الشهيد في الكهنة حبيب (خشّة)1 ( U 16 تموز 1948)

الشهيد في الكهنة حبيب (خشّة)1

( U 16 تموز 1948)

تاريخه

ولد حبيب في مدينة دمشق، سنة 1894 . وهو البكر في عائلة قوامها ثمانية أولاد. أبوه هو الشهيد في الكهنة نقولا خشّة (أنظر سيرته في غير مكان).

تلقّى حبيب دروسه الابتدائية والثانوية في مدرسة عينطورة اللبنانية. وفي السنة 1914 حاز، من الجامعة الاميركية في بيروت، على شهادة البكالوريوس في الآداب. ثم انتقل والعائلة الى مرسين، قبيل الحرب العالمية الأولى، حيث خدم والده الرعيّة الأرثوذكسية وكلّل حياته بالشهادة للمسيح.

إثر ذلك نزحت العائلة الى بور سعيد. وفيها تزوّج حبيب من وديعة توما، إحدى بنات العائلات السورية المهاجرة، سنة 1922 .

عمل حبيب في بور سعيد محاسبا ومترجما لحساب شركة “وورفر للنفط والتصدير”. كان ذلك بين العامين 1922 و 1924 . ومنها انتقل الى فرع الشركة في بيروت.

استمر حبيب موظفا حتى العام 1931 حين قدّم استقالته وفي نيّته أن يقتبل الكهنوت. يومذاك انتقل من بيروت الى دمشق. لكنه اصطدم بمعارضة زوجته له، فانتظر سنة كاملة حتى لان موقفها ثم سيم كاهنا سنة 1932 في الكاتدرائية المريمية.

خدم الخوري حبيب الرعية المريمية، في دمشق، حتى العام 1935 تنقل بعدها بين بور سعيد ودمشق والقاهرة الى العام 1943 حين استقرّ في العاصمة السورية بصورة نهائية.

اهتم الخوري حبيب بالآثار القديمة وانكبّ على دراستها، خصوصا ما تعلّق منها بالأديان. وكان قد شرع بوضع تأليف عنها.

وفي 16 تموز من العام 1948، اذ كان في خلوة في قرية عرنة (جبل الشيخ)، خرج باكرا الى موقع جميل قريب منها، متأملاً مطالعاً مصلياً، فالتقاه عدد من المهربّين فأمسكوه وعذّبوه، لكونه كاهناً، عذاباً مبرحاً ثم قتلوه.

أسرته2

أنجب الخوري حبيب خمسة أولاد: جوليت، مرسيل، فدوى، نقولا وسليم. سليم، الأصغر، ولد خلال السنة الأولى من كهنوت أبيه. وبعد ذلك بسنتين أو ثلاث رقد نقولا عن خمس سنوات. يومها كان الخوري حبيب في بور سعيد والعائلة في دمشق. فأول ما التقى زوجته بادرها بالقول: “الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركا”.

كانت وديعة، الزوجة، امرأة تقيّة فاضلة، كريمة النفس، محبّة للخير، قلّما تلقاها في أوقات فراغها جالسة الا والكتاب المقدّس أو كتاب الصلوات في يدها. وقد اختارها الخوري حبيب، أصلاً، بتبصّر، بعدما رأى فيها صدى للهف روح الرب فيه. كانت شريكة حياته وهمومه وحاملة أسراره. يطلعها على أحواله ومشكلاته ويستمزجها الرأي في صعوباته. حتى شؤون صلاته كان يكشف لها جوانب منها. ومع ذلك اعترضت عندما أبدى لديها رغبته في ان يصير كاهنا. السبب كان حرصها على الوضع المعيشي للاسرة، لا سيما وان حبيب كان ناجحاً في وظيفته، محبوباً، محترماً، وكهنة ذلك الزمان، بعامة، معوزون. لم يشأ حبيب ان يفرض رأيه فرضاً على زوجته لأنه كان رفيقاً بها خفراً في تعاطيه معها، فأسلمها الى ربه وانتظر. انتظر سنة كاملة رأت وديعة في نهايتها حلماً غيّرت، على أثره، رأيها. عاينت جندياً مقبلاً صوبها فارتعشت، نظر اليها ثم أشار الى حنفية يدفق منها الماء دفقا، فإلى حنفية ينقط الماء منها نقطا، وقال: عليك بعد اليوم ان تكتفي بالقليل! فلما استفاقت وجف قلبها وقالت: انما الجندي ملاك من عند الرب! مذ ذاك رضيت بأمر الله وسايرت زوجها واقتبلت، برضى وتسليم، ما يأتي عليها وعلى عائلتها.

كان الخوري حبيب سوياً في حياته البيتية. يوفّق بين التزاماته الأسرية والتزاماته الرعائية جيّداً. يومياته اتّسمت، عامة، بالترتيب. يؤاكل العائلة بانتظام الا متى قضت الضرورة، يجالسها كأي رب أسرة، يخرج بها متنزها ويمازح الجميع. لم يسع البتة الى فرض الأصوام والصلوات على أحد، لكنه كان يسأل مستفسراً.

