنني سوف أفقد وظيفتي وأُرمى خارجاً في الشارع”. بعد اتّباعه عملية إعادة التركيب العقلية هذه، بدأ جاك يحس بكآبة أقلّ من ذي قبل. الخطوة التالية كانت مساعدته على أن يصبح أكثر نشاطاً سلوكياً عن طريق معاونته في تفصيل الخطأ، أي في فهم كيفية حصول الخطأ ووضع خطة لتغيير هذه الظروف لتحقيق أداء أكثر فعالية في الوقت الراهن والمستقبل. تفاعل هذا التغير في السلوك مع إعادة التركيب المعرفية الجارية ما أدّى إلى كآبة أقلّ، أي تحسن في الحالة النفسية. إن تقنية إعادة التركيب المعرفية هذه تعمل مع كل التشوهات المذكورة أعلاه. ….
في حالة المريض الأرثوذكسي، ينبغي أن يبدأ العلاج الروحي متزامناً مع العلاج المعرفي السلوكي. الصلاة، القراءات المختارة، والأسرار تقدّم الشفاء الروحي للعقل والجسد والروح. على المعالج أن يهتمّ بألاّ يسيء المريض تفسير المقاطع الإنجيلية والقراءات الروحية التي يقرؤها مما يزيد باكتئابه. قد يتّخذ المريض أقوال أيوب: 4لأَنَّ سِهَامَ الْقَدِيرِ فِيَّ وَحُمَتَهَا شَارِبَةٌ رُوحِي. أَهْوَالُ اللهِ مُصْطَفَّةٌ ضِدِّي. هَلْ يَنْهَقُ الْفَرَا عَلَى الْعُشْبِ، أَوْ يَخُورُ الثَّوْرُ عَلَى عَلَفِهِ؟ هَلْ يُؤْكَلُ الْمَسِيخُ بِلاَ مِلْحٍ، أَوْ يُوجَدُ طَعْمٌ فِي مَرَقِ الْبَقْلَةِ؟ مَاعَافَتْ نَفْسِي أَنْ تَمَسَّهَا، هذِه صَارَتْ مِثْلَ خُبْزِيَ الْكَرِيهِ!” (أيوب 4:6-7). إذا توقفت القراءة هنا، فبالتأكيد سوف يعتبر المريض أنّ الله تخلّى عنه، على غرار ما فكّر به أيوب في البداية. بالطبع، أيوب مخلِص لله بالرغم من محنته، وفي نهاية المطاف كافأه الرب. بالمقابل يمكن أن تحلّ محل هذه الصلاة صلاة أخرى فيها رجاء: “أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي. خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي. أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.” (مزمور 19:21-22).
إن الكآبة ماكرة، ليس فقط لأنّها تسرق مباهج الحياة وآمالها وطموحاتها، بل لأنّها تسرق منّا أيضاً رؤية الله. في أعماق اليأس نحن لا نصلّي لمَن لا نراه. نحن نرى أنفسنا مقطوعين عنه، فيما هو مصدر الحياة. مع هذا، باستعمالنا عقلنا، يمكن أن نستخدم المقاربات العلاجية العلمية التي، كما ذكرنا سابقاً، أثبتت فعالية في معالجة الكآبة. إنّها أمور متى اقترنت بإيماننا تساعدنا على أن يشفى فكرنا وجسدنا وروحنا ونعود إلى الاتّحاد بالله.
OCAMPR EJournal, Volume I Number 1 (September 2003)