ترياق الألم النفسي

ترياق الألم النفسي

الراهب موسى الأثوسي


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

فيما يتميّز عصرنا بالوفرة والاستهلاك المفرِط (دون أن يتخطّى تأثير الأزمة الاقتصادية الكبح البسيط)، التكنولوجيا المتطوّرة، التقدّم العلمي، الكثير من وسائل الراحة واللذة الحسيّة، هناك استفحال حادّ للمشاكل النفسانية، حيث يرى المرء الكثير من الوجوه الكئيبة، العصبية، المضطربة، المرعوبة، القَلِقة، الحزينة والغاضبة.

حتى الناشئة يعانون من مشاكل حادّة ونزاعات داخلية، وهم في مأزق بسبب العقلية الظلامية والفراغ الذي لا يُحتَمَل. الشباب وهم ذوو الجمال والثقافة والثروة يفتقدون للضحك وهم مكتئبون ومتشائمون. نحن في زمن الكسب والإيحاءات والأرباح والنجاح، ومع هذا فإن شعبنا يشعر بأنّه مخبول، لا صحة عقلية له ولا سلام ولا فرح. بالإجمال، معايير ناشئتنا هي أشياء مثيرة للكآبة كالموسيقى الصاخبة المسعورة المضطربة، حتّى يظنّ المرء أنهم معجَبون بالاستزادة من الكآبة والتشاؤم. فبدل الموسيقى التي تحيي النفس وتبهجها، يفضّلون تلك التي تسمّرها إلى التشاؤم المرّ. الوجوه الكئيبة هي الموضة.
إن أزياء الشباب المثيرة، والحفلات الخشنة التي تدوم طوال الليل، والإغراء بسوط المخدرات الرهيب، والاستهلاك المرتفع للكحول، والاتّكال غير الصحي على الإنترنت والذي يدوم لساعات، وغير ها الكثير من الأمور المشابهة التي تفاقِم المشكلة ولا تحلّها بأي شكل من الأِشكال حتّى يبدو الأمر وكأنّ بعض المتأرجحين يريدون أن يقضوا على صحتهم، ويقصّروا حياتهم، ولا يرغبون بالمستقبل أبداً. إن الإحصائيات محزنة جداً إذ إنّ عدد الذين يعانون من مشاكل عقلية في العالم هو 340 مليون. كما يظهِر تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن تقريباً نصف سكان أوروبا وأميركا يعانون من الاكتئاب والإحباط والانقباضية.
يلاحظ المرء اليوم بصدق وألم أنّ لا الشباب ولا الجمال ولا مجد النجاح والنمو ولا كثرة المال والثياب الباهظة تؤدّي إلى الفرح المتوقّع والسعادة المرجوّة. بين كل هذه، الكآبة الموجودة بشكل مستمر تؤثّر عليها جميعاً، لتغني مصانع عقاقير الأمراض النفسية. القنوط المفرط، يقول الآباء القديسون في كنيستنا، هو روح الحزن الشرير الذي يقود إلى الإحباط والاكتئاب. يُقال اليوم أن حالة الحزن تصير أحياناً مفرِحة بشكل مَرَضي، وفي هذا شكل معتدل من الماسوشية السادية. هذه العادة في المجتمع المعاصر تعكس وتعبّر عن خيبتنا العظيمة من الفردانية وافتقادنا للقيَم.
يمكن لأي كان، إذا جاهد وأراد جدياً، أن يطرد من حياته وبشكل مباشر كلّ ما لا يعطيه التفاؤل الحقيقي والفرح والسعادة. بهذا تكسب البشرية السلام والهدوء والصفاء، يرتاح الضمير، تهدأ الحياة، حتّى أن النوم يصبح حلواً. قال TS Eliot “القيام بشيء نافع، وقول شيء صحيح، والتأمّل في شيء جميل فعلاً، أمور كافية لإغناء حياتك”. وقال دوستويفسكي “الجمال يخلّص العالم”. إنها لحقيقة أنّ الشر والمكر والبذاءة تغوي الإنسان وتجذبه، لكن الخير والحنان والقداسة والجمال هي دائماً ما يأسره فعلاً ويحرّكه داخلياً.
يملك التقليد الأرثوذكسي القدرة والقوة والمعنى والإيمان والتعزية والرجاء. محاولة البعض اقتلاع هذا التقليد الغني المحيي من قلوب الشعب سوف لن تزيد إلا المحبَطين والذين لا عزاء لهم واليائسين. هذا التقليد ولّد الشخصيات العظيمة من القديسين والأبطال. لقد حان الوقت للقيام ببحث ذي معنى ولإعادة الاتّصال مع التاريخ والتقليد واستمراره. إنه يكون وقتاً مقبولاً ومناسباً وضرورياً لاكتشاف جديد لتقليدنا واليقين الذي يمنحه في وجه اليأس والغمّ والاكتئاب والإحباط. إنّه الترياق للألم النفساني المستشري في أيامنا. علينا أن نتحرّك سريعاً نحو المعالجة. لا مزيد من التفاهة والظلام في الحياة. أليس على هذا المنوال ينبغي أن يكون الأمر؟ أأبالغ أنا أم أني عتيق الفكر؟

Leave a comment