أما وضع العائلة المعيشي، بعد سيامة حبيب كاهناً، فقد ضاق بعض الشيء، لا إهمالاً منه لمسؤولياته البيتية، بل لأن دخله كان متواضعاً، دون احتياجات العائلة بقليل. لهذا كان يوسف، أحد إخوته، يمد الأسرة ببعض المال بانتظام.

كهنوته

انتمى الخوري حبيب الى الكهنوت عن دعوة. كان يهمّه ان يسلك في خطى أبيه حتى الشهادة.

لا نعرف تفاصيل كثيرة عن خدمته كاهنا. لكننا نعرف انه أحبّ رعيّته وغار لها غيرة المسيح وكان عهده افتقادها بحرص وتواتر. وقد اشتهر فيها بأمور ثلاثة: صلاته ومواعظه وعنايته بالفقراء.

فأما صلاته فقد حفظ الناس انه كانت للخوري حبيب تجلّياته اثناء الخدمة الإلهية. من هذه التجليات ارتفاعه عن الأرض أحياناً. زوجته وديعة، بعد استشهاده، كشفت عن انه أخبرها بذلك مرارا.

أما عظاته فكانت مختصرة لكنها كانت تخرج من كل كيانه.

وأما عنايته بالفقراء فكانت كبيرة. الفقراء كانوا اصدقاءه بمعنى الكلمة، والميسورون من أحبة الرب، كانوا يعطونه ليعطي المحتاجين. كانوا واثقين ان معوناتهم تذهب الى حيث ينبغي. كل هذا أثار في وجه الخوري حبيب متاعب جمّة من الكهنة الذين حسدوه وحاولوا نثر الأشواك في طريقه. “الناس يدفعون له أكثر مما يدفعون لنا!”، فكان يجيب: “اذا كان الناس يعطونني فما ذنبي؟!”.

أحد المصريين، ممن عرفوه، أجاب مرة على سؤال في شأنه، وبصورة عفوية: “هذا مجنون، يوزّع كل فلوسه على الفقراء!”.

عائلته خبّرت ان امرأة محتاجة دقّت بابه، مرة، وطلبت طعاما لنفسها ولعائلتها، فاستدار بصورة تلقائية واتجه صوب المطبخ وتطلع فرأى وعاء فيه طبخة جاهزة من “المحشي الملفوف” فرفعه وخرج به ودفعه للمرأة.

أكثر أعمال المحبة عند الخوري حبيب كانت مستورة. هذا بديهي بالنسبة لرجل مثله. فقط بعض الأخبار عنه عرفت هنا وثمة. من هذه الأخبار قصّة الجبّة.

مفاد قصّة الجبّة ان يوسف، شقيق الخوري حبيب، أرسل اليه مرة جبّة جديدة فلبسها وذهب الى البطريركية. هناك التقاه غبطة البطريرك فسأله: “ما هذه الجبّة الأنيقة؟” فأجاب: “أخي يوسف بعثها لي من مصر”. “ماذا فعلت بجبّتك العتيقة؟” “تركتها في البيت”. “حسناً سوف أرسل اليك خوري حوران فأعطه ايّاها”. “كما تريد يا سيدنا”. فلما حضر اليه خوري حوران أعطاه الجبّة، ولكن لا جبّته العتيقة، بل الجديدة!

الى ذلك أشيع ان الخوري حبيب كان يستدين الكثير من المال مقابل سندات دفع لأجل قريب ليقوم بتجهيز ابنة ارثوذكسية أو مقطوعة من الأهل، لا سيما اذا حام حولها أحد المسلمين، ثم يقوم بزفّها الى شاب أرثوذكسي.

شهادات أخرى أفادت ان أفراد عائلته وجدوا، بعد استشهاده، دفتر حسابات يشير الى “ديون” على الخوري حبيب مع اسماء المدينين. فلما رغبوا في تسديد ما عليه تبيّن ان هذه المبالغ اعطيت للخوري حبيب لمساعدة الفقراء. بالنسبة اليه كانت ديونا!

صفاته وفضائله   

كان الخوري حبيب صافيا صادقا مستقيما مخلصا لله كل الاخلاص. لا يسيء الظن بصحبه. سمته الكبرى الشفافية الخالية من الشوائب والغموض. يقرأ الأشخاص وكأن كلا منهم كتاب مفتوح أمامه.

كانت عيناه غائرتين في وجه نحيل مشعّ. جسمه نحيل من عظم وجلد. روحه تحمل جسده، كعبء، في شوقه الى السماء. وهو دوماً في ذهول. المحبة والحنان مرسومان في وجهه وأنامله. واذا ما طاف على شعب الله ومساكين الأرض كانت في يده بركة وعلى لسانه تعزية وصلاته إيمان وخشوع.

جعلته الرقة أوهن من أن يرد سائلا يأتيه محتاجا. كان الرب يسوع ملء حياته وجنباته.

جاهد الجهاد المرّ ضد كل العيوب وأحبّ حياة النسّاك وأخبارهم، فجاءت شفافيته ثمرة الكّد في الروح القدس.

عاش مجروحا بحب الرب يسوع ومات كذلك.

قبل الاستشهاد

قبل ان يخرج الخوري حبيب في رحلته الى جبل الشيخ حيث استشهد حدث له أمر غير عادي أطلع زوجته عليه، وهي خبّرت فيما بعد. قال لها: اليوم اثناء صلاتي، أحسست بأني ارتفعت عن الأرض أكثر من المعتاد. فوجف قلب زوجته ورجته الا يذهب، لا سيما وانه كان من المفترض ان يترافق وآخرين فاعتذروا، فلم يرض. فسدّت الباب في وجهه فأخذ يضحك قائلا لها: ما بالك اليوم، على غير عادتك، تمنعينني من الذهاب، مع انها ليست المرة الأولى التي أخرج فيها الى جبل الشيخ؟ نصف ساعة حاولت خلالها صرفه عن الذهاب، على مرأى من بقية أفراد أسرته، فلم يشأ. فتركته لإلهامه. فخرج وكان استشهاده.

شهادته

طيلة حياته اشتهى الخوري حبيب أن يمجّد الله بميتة الشهادة، فأعطاه الله منية قلبه في 16 تموز من العام 1948 . يومها وقع بين أيدي مهرّبين انهالوا عليه ضربا أربع ساعات متواصلة لكونه كاهنا. لم يتركوا عظما من عظامه الا كسروه. ثم بعدما ارتووا من تعذيبهم له ألقوه من علو، في جبل الشيخ، فقضى شهيدا للمسيح.

ولدى القبض على الجناة3 ادعوا انهم ظنّوه جاسوسا يهوديا. لكن وقائع محاكمتهم دلّت على افترائهم وكذبهم. وقد حكم على أحدهم ويدعى أحمد علي حسن أبي الحسن بالإعدام شنقا ونفذ فيه الحكم فجر السبت في 25 أيلول 1948 .

ووري جسد الخوري حبيب التراب في مقبرة مار جرجس شرقي سور دمشق.

ــــــــــــــــــــ

الحواشي

ـــــــــــ

(1)      هذه السيرة أخذناها من ثلاثة مصادر:

أ-       جبّور، اسبيرو. “من تراثنا الخوري حبيب خشّة”. من المرأة في نظر الكنيسة. اللاذقية: 1994، ص 19 – 25 .

ب-      زيتون، جوزيف. “الخوري الشهيد حبيب خشّة”. مقال مخطوط كتبه أمين الوثائق البطريركية، ظهر، فيما بعد في النشرة البطريركية، عدد تموز 1994، ص 33 – 45، معدّلاً ومزيداً.

ج-      حديث الى فدوى اسعيد، ابنة الشهيد، بتاريخ 15/11/1994.

(2)      بعدما اطلعت فدوى اسعيد على ما كتبه الشماس اسبيرو جبّور وجوزيف زيتون بشأن الخوري حبيب اعترضت، وقد علمت بأننا في صدد ترجمة للخوري حبيب، على بعض المسائل التي ذكراها. قالت انها غير دقيقة أو غير صحيحة. من ذلك:

أ-       إعطاء الانطباع ان الخوري حبيب كان مهملا لمسؤولياته الأسرية. بل كان الشهيد سويا يهتم بعائلته كما يهتم برعيته والفقراء. يعطي كل مسؤولية من مسؤولياته حقها. كان مرتبا في هذا المجال، ويحسن تنظيم أموره.

ب-      إعطاء الانطباع عن زوجة الخوري حبيب وأسرته انها كانت تتذمر عليه في شأن اهتمامه المفرط بالفقراء حتى اتصلت سراً بأخيه يوسف في مصر فصار يمدّ العائلة ببعض المساعدة. هذا غير صحيح. زوجة الخوري حبيب كانت امرأة تقية، تفرح بعمل زوجها. ويوسف كان يرسل للعائلة عونا، لكن هذا لم يكن البتة نتيجة تفريط الخوري حبيب بخبز العائلة او تشكي الأسرة منه، عوزا.

ج-      بعض التفاصيل الواردة هنا وثمة على غير دقّة كمثل خبر الجبّة.

هذا وقد أخذنا نحن بملاحظات فدوى وأكملناها ببعض ما ورد في المصدرين الآنفين.

(3)      لقد قيل لنا ان نسخة من ملف محاكمة الجناة موجود في المكتبة البطريركية فلما استوضحنا تبيّن لنا ان الموجود ليس سوى أخبار عن المحاكمة وردت في بعض الصحف المحلية.

)عن القديسون المنسيّون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار(

Leave a comment