كونوا كاملين
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
اليوم، يا إخوة، فيما نودّع أسبوع العنصرة المجيدة، يأتينا هذا الإنجيل الكريم ليبيّن لنا ثمار الرّوح القدس الّذي سكن فينا. في القول الأخير “كونوا كاملين كما أنّ أباكم الّذي في السّموات هو كامل”، يتجلّى، بالضّبط، عمل الرّوح القدس في المؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح. بعدما نزل روح الرّبّ القدّوس، لم يعد باستطاعة أحد أن يقول: “أنا لست كاملاً، ولا أستطيع أن أﮐون كاملاً”، لأنّ كلّ مؤمن بالرّبّ يسوع المسيح بات مدعوًّا إلى الكمال. وماذا يعني أن يكون مدعوًّا إلى الكمال؟! – يعني، بكلّ بساطة، أن يصير إلهًا، لأنّ الله وحده هو الكامل. والمقارنة، هنا، واضحة بين المؤمنين والآب السّماويّ. نحن علينا أن نكون على شبه الآب السّماويّ! وهذا لا يمكن أن يتحقّق، إلاّ إذا بتنا آلهة على مثال الآب السّماويّ. الرّبّ يسوع المسيح أراد أن يرسل الرّوح القدس، من عند الآب السّماويّ، لأنّه أراد أن يجعل جميع المؤمنين به آلهةً، على مثال الآب السّماويّ.
في إنجيل اليوم، هذا الكمال يتمثّل في هذا القول، بصورة خاصّة، أن “أحبّوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم”. هذا يتحقّق بروح الرّبّ القدّوس، ولا يتحقّق باللّحم والدّم. ليس بإمكان أحد منّا، في مستوى البشرة، أن يحبّ أعداءه، ولا أن يبارك الّذين يلعنونه، ولا أن يحسن إلى الّذين يبغضونه، ولا أن يصلّي لأجل الّذين يسيئون إليه ويضطهدونه. هكذا يتمثّل الكمال، الّذي يأتي بالرّوح القدس الفاعل فينا. نحن علينا أن نؤمن بالرّبّ يسوع إيمانًا حيًّا، حقيقيًّا. وهذا يتضمّن، بصورة خاصّة، أن نؤمن، في العمق، بأنّ الوصيّة هي أن نكون كاملين، وأنّ الكمال مُعطى لنا فعلاً بروح الرّبّ القدّوس. ما يحدث، أحيانًا كثيرة، أنّ النّاس المؤمنين يسمعون هذا الكلام، ويسلّمون به. لكنّهم يسلّمون به فكريًّا، لا يسلّمون به في الواقع المعيش، أي إنّه قابل لأن يتحقّق فعلاً في حياة الإنسان المؤمن. قبل أن يعمل الرّوح القدس على جعلنا كاملين، علينا أن نكون مقتنعين، في العمق، لا فقط بأنّ هذا بات ممكنًا، بل بأنّه بات مُيسَّرًا، وهو المطلب. ليس مطلب الله أن نكون مؤمنين به، أي مقتنعين بما يقول. إيماننا لا يجوز أن يبقى في مستوى الاعتقاد، في مستوى العقل، في مستوى الفكر، في مستوى النّظريّة، في مستوى التّجريد! إيماننا بالرّبّ يسوع ينبغي أن ينحدر إلى مستوى الممارسات اليوميّة الّتي نتعاطاها. الوصيّة، وصيّة الكمال الإنجيليّ، هي “أحبّوا أعداءكم”. كلّ الوصايا، في الحقيقة، تُختصر بهذه الوصيّة، وتُمتَحَن بها. إذا لم يصل الإنسان إلى حدّ يتبنّى فيه محبّة الأعداء كهدف أوّل وأخير للحياة المسيحيّة، فإنّ كلّ شيء آخر يصنعه لا يكون ناقصًا وحسب، بل لا ينفع شيئًا أيضًا. الصّوم لا ينفع شيئًا، إذا لم يكن هناك التزام، وسعي لمحبّة الأعداء. والصّلاة أيضًا لا تنفع شيئًا، ولا السّلوك في الوصايا الأخرى. لهذا، علينا أن نجعل نصب أعيننا أنّ مبدأ الحياة الرّوحيّة يرتكز على محبّة الأعداء. ماذا يعني، عمليًّا، أن يحبّ المرء أعداءه؟! – إذا ما أحببتُ عدوّي، فإنّه لا يعود عدوّي، بل يصبح قريبي. والوصيّة الثّانية العظمى تقول: “أَحِبَّ قريبك كنفسك”. إذًا، عليّ أن أحبّ أعدائي كنفسي. أعود وأقول إنّ ما يحقّق هذا فيّ هو روح الرّبّ القدّوس. ولكن، كيف يمكن لروح الرّبّ القدّوس أن يحقّق هذا الأمر الجليل فيّ، إذا لم أﮐن مقتبِلاً له؟! إذا لم أﮐن ملتزمًا به؟! إذا لم أﮐن في سعي، قدر طاقتي، لبلوغه؟! – طبعًا، عندما نتكلّم على محبّة الأعداء، لا نقول إنّ روح الرّبّ القدّوس هو الّذي يحقّق هذا الأمر من دون مساهمتنا فيه. مساهمتنا أساسيّة. إذا لم نساهم في هذا الأمر، فإنّ روح الرّبّ القدّوس لا يحقّق هذه الوصيّة فينا، لا لأنّه لا يستطيع، بل لأنّه لا يريد، ولأنّه يشاء، دائمًا، أن نكون في وضع المتعاونين مع روح الرّبّ القدّوس، في هذا الشّأن. طبعًا، إذا ما أراد المؤمن أن يساهم في محبّة أعدائه، فإنّ هذا يجعله في وضع المواجهة دائمًا: يواجه كلّ نزعة سالبة، أو معادية للآخرين. الأمر، من جهتنا، يحتاج إلى صراع على مستوى فكر القلب، أوّلاً وأخيرًا. بإمكان الإنسان أن يتظاهر بمحبّة أعدائه. هذا لا ينفع. التّهذيب، مثلاً، يمكن أن يكون تظاهرًا بمحبّة الأعداء. لذلك، التّهذيب، أحيانًا كثيرة، هو كذب. الموضوع له علاقة، أوّلاً وأخيرًا، بفكر القلب. طبعًا، يتصارع الإنسان مع فكر قلبه حتّى لا يختزن في نفسه أيّ عداء، أو رفض، أو إلغاء للآخرين. ليس المطلوب ألاّ نحارب أعداءنا، وليس المطلوب ألاّ ندخل في مواجهة معهم. المطلوب أن نحبّ أعداءنا. لهذا السّبب، الإنسان، في مستوى طاقاته الإنسانيّة، قادر على لجم كلّ فكر إلغائيّ، أو رفضيّ، أو عدائيّ، من جهة أيّ إنسان. هذا بإمكان الإنسان أن يفعله، أن يتمرّس عليه. طبعًا، هذا صعب، لكنّه ممكن. والرّبّ الإله يُعيننا على تنقية نفوسنا، على هذا الصّعيد. في كلّ الأحوال، نحن في حاجة إلى معونة الله. حتّى ما هو بشريّ، لا يمكننا أن نتمّمه من دون معونة الله. لذلك، هناك، دائمًا، نعمة مؤازرة لنا في معاركنا الدّاخليّة ضدّ أفكار السّوء والعداء. كلّما اشتاق الإنسان، في قرارة نفسه، إلى محبّة أعدائه، اشتاق إلى النّقاوة؛ وكلّما صارع النّزعات الشّرّيرة في قلبه، آزرته نعمة الله بالأﮐثر، ووجد نفسه قادرًا، بنعمة الله، على أن يترّوض على نقاوة القلب. بعد ذلك، بطريقةٍ روح الرّبّ يعلمها، يأخذ الإنسان في اقتناء محبّة الأعداء! يتفعّل روح الرّبّ القدّوس فيه من دون أن يعلم كيف، ويتحوّل الكلام إلى واقع. هكذا، يمرّ الإنسان المؤمن بمراحل عديدة، حتّى يبلغ محبّة الأعداء.
في المرحلة الأولى، يكون في حال عداء مع بعض النّاس: يرفضهم، يتكلّم عليهم بالسّوء، يثرثر عليهم داخليًّا… ثمّ يسعى لاعتبارهم كأنّهم غير موجودين. من هنا، ينطلق.
في المرحلة الثّانية، يمنع فكره عن الاسترسال في فعل العداء ضدّ الآخرين. كلّما شعر برغبة في أن يسترسل، داخليًّا، في التّعبير عن عدائه للآخرين، يوقف هذه الحركة في نفسه. وقد يضطرّ إلى فعل ذلك مرّات عديدة، في النّهار الواحد.
في المرحلة الثّالثة، كلّما خطر له فكر إدانة، أو كلّما سرت حركة غير نقيّـة، في نفسه، تجاه أعدائه، يعمد إلى لوم نفسه. يقول بكلّ بساطة: “أنا إنسان غير نقيّ. أنا إنسان نجس. أنا إنسان لا أعرف الحقّ”. إذًا، يلوم نفسه، ويدينها. يحاول، قدر استطاعته، أن يحوّل الشّحنة العدائيّة ضدّ إنسان ما إلى شحنة إدانة لنفسه.
