القدّيس نيل سورسكي
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة
لا يُعرف عنه الشيء الكثير، وإنّما أزاحت الستار قليلاً عن حياته المؤلّفات التي تركها لنا حول تعاليم وقواعد الحياة الرهبانيّة.
اسمه نيل مايكوف. وُلد عام 1433 من عائلة ارستقراطيّة. تربّى في موسكو، وكانت له علاقات حميمة مع كبار شخصيّات عصره لما تميّز به من ثقافة عالية وفكر ثاقب.
مقت حبّ العالم في سنّ مبكّرة، وأحبّ الحياة النسكيّة التوحديّة. وبسبب شغفه وحبّه للحياة الرهبانيّة الملائكيّة، توجّه إلى دير القدّيس كيرلّس في منطقة بيلوزرسك Belozersk حيث ارتدى الزيّ الرهبانيّ برتبة مبتدئ. بدأ حياته تحت إرشاد الأب الشيخ الفطن والصارم في الوقت نفسه باييسي إياروسلاف
تاق نيل سورسكي منذ حداثته إلى حياة الوحدة والتأمّل. أحبّ الفقر والتجرّد الكاملين. كان يتطلّع إلى حياة أكمل وأسمى، لذا انكبّ على قراءة سير الآباء القدّيسين الذين عرفوا الحياة الهدوئيّة بممارسة الصلاة الدائمة أمثال نيلس وغريغوريوس السينائيّين، وسمعان اللاّهوتي الجديد وسواهم..
لا نعرف بالضبط متى ترك نيل دير القدّيس كيرلّس، ولكن يرجّح أن يكون قد تمّ ذلك بين عامي 1473 – 1489، لكي يقوم برحلة إلى القسطنطينيّة، ثمّ إلى جبل آثوس حيث أمضى عدّة سنوات، زار خلالها الأديار، وتعرّف على الحياة الروحيّة، وخبرات النسّاك العميقة الذين كانوا قد بلغوا إلى درجات عالية من الكمال.
عاد نيل إلى روسيا بعد غياب دام ثلاث عشرة سنة تقريباً بفهم ونظرة جديدين للأمور الروحيّة. لذلك لم يعد إلى ديره، لكنّه ابتنى لنفسه إلى جوار الدير قلاّية صغيرة عاش فيها حياة الهدوء التي طالما تمنّاها. ثمّ، وهرباً من لقاء الناس الذين كانوا يقصدونه، ابتعد مسافة خمسة عشرة كيلومتراً تقريباً عن الدير، حيث استقرّ على ضفّة نهر سورا Sora ، وهناك بنى كنيسة صغيرة على اسم القدّيس يوحنّا المعمدان، حيث دُفنت فيها في ما بعد بقاياه المقدّسة، وقلاّية واحدة. بدأ يتوافد إليه عدد من التلاميذ، فبنى معهم كنيسة أخرى كبيرة، وبدأ ينظّم حياتهم على غرار حياة نسّاك الإسقيط في آثوس. لذلك سمّي ذلك المكان بإسقيط سورا، ويتألّف من مجموعة من القلالي تتناثر حول الكنيسة، يعيش فيها الرهبان الذين يأتون إليها في أيّام السبوت والآحاد والأعياد الكبرى أو السهرانيّات.. ويُعتبر القدّيس نيل أوّل مؤسس لحياة الإسقيط والحياة التأمّليّة بشكل عام في روسيا.
تزايد عدد رهبان إسقيط سورا، وكانت حياتهم تشبه نوعاً ما حياة العيشة المشتركة، فكلّ شيء مشترك، إذ لا يملك الراهب شيئاً خاصّاً به، ولا يستطيع الإخوة الخروج إلاّ بإذن من الرئيس وعند الضرورة، فهم لم يميلوا لترك الإسقيط للاهتمامات الخارجيّة مؤمنين بأن محبّة الراهب نحو أخيه تُترجم برفع الصلاة من أجله. يشترك الرهبان في العمل، والمائدة، والخدم الإلهيّة، ويمضون باقي الأوقات في العمل اليدويّ حسب تحديد الرئيس، وخاصّة في نسخ وتصحيح الأخطاء الواردة في كثير من المخطوطات ذات الطابع النسكيّ. ولكنّ أهمّ ما كان يتميّز به نظام الإسقيط هو التدرّب الدائم على الصلاة المستمرّة، وقراءة الكتب المقدّسة وعيشها حسب التقليد الآبائيّ.
