الأيقونات في زمن الاستهلاك
الخورية سميرة عوض ملكي
إن الأيقونة أو أيّة صورة تجعل وجود المُصَوَّر ملموساً، أي أنّها تجعل الغياب الوجودي للشخص المرسوم ملحوظاً لإحساسنا. إلا أنّ ما يجري من خلال الأيقونات هو أهمّ وأعمق من ذلك، لكونه يحمل القداسة التي عند صاحب الرسم ويقدّس المؤمنين بسبب حضور الأصل فيها.
وحضور الأصل في الأيقونة هو حقيقة كنسيّة سُجِّلَت في الكتابات الآبائية في زمن الصراع حول الأيقونة (726). وهذه الحقيقة هي جزء لا يتجزّأ من لاهوت الكنيسة وقد عَبَّر عنها بقوّةٍ وسلطةٍ المجمعُ المسكوني السابع (787)، على لسان آبائه بالقول الشهير: “مَن يعاين أيقونة يؤخَذ لمعاينة الأصل”. وهم لذلك فسّروا أنّ رفض الأيقونات من قِبَل محاربيها يعني رفض حضور الأصل في أيقونته، وبالتالي رفض لأهمّ عقائد الإيمان الخلاصيّة، ألا وهي تجسّد المسيح وحضوره الحقيقي بين البشر. لأنّ إكرام الأيقونات يستند كلّه إلى هذه العقيدة ومَن يرفض تصوير الذي “حلّ بيننا ورأينا مجده” (يوحنا 14:1) الذي هو “صورة الله غير المنظور” (كولوسي 15:1 و 2كورنثوس 4:4) يكون قد أنكر على الكنيسة، التي هي جسد المسيح، صفتَها الإلهية – الإنسانية، وقدرتَها على تقديم الخلاص للإنسان. لأنّ الكنيسة الأرثوذكسية تجد في الأيقونات تجليّاً للروح القدس كما تجد في المسيح تجسّداً لله. ولهذا، يقول القديس يوحنا الدمشقي وهو أبرز المدافعين عن الأيقونات: “في الحقبة القديمة لم يكن تصوير الله ممكناً، لأنّه لم يكن قد اتّخذ جسداً ولا شكلاً. أمّا الآن، بعدما ظهر الله بالجسد وعايش البشر، فإنني أصوّر الله الذي يمكنني أن أراه، والذي أصبح مادةً من أجلي، ولن أنقطع عن احترام المادة التي اكتمل بها خلاصي”. قد يُساء فهم هذا الكلام وخاصةً من قِبَل أصحاب البدع التي ترفض الأيقونة، فيظنّون بأن الأرثوذكسيين أو المؤمنين عندما يقبّلون الأيقونات ويسجدون أمامها ويقدّمون لها البخور ويوقدون أمامها الشموع أو ينظرون إليها، فهم يتوجّهون إلى تركيبة فنيّة من الألوان أو أنّهم يعبدون الخشب والألوان. حاشى! عندما ينظر المؤمنون إلى الأيقونات فهم لا يتوجّهون إلى تركيبة فنيّة من الألوان، بل يعبّرون عن شركتهم الحيّة بالشخص المصوَّر. ويشير القديس نفسه إلى هذه الخبرة الكنسيّة بقوله: “وإذ نرى غير المرئي بواسطة صورة مرئية، نسبّحه لأنّه كائن حاضر”. وهذا الحضور، أي حضور الأصل في الأيقونة هو الذي يعطيها قيمتَها كون كلّ أهميتها مشترَطة بعلاقتها بالأصل. كما أن كلّ إكرام يُقَدَّم للصورة إنّما يعود إلى الشخص المرسوم عليها، وكلّ سجود لهذه الصورة هو سجود إكرامي للأصل والنموذج الذي تمثّله. لأنّ العبادة لا تليق إلاّ بالطبيعة الإلهية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حضور الألوهة في الأيقونة لا يكون حضوراً بحسب الجوهر وإنّما بالنعمة والقوى الإلهية. وهذا يظهر بأجلى بيان في ذكصا صلاة المساء الكبرى في أحد استقامة الرأي: “إن نعمة الحق قد أشرقت والتي سبق رسومها بالأشباح قديماً قد كملت الآن بغاية الإيضاح لأنّ ها الكنيسة تسربلت صورة المسيح المتجسّمة كزينة فائقة الجمال حسب فائق رسم مضرب الشهادة. مالكة الإيمان المستقيم الرأي لكي إذا ما ضبطنا أيقونة مَن تعبده وتوقره لا تضلّ. فليتسربل الخزي الذين لا يؤمنون هكذا لأن سجودنا بحسن تديّن بغير تألّه لأيقونة المتجسّد هو مجد لنا، فلنصافحها يا مؤمنون هاتفين خلّص يا الله شعبك وبارك ميراثك”.
وفي هذا المجال يقول أحد مفسّري الكتاب المقدّس بأنّ الكتاب هو كالأيقونة البيزنطيّة يتجلّى فيها سرّ الحياة. فكما أنّ الأيقونة هي خشب يابس ولكن من خلالها نحن نتواصل مع الحقيقة الإلهية، كذلك النصّ الكتابي هو حبر على ورق، لكن يعكس حقيقة إلهية. والقديس يوحنّا الدمشقي يرى أنّ الأيقونات هي “كتب مفتوحة تذكّرنا بالله”، وأنّها تساوي الكتب المقدّسة أهمية. وقد شبّهها بأسرار الكنيسة من جهة حملِها النعمة إلى المؤمنين.
إنّ لهذه الأقوال أهمية كبرى، لأنّ على أساسها تقرّر الكنيسة الأرثوذكسية النماذج لأيقوناتها. فالأيقونات الأرثوذكسية لا تصوّر الشخص الأصلي أكان المسيح أو القديسين، بأشكال مختَرَعة مثاليّة أو مجرّدة، لكنّها تقدمه دائماً كما تتذكّره وكتعبير عن اختبارها التاريخي له. وهي لهذا تسعى إلى أن تصوّر في نفس الوقت تاريخيّة الشخص المرسوم وحضور النعمة الإلهيّة فيه، وذلك من خلال وسائل فنيّة خاصّة، سواء من خلال الأشكال أو