في جنّاز الأربعين لأحد الأحبّة

في جنّاز الأربعين لأحد الأحبّة

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يا إخوة، يسوع حاضر في حياتنا وهو المحور. كلّ شيء ينطلق من يسوع، ويصبّ في يسوع. لا قيمة لحياتنا من دون الرّبّ يسوع المسيح. وكما يقول الرّسول بولس: “الحياة لي هي المسيح، والموت ربحٌ”. طبعاً، هذا القول يتخطّى مدارك البشر. كيف يمكن أن يكون الموت ربحًا في حياة الإنسان؟! كلّ الناس يختبرون أنّ الموت خسارة، لا بل الموت هو الخسارة الكبرى. والإنسان يقيم في الحزن والأسى لأنّه يموت. ربّما لا يتكلّم النّاس دائمًا على الموت. لكن، كلّ إنسان، في قرارة نفسه، يحمل غصّةً، يعاني ويتألّم. ومهما عَمِل، فهو لا يشعر بالفرح العميق، لأنّه يعرف أنّ كلّ شيء عابر، وأنّ الموت ينتظره في وقت من الأوقات. هذه خبرة البشر، هذه خبرتي وخبرتكم وخبرة كلّ إنسان. ومع ذلك، فإنّ الرّسول المصطفى بولس يقول عن الموت إنّه ربح. كيف يمكن أن يكون ذلك؟!

الحقيقة، يا إخوة، أنّ تجسُّد الرّبّ يسوع قد غيَّر المقاييس، تجسُّد الرّبّ يسوع المسيح غيَّر المفاهيم، لأنّ الرّبّ يسوع المسيح ذاق الموت. لكنّه، عندما ذاق الموت، تحوّل الموت فيه إلى قيامة. لذلك، نحن لا نقف أبدًا، في الكلام على يسوع، عند حدود الموت. الصّليب، بالنّسبة إلينا، ليس علامة الموت بقدر ما هو علامة القيامة. يسوع، بتجسُّده، أنتَج واقعًا جديدًا وهو الموت المحيي. ابن الله، بتجسُّده، أنتَج حزنًا بهيًّا مُفرحًا. طبعاً، لكي نختبر هذا الموت المحيي وهذا الحزن البهيّ نحتاج دائمًا إلى أن نتمسّك بأهداب يسوع، لأنّه هو الّذي حوَّل كلّ شيء، في حياتنا، من الحزن إلى الفرح، ومن الموت إلى الحياة. أنا هو الحياة، “أنا هو الطّريق والحقّ والحياة”، “مَن آمن بي، ولو مات فسيحيا. ومَن كان حيًّا وآمن بي، فلن يرى الموت إلى الأبد”.
هناك أمران من الضّروريّ أن نتأمَّل فيهما جيّدًا، اليوم. أحدهما يختصّ بطبيعة البشر، وهو أنّ الحياة الّتي أُعطيت لنا، في الجسد، تتناقص بصورة دائمة، وتصبّ في الموت. هذه هي الحياة البشريّة، هكذا هو الإنسان. لكنّ يسوع أعطانا شيئًا جديدًا، أعطانا الصّليب. والصّليب هو الموت الّذي يصبّ في الحياة. نحن، المؤمنين بالرّبّ يسوع، نعلَم جيّدًا أنّنا كلّما اقتربنا من نهاية حياتنا، على الأرض، اقتربنا من التّمَلّؤ من حياة الرّبّ يسوع. أعود وأُكرِّر: المؤمن بالرّبّ يسوع يعرف أنّه كلّما اقترب من نهاية حياته، على الأرض، اقترب من التّملّؤ من حياة الرّبّ يسوع، بحيث إنّ الموت في الجسد هو المَعبَر الّذي ينقلنا من الحياة المائتة إلى الموت المحيي. إذا أراد الواحد منّا أن يفهم، فعليه أن يقرأ قليلاً الأدب الرّهبانيّ، وكيف يتعاطى الرّهبان تقليديًّا مع الموت. بالنّسبة إلى الرّهبان، ساعة المنى هي ساعة الموت. هم ينتظرون ساعة الموت، لا لأنّهم يحبّون الموت. ليس أحد منّا محبًّا للموت. بل هم ينتظرون ساعة الموت لأنّ هذه الأخيرة هي الّتي تلقيهم بالكامل في حضن الرّبّ يسوع المسيح. هذا الّذي أقوله لكم ليس برسم الإدراك العقليّ، إذ لا يمكننا إطلاقًا أن ندرك هذا الواقع الجديد الّذي أسبغه تجسُّد ابن الله. هذا أكبر من إدراكنا بكثير. لكنّنا بإزاء سرّ، والسرّ، في الكنيسة، هو الحقيقة الّتي تفوق مدارك الإنسان، تفوق مدارك البشر. البشر لا يمكنهم أن يفقهوا السّرّ الإلهيّ. ومع ذلك، يختبرونه، يعرفونه، يذوقونه. يسوع المسيح قال لأبيه السّمويّ: “أَجِز عنّي هذه الكأس”، أي [أَجِز عنّي كأس الموت]، وقد قال ذلك كإنسان، وما كان بإمكانه إلاّ أن يقول ذلك، لأنّه كان إنسانًا بكلّ معنى الكلمة. لكنّه لم يتوقّف عند هذا الحدّ، بل قال: “من أجل هذه السّاعة أتيت”. لذلك، قال الرّبّ يسوع لأبيه السّمويّ: “لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك”. وعلى هذا سلَّم نفسَه بالكامل بين يدَي الآب السّمويّ: “في يديك أستودع روحي”. هذا هو التّعبير الأكمل عن إيماننا بالرّبّ يسوع، أن نُسلِم أنفسَنا بين يدَي الآب السّمويّ: “في يديك أستودع روحي”. ماذا يَنتُج عن هذا التّسليم؟!