في المرحلة الرّابعة، يجتهد المؤمن أن ينظر في تبرير الآخرين، الّذين يحصيهم في عداد أعدائه. يعمل على تبريرهم! يعمل على النّظر في حسناتهم، أو ربّما في المُبرِّرات الّتي جعلتهم يتصرّفون بالطّريقة الّتي تصرّفوا بها.
في المرحلة الخامسة، بعدما نكون قد تروّضنا على ضبط الفكر، ولوم النّفس، وتبرير الآخرين؛ فإنّنا نصل إلى حالة داخليّة يسود فيها شيء من الهدوء في النّفس. لا تعود النّفس مضطربة، لأنّ المؤمن يكون قد لجم هذا الحيوان، الّذي حاول أن يجتاحه من الدّاخل.
من هناك، بعد تلك المرحلة، يبدأ عمل الله، أو، بصورة أدقّ، عمل الرّوح القدس يبدأ بالظّهور. من حيث لا ندري، نجد أنّ القلب يأخذ في التّغيّر. في أوّل الأمر، يجد المرء نفسه في حال سلام مع الّذين كان يحسبهم أعداءه. وبعد هذا الشّعور السّلاميّ، يبدأ القلب بالتّوجّع على الآخرين. وبعد أن ينوجع القلب قليلاً على الآخرين، يزداد الألم عليهم. وبعد الألم عليهم، يجد المرء نفسه أنّه بدأ يشعر بالعطف حيالهم. وبعد الشّعور بالعطف عليهم، يجد نفسه مُهيَّأً لأن يبكي حالهم. الدّموع الدّاخليّة تبدأ بالتّحرّك على الّذين كان يحسبهم أعداءه. وهذه الدّموع الدّاخليّة تزداد حِدّةً، وقد تأخذ تعبيرًا حسّيًّا، إذ يشرع المرء بذرف دمعة على الآخرين، على الأعداء، على الّذين كانوا محسوبين في عداد الأعداء. ثمّ تجتاحه موجةٌ من الرّحمة، تتكثّف، شيئًا شيئًا، في نفسه، حيال أعدائه. والرّحمة، متى تكثّفت، أبلغت الإنسان إلى حالة من الحبّ، يزول معها كلّ شعور، لا فقط بالعداء تجاه الآخرين، بل يزول أيضًا كلّ شعور بالغربة، بحيث تأخذه اللّهفة عليهم. بعد ذلك، يأخذ الحبّ بِمَلإ قلبه تجاههم، إلى أن يتّخذهم بالكامل، ويعتبر نفسه وإيّاهم واحدًا.
إذًا، تلاحظون أنّ هناك أمورًا تبدأ بنا، ثمّ تتحوّل، شيئًا فشيئًا، لتبلغ حدًّا يعمل فيه روح الرّبّ بصورة كاملة، ليجعلنا جُدُدًا. على هذا النّحو، يكون عمل الكمال عملاً إنسانيًّا وإلهيًّا، في آن؛ بشريًّا وروحيًّا، في آن. وهذا يبلّغ الإنسانَ مرحلةَ القداسة، ومن ثمّ مرحلة الألوهة. قد يستغرق هذا الأمر وقتًا قصيرًا، أو وقتًا طويلاً. هذا كلّه رهن بنا، إلى حدّ ما، ورهن بنعمة الله الّتي تُعطى لنا بالقدر الّذي ينفعنا، لا بالقدر الّذي يسبّب لنا نوعًا من الانتفاخ، أو النُّكوص، أو العودة إلى الوراء. روح الرّبّ يعمل فينا بطريقة تربويّة بحتة، إلى أن يبلّغنا، على نحوٍ أمين، إلى ما يشاؤنا الرّبّ الإله أن نكون عليه. إذًا، هكذا، بصورة تقريبيّة، تجري الأمور. ولكن، هذه الأمور معطاة لنا لكي ندخل في واقع جديد، في حياة جديدة. إذ ذاك، نصير هيكلاً لروح الرّبّ القدّوس، إذ يصبح، في وقت من الأوقات، الرّبّ القدّوس هو الّذي يعمل معنا وفينا بشكل كامل. إذ ذاك، يأتي الإنسان إلى الجدّة، يصير جديدًا. وإذ ذاك، نبلغ المشتهى، وتكون العنصرة قد أثمرت فينا حياةً جديدة، وكمالاً على شبه كمال الآب السّماويّ؛ فنصير، إذ ذاك، سموات على الأرض. بعد ذلك، كلّ شيء يتبع. آمين.
عظة حول متّى5: 42- 48، السّبت 29 أيّار 2010