هل من لاهوت “ما بعد آبائي”؟
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
لاهوت الكنيسة الأرثوذكسية نبوي، رسولي وآبائي، وبالتالي لا يمكن أن يُعطى أيّ اسم آخر مثل “ما بعد آبائي” أو “ما بعد نبوي” أو “ما بعد رسولي”، وبالطبع “ما بعد أرثوذكسي”. عادةً، تُعطى النزعات الدهرية الأخرى تسميات من هذا القبيل كالفرق بين عصر الحداثة وما بعد الحداثة.
آباء الكنيسة هم خلفاء الرسل في اللاهوت والعمل، ويشاركونهم خبرة الوحي نفسها. بالطبع، لكي يحافظ آباء الكنيسة على خبرتهم الموحى بها من التمزّقات التي يسببها الهراطقة وليقودوا المسيحيين، استعملوا مصطلحات عصرهم للتعبير عن تقليدهم من دون تشويهه. وهكذا، المصطلحات العقائدية تأسست في المجامع المسكونية وصارت جزءاً من التقليد، حتى لا يتمكّن أيّ “أب جديد” أن يغضّ النظر عنها أو يدور حولها. لهذا السبب، لا يمكننا أن نتكلّم عن لاهوت “ما بعد الآباء”. إن الأمر مختلف عندما نتعامل مع التيارات الجديدة في اللاهوت الأرثوذكسي، التي لا يمكن أن نسمّيها “ما بعد آبائية” ولا تدور حول تغييرات في العقائد.
ما يُعرَف باللاهوت “ما بعد الآبائي (postpatristic)” مرتبط بنظريات اللاهوتي الروسي ألكسيس خومياكوف (1804-1860)، الذي لعب دوراً مهماّ في الأدب اللاهوتي الروسي في زمانه. ليس لدينا متّسع من المجال لعرض رؤاه، لكن فقط للإشارة إلى أنّه بحسب خومياكوف، آباء الألفيّة الأولى تكلّموا لزمانهم ولهم قيمتهم، لكن اللاهوت السكولاستيكي (بين القرنين التاسع والثالث عشر) تخطّى اللاهوت الآبائي، واللاهوت الروسي الذي أتى لاحقاً تخطّى الاثنين السابقين (الآبائي والسكولاستيكي). خطأ خومياكوف هو ربطه الأرثوذكسية بالحضارة. بينما اللاهوت الأرثوذكسي ينتج الحضارة وليس العكس.
في كل الأحوال، نظرية ألكسيس خومياكوف أثّرت بدرجات مختلفة في لاهوتيي الشتات الروسي في باريس، ولهذا السبب يوجد اليوم كلام عن لاهوت “ما بعد الآباء”. الفيلسوف الروسي كيرييفسكي، صديق خومياكوف، قال: “من المستحيل أن نجدد فلسفة الآباء بالشكل التي تشكّلت به في زمانهم. فهي أجابت على مسائل الزمان والحضارة التي تطورت فيها.” كتب الأب يوحنا رومانيدس أن خومياكوف يوافق على ملاحظة صديقه حول الحاجة إلى تطوير فلسفة روسية-مسيحية تستجيب إلى تفاعلات المجتمع المعاصر.
الأب جورج فلوروفسكي، وقد عرف هذا اللاهوت، تحدّث عن “العودة إلى الآباء”، ما يعني “العودة إلى المصادر الآبائية والأسس الآبائية”، وضمن هذا المنظار تحدّث عمّا يسمّيه فئات الفكر الهلينية التي لا يمكن إسقاطها. فقد كتب: “إن الابتعاد عن الهلينية المسيحية ليس تقدماً أبداً، بل هو تراجع، وعودة إلى مأزق الهلينية الأخرى وارتباكها، تلك الهلينية التي لم تتحوّل والتي لم يكن هناك مخرج منها إلا من خلال الإنجاز الآبائي”. إننا نظلم الأب جورج فلوروفسكي إن لم نفهم نظرته من خلال منظار عدم موافقته نظرة المهاجرين الروس.
يعترف البطريرك المسكوني برثلماوس بهذا الأمر، ولهذا السبب في تحيته للمؤتمر الشهير في أكاديمية فولوس اللاهوتية، أشار إلى أن لاهوت الكنيسة لا يستطيع إهمال الحضارة المعاصرة، وقد كتب: “المستقبل وقف على اللاهوت الآبائي الأصيل، أبعد من الآبائي الجديد (neopatristic) وما بعد الآبائي (postpatristic)، لكن نحو لاهوت كنائسي مفعم بالحياة بقوة ملكوت الله {الآن} و{ليس بعد}”.
اللاهوت الأرثوذكسي كنائسي، أي أنه صوت الكنيسة، والآباء تكلّموا وما زالوا يتكلّمون هذه اللغة. لهذا السبب، لا يمكن وجود لاهوت “آبائي جديد” أو “ما بعد الآبائي” لأن اللاهوت الأرثوذكسي نبوي، رسولي وآبائي وبالتأكيد كنائسي.