أنستاسيّا القبرصيّة
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع – دده، الكورة
زارت إحدى النّساء القبرصيّات يوماً القدّيس يوحنّا الرّحوم، فبسطت شعرها على قدميه مبلّلة إيّاهما بالدّموع ومتسلّحة بالإيمان الوطيد وقالت له: “أيّها السّيّد المثلّث الغبطة، لقد اقترفت خطيئة كبيرة لا تستطيع إذن بشر سماعها، ولكنّي أعلم أنّك، إن أردت، فأنت قادر أن تسامحني لأنّ الرّبّ قال للرّسل: “كلّ ما حللتموه على الأرض يكون محلولاً في السّماء، وكلّ ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطاً في السّماء: متى:18:18”.
فلمّا سمع القدّيس هذا خاف أن يسدّ أذنيه عن توسّل المرأة فيكون سبباً في هلاكها فقال لها:
– إن كنت حقيقة تؤمنين، أيّتها المرأة، بأنّ الرّبّ سوف يغفر لك خطيئتك بواسطتي أنا الحقير فاعترفي بها لي.
– لا أظنّ بأنّ أذن بشر تستطيع تحمّل سماع اعترافي، لكنّي واثقة بأن الرّبّ سوف يحميك أنت لدى سماعها.
– إن كنت تخجلين من البوح بها، اذهبي واكتبيها لي بأيّة لغة أردت ثم اعطيني الورقة.
– بالحقيقة، يا سيّدي، لا أستطيع.
– (بعد صمت قصير) أتستطيعين بعد كتابتها أن تختميها ثم تسلّميها لي؟
– نعم، يا سيّد، سأفعل هذا. ولكنّي أستحلفك بنفسك الملائكيّة ألا تقع هذه الورقة بيد إنسان.
فوعدها القدّيس بأن لا يدع أحداً يفتح الورقة أو يقرأها. فذهبت تلك وكتبت خطيئتها بخطّ يدها، ثم ختمت الورقة وقصدت القدّيس المغبوط. فأخذها ذاك وخبّأها. وبعد خمسة أيّام رقد دون أن يترك أيّة وصيّة أو إشارة بشأن الورقة.
وصدفة، أو بالأحرى بتدبير إلهيّ، لم تكن المرأة في المدينة يوم رقاد البطريرك. وأغلب الظنّ بأنّ الله سمح بهذا ليُظهر دالّة القدّيس لديه.
وصلت أنستاسيّا، وهذا كان اسمها، إلى المدينة في اليوم الثّاني لدفن البطريرك في كنيسة القدّيس تيخون. وما إن علمت بموت البطريرك، حتّى اعتراها للحال هيجان شديد وكأنّه قد مسّها جنون، ظانّة بأنّ الورقة التي سلّمتها له أصبحت في دار الأسقفيّة وستُفضح خطيئتها أمام الملأ. فركضت مهرولة إلى حيث يرقد القدّيس، وطفقت، وكلّها إيمان، تتوسّل إليه، وكأنّه حيّ أمامها، وتصرخ من أعماق قلبها وتقول:
” يا رجل الله، لم أستطع أن أشرح لك ذنبي الكبيراً جدّاً، وها هو الآن قد أصبح معروفاً لدى الجميع. يا ليتني لم أُفصح لك عن سرّي. يا لشقاوتي وبؤسي. ظننت بأنّي سأُعتق من خجلي، وها قد أصبحت سخرية للكلّ، وعوض الشّفاء لقيت الإهانة. ما كانت حاجتي في اعترافي لك بمشكلتي؟ ولكنّي لن أفقد إيماني ولن أكفّ عن البكاء فوق ذخائرك المقدّسة حتّى أعلم ماذا سيحصل لي. إنّك لم تمت أيّها القدّيس بل أنت نائم. إنّه مكتوب بأنّ الأبرار يحيون إلى الأبد (حكمة سليمان:15:5) فأنا لا أطلب شيئاً سوى أن أعلم ماذا حصل للورقة التي سلّمتها إليك.
إنّ الرّبّ الذي قال وقتاً ما للكنعانيّة: “إيمانك خلّصك: متى 28:15″، أراد أيضاً أن يؤكّد لها شفاءها ككنعانيّة أخرى.
بقيت أنستاسيّا ثلاثة أيّام قرب ضريح القدّيس دون أن تأكل شيئاً البتّة. وفي الليلة الثّالثة وبينما كانت تكرّر نفس الكلام، ممتلئة إيماناً وذارفة الدّموع السّخينة، فجأة خرج القدّيس من قبره يرافقه أسقفان آخران كانا مدفونين معه، الأوّل عن اليمين والآخر عن اليسار وقال للمرأة: “إلى متى أيّتها المرأة تزعجين الرّاقدين هنا؟ اتركيهم في هدأتهم. لقد بلّلت دموعك ثيابي”. ثم سلّمها الورقة المختومة مضيفاً: “خذيها. أتعرفينها؟ افتحيها لتري ما فيها”. ثم ما لبثوا أن عادوا ثلاثتهم إلى مثواهم. وأمّا المرأة فعندما عادت إلى نفسها وجدت الورقة لا تزال في يدها، فأخذت تتفحّصها بتدقيق فوجدت الختم على حاله والورقة غير مفضوضة، فراحت تفتحها بيد مرتعشة، وإذا بالورقة بيضاء لا كتابة فيها سوى هذه الملاحظة القائلة: “بشفاعة القدّيس يوحنّا غُفرت لك خطاياك”.