تقول المصادر التاريخيّة إنّ نيل قطع خلوته المحبوبة مرّتين: الأولى ليهتمّ بمشكلة الهرطقة التي ظهرت في منطقة نوفغورود بين سنة 1470 و1480 والتي كانت تبثّ شائعات حول نهاية العالم التي سوف تتمّ عام 1492. ومرّة ثانية ليبحث في قضيّة ممتلكات الأديار التي يدير شؤونها الرهبان فتشغلهم عن هدفهم الأساسيّ. إنّ هذا يدلّ على أنّ الرهبان أو المتوحّدين لا يعيشون على هامش حياة الكنيسة غير عابئين بما تتعرّض له من المخاطر، بل يتركون صوامعهم وخلوتهم عند الضرورة لأنّ الرهبان هم قلب الكنيسة وحماتها، فهم لم يتركوا العالم إلاّ من أجل العالم، وعندما يهتمّون بخلاص أنفسهم وتقديسها، إنّما يعملون بطريقة خفيّة على خلاص العالم وتقديسه، فهم واحد مع العالم وإن اعتزلوا عنه.
توفي في 7 أيّار 1508 تاركاً وصيّة تعبّر عن عمق تواضعه يقول فيها: “أنا نيل غير المستحقّ، أطلب وأرجو من رؤسائي وإخوتي الذين شاطروني هذه الحياة أن يحقّقوا لي آخر أمنية، وهي أن يطرحوا جسدي بعد موتي في الصحراء لتأكله الوحوش وحيوانات البريّة، إذ أخطأ خطايا قبيحة كبيرة تجاه الله والبشر، وليس مستحقّاً لأن يُدفن ولا لأن يُكرَّم. أرجو أن تصلّوا من أجل نفسي الخاطئة واغفروا لي كما أنا أغفر لكم، وليهبنا الله جميعاً غفران الخطايا”. كما ترك مؤلّفات مهمّة تتضمّن قوانين للتدرّج في حياة الكمال واكتساب الفضائل، وعدّة رسائل وإرشادات روحيّة موجّهة للناس أجمع وخاصة للرهبان.
تتجلّى، وبدون شك، قداسة نيل المميّزة من خلال كتاباته. لقد جمع فتات الخبز الذي كان يسقط عن مائدة الآباء القدّيسين، ونقلها للذين يهتمّون بخلاص نفوسهم.
من أقوال القدّيس
* ليست القداسة مجرّد نتيجة لطريقة عيش يتبعها الإنسان في حياته، إنّما هي الشرط الأساسيّ للوصول إلى الله.
* النفس المحبّة لله تتعلّق به وحده. الخطوة الأولى في سبيل الرجوع إلى الله هي أن نبتعد عن كلّ ما هو عالميّ، ونتحد قلوبنا بالله.
* الخطر الأكبر الذي يقف في طريق الكمال هو اتّباع إرادتنا الشخصيّة.
* لا يمكن أن تكون التجربة التي تعترضنا فوق طاقتنا، لأنّ نعمة الله تغلبها.
* إن الله لا يسمح للنفس التي تعتمد عليه أن تسقط أبداً، لأنّه يعرف ضعفنا وقوّتنا، ويعرف إمكانيّة كلّ نفس بشريّة.
* لا تجعل المصاعب ثقيلة عليك كالجبال، بل تقبّلها بإيمان وصبر، لأنّ الله يرعاك، ويرى كلّ شيء يحصل، فلا يصيبك شيء دون إرادته وبسماح منه. يرسل الله إليك التجارب، من جرّاء رحمته لك، حتى إذا تحمّلتها بشكر وصبر تنال الإكليل.
* تحاشَ، يا أخي، أن تسمع أو ترى هفوات الآخرين، لأنّ هذا يفقد النفس حرارة الروح.
* من يوجّه اهتمامه لتفحّص ضعفات الآخرين، يتوقّف تلقائيّاً عن البكاء على خطاياه الشخصيّة.
* الطريقة المثلى لتقديم الإحسان، بالنسبة للأديار، هي أن تمنح بسخاء التعليم والإرشاد الروحيّين للذين يطلبونه. وهكذا يغدو الدير منبعاً روحيّاً تستقي منه النفوس التوجيه إبّان التجارب والشدائد.
* طريق القداسة ممكنة للجميع، إنّما يغدق الله النعم على الذين يطلبونها بمحبّة وخشية عن طريق الصلاة الدائمة وحفظ الوصايا.
* لا يوجد عند الله طريقة أفضل لتقديس من يحبّه سوى التجارب.
* لا تحكم على أحد حتى ولو بدت لك كلّ أعماله سيّئة، فالله قادر أن يخلّصه.
* لا معنى للحياة الحاضرة إن لم تكن تمهيداً للحياة الأبديّة. فهذه الحياة التي نحياها الآن هي عودة مستمرّة إلى الله، مجتهدين دوماً، وفي كلّ أمر، لتتميم إرادته القدّوسة فقط.