– ينتج عنه دخول الحياة الجديدة. آباؤنا يقولون إنّ الإنسان، بالموت في الجسد، يغمض عينيه، لكنّه بالإيمان بالرّبّ يسوع المسيح يجد نفسَه فجأة، من حيث لا يدري، في النّور الإلهيّ، في كنف الله، في عِشرة الملائكة، في عِشرة القدّيسين. الإيمان هو بالضّبط أن نُسلِم لهذه الحقيقة الجديدة الّتي كُشفت لنا. نحن لا يمكننا، كبشر، إلاّ أن نتألّم. لكنّنا نتخطّى دائمًا ما هو للبشرة، نتخطّى دائمًا ما هو للإنسان، لأنّنا نؤمن بيسوع ونعرف أنّ الموت ينقلنا إلى الحياة الأبديّة. الموت، إذا كنّا مؤمنين بيسوع، ينقلنا دائمًا إلى واقع جديد. إن لم يكن المسيح قد قام، فباطلٌ إيماننا. المسيح قام! لا ينسيَنَّ أحد منّا هذا الأمر على الإطلاق، ولا يجعلَنّ أحد منّا نفسَه أسير ما هو لهذه البشرة. هذا الجسد لا بدّ له، في وقت من الأوقات، من أن ينحلّ. لكنّ انحلاله هو المؤشِّر إلى أنّنا قد تحرَّرنا من كلّ ما يأسرنا ويشدّنا إلى الموت، وهو ينقلنا، في آن معًا، إلى الحياة الجديدة الّتي يعطيها الرّبّ يسوع وبوفرة. نحن لا نتعزّى بشيء إلاّ بقيامة يسوع. يسوع، بالنّسبة إلينا، هو الكلّ، هو بؤبؤ العين، هو الحياة، هو الفرح، هو الرّاحة. حياة الإنسان لا قيمة لها على الإطلاق إلاّ في يسوع. لهذا السّبب، لا يضعنّ الواحد منّا الموت أمام عينيه، ويجلس لينوح ويبكي. هذا لا ينفع في شيء. فقط الأغبياء يفعلون ذلك! الّذين يريدون أن يجرِّحوا أنفسهم يفعلون ذلك. أمّا الّذين يؤمنون بيسوع، فيتمسّكون بكلمة الصّلاة. الّذين يؤمنون بالرّبّ يسوع المسيح هؤلاء يردِّدون اسمه على الدّوام: “أَللّهمّ بادر إلى معونتي، يا ربّ أسرع إلى إغاثتي”، ويتعزّون بالرّوح المعزّي، بروح الله. وروح الله معطىً لنا. نحن نتعزّى به، ولا نتعزّى بشيء آخر على الإطلاق. الذّكريات شأنٌ بشريّ لا بدّ منه. ولكن، لا يتوقفنّ أحد منّا عند حدودها. نحن لا نتوقّف إلاّ عند حدود الملكوت، نتوقّف عند عتبة الملكوت، نتوقّف عند ذِكر الله. وبِذِكر الله وحده، تطمئنّ قلوبنا! بذِكر اسم الرّبّ يسوع، يطمئنّ قلب كلّ واحد منّا. الرّبّ الإله يُسبِغ، إذ ذاك، تعزيته ونعمته على القلب الّذي يلهج بذِكر الله، بذِكر يسوع. هذا هو القلب الّذي يتعزّى. التّعزية تأتي دائمًا من فوق، من عند أب الأنوار، من عند روح الرّبّ. ونحن قوم ليس عندنا شيء نتمسّك به سوى هذا العزاء. فيما عدا ذلك، الإنسان لا يمكنه إلاّ أن يقبع في ظلمة هذا الدّهر، وفي أحزانه. فقط يسوع هو الفرح، فقط روح الرّبّ هو المعزّي، فقط الآب السّمويّ هو ما نتشوَّف إليه لنقيم في حضنه.
اليوم، يا إخوة، إذ نقيم ذكرى لحبيبنا نجيب، الّذي رقد منذ حوالى أربعين يومًا، نعرف معرفة يقينيّة أنّ الآلام الّتي مرّ فيها قد جعلت منه شهيدًا. والكنيسة، في الحقيقة، هي كنيسة شهداء. ونجيب صار شهيدًا. الآلام الّتي كابدها لم تذهب سُدىً، بل جعلتْ منه إنسانًا في صحبة الله. نحن لا نفهم ذلك إطلاقًا، نحن لا نفهم سرّ الألم. نحن نتألّم، لكنّنا لا نفهم سرّ الألم. إلاّ أنّنا نعرف أنّ يسوع عَبَر بالصّليب، وعبوره بالصّليب كان انصِبابًا في القيامة. وفي هذا الزّمان، نعاين، بشكل متزايد، أنّ آلام البشريّة في ازدياد. طبعًا، الوجه البشريّ لهذه الآلام وجهٌ محزن جدًّا. ولكن، هناك وجهٌ آخر للآلام، وهو وجه خلاصيّ. الله يخلِّص البشريّة بالآلام. في الدّير، الرّهبان يتألّمون كثيرًا. لكنّ الآلام لا تُفرَض عليهم. الرّهبان، في الدّير، يقتبلون الآلام، يقتبلون آلام الصّوم، يقتبلون آلام الصّلاة، آلام السّجود، آلام السّهر… هم يتعبون في كلّ حين، ويُقبِلون على الآلام بملء إرادتهم. وهذا الإقبال بالذّات، هذا الحَمْل الطّوعيّ للصّليب هو الّذي يجعلهم شركاء في صليب الرّبّ يسوع المسيح؛ وتالياً، في قيامته. في العالم، أي خارج الدّير، الرّبّ الإله يشاء أن يخلِّص البشريّة، وإذ لا تشاء البشريّة أن تخلُص طوعًا، عن إرادة، يفرض الرّبّ الإله عليها مذاق الألم، لأنّ الإنسان، بذوقه الألم، يمتدّ إلى الرّبّ يسوع، ويدرك أنّ الرّبّ يسوع وحده هو الحياة. في الأسبوع الماضي، أعطينا مثلاً يستحق أن نكرِّره. لو كان عندنا عشرة أشخاص يتمتّعون بكلّ ما يشتهونه في هذا الدّهر، لديهم كلّ شيء: المال، والصّحّة، وكلّ ما يرغبون فيه يجدونه بين أيديهم. من أصل هؤلاء العشرة أشخاص، على الأكثر واحد فقط يأتي إلى الرّبّ. أمّا التّسعة، فيذهبون وينشغلون بأمور هذا الدّهر، ويكتفون بها. وعلى العكس، إذا أتينا، اليوم، بعشرة أشخاص، وكانوا كلّهم مرضى بالسّرطان أو بغيره، وكلّهم “مضروبين” بأوجاع هذا العمر، ومصائب هذا الدّهر؛ فمن أصل عشرة أشخاص، أغلبُ الظّنّ أنّ تسعة يأتون إلى الرّبّ. ماذا نستنتج من ذلك؟ – نستنتج أنّ الإنسان، في الواقع الّذي هو فيه، بات في حاجة إلى الآلام لكي يخلُص. يبدو أنّ معظم البشريّة، في واقعها الرّاهن، لا يمكنها أن تخلُص من دون أن تعبر في أتون الآلام. لذلك، تزداد الآلام يومًا بعد يوم. الطّبّ، مثلاً، قد تقدّم كثيرًا، اليوم. ومع ذلك، فإنّ الآلام تزداد بدلاً من أن تنقص. هذا كلّه لأنّ واقع البشريّة يتردّى. من الصّعب جدًا أن يفهم الإنسان كيف أنّ الرّبّ يحبّ الإنسان بالألم والموت. هناك إنسانٌ مصريّ كان لديه مصنع مهمّ جدًّا، وكان قد وضع كلّ جهده في هذا المصنع. وفي إحدى اللّيالي، احترق المصنع، واخترب بيت هذا الإنسان؛ فلم يعد لديه شيء. فجاء كاهنٌ إليه ليعزّي قلبه، وقال له: “يا حبيبي، ما حصل هو قبلة من عند الرّبّ. لا يمكنك أن تفهم الآن، لكنّك ستفهم فيما بعد”. إذًا، حين يكون الإنسان في وسط الآلام، لا يكون بإمكانه أن يستوعب. لذلك، فإنّ طرق الله مختلفة عن طرق البشر. الإنسان الّذي أُصيب بهذه المصيبة هدأ، وقَبِل ما قاله له هذا الكاهن البسيط، وصار يعمل كموظّف، بعد أن خسر كلّ شيء. وكان يصلّي في كلّ حين، ويقول لله: “يا ربّ، لتكن مشيئتك، كما في السّماء كذلك على الأرض”. ومن ذلك الحين، أخذ يقبل من يد الله كلّ شيء، ولا يطلب شيئًا لنفسه على الإطلاق. لم يعد يريد شيئًا سوى رضى الله، وذلك لأنّه رأى أن “ليست لنا ههنا مدينة باقية”، كلّ شيء يَعبُر، ولا يبقى هنا على الإطلاق. إن لم نَبنِ مدينتنا هناك، فلن يبقى لنا ههنا شيء على الإطلاق. هذا الإنسان، إذاً، أخذ يتروّض على روح الرِّضى، وبدأ يصلّي في كلّ حين، ويصوم، ويأكل خبزه بعرق جبينه، ويشكر في كلّ حين، ويمتنع عن التّذمّر؛ فمرَّت عليه سنوات تعلّم فيها أن يكون مؤمنًا بالله، وأن يسلِّم نفسه لله بالكامل. هذه تعلّمها عبر السّنوات. وكان يتألّم كثيرًا. لكنّه كان يتمتّع برجاء كبير؛ فسلَّم حياته للرّبّ الإله. بعد ذلك، أخذت النّعمة تفعل في حياته. وما إنْ مرّت عشرُ سنوات على نكبته، حتّى أخذ الخير يتدفّق عليه تدفُّقًا. بعد عشر سنوات، عاد واقتنى ثروة أعظم بكثير من الثّروة الّتي كانت له سابقًا، والرّبّ الإله وفَّقه في كلّ مسيره. والأهمّ من ذلك أنّ تعاطيه مع هذه الثّروة الّتي جمعها من جديد كان مختلفًا بالكامل، فقد صار يعتبر الفقير شريكًا له في ما مَنّ عليه الرّبّ الإله، وكان يشكر ويصلّي دائمًا. إذاً، كلّ طريقة حياته تغيّرتْ. إذ ذاك فقط، فَهِم ما قاله له ذاك الكاهن مرّة: “يا بنيّ، هذا الّذي حصل لك قبلة من عند الله”. لذلك، فإنّ كلّ ما نَعبُر فيه من آلام هو من محبّة الله، وإنْ كنّا لا نفهم. فقط علينا أن نقبل. ليس المطلوب أبدًا أن نفهم. الإنسان لا يمكنه أن يفهم، فقط عليه أن يقبل، وأن يقول لربّه: “لتكن مشيئتك، أنت أعلَم”.
إذًا، نجيب، بالنّسبة إلينا، قد عبَر إلى حيث نشتهي نحن أن نعبر أيضًا. نحن نشتهي أن نعبر إلى عِشرة الله، وإلى محبّة يسوع. عيوننا إلى هناك، ويجب أن تبقى مسمَّرة على ما هو هناك. لذلك، نجيب بعد الّذي مرّ به، صار مُصلِّيًا وشفيعًا لنا عند الرّبّ الإله، وصار في حضرة الله، وفي نور الله. لذلك، هو الآن في الفرح، وليس أبدًا في الحزن. ولا يحقّ لنا إطلاقًا أن نستسلم للحزن عليه، لأنّنا إن استسلمنا للحزن عليه، نكون، في الحقيقة، مجموعة من البشر الأنانيّين الّذين يريدون الآخرين لأنفسهم. ونحن علينا أن نودع أنفسنا وبعضنا بعضًا وكلّ حياتنا المسيح الإله. نجيب استودعناه في يدي الله الحيّ، وهو الآن في الفرح. ونشكر الله على كلّ ما حدث، وإن كنّا تألَّمنا ونتألّم، وإن كنّا لم نفهم ولن نفهم بعقولنا. لكنّ ما جرى كان قبلة من عند الله، لأنّ ما ارتحل إليه نجيب كان وجهَ ربّه، ونحن نشتهي أن نرتحل إلى هناك. ألا كان الله معه وأعاننا على الّلقيا في حضن الله. آمين.

عظة يوم الأحد 26 تمّوز 2009 حول متّى9: 27- 35.

Leave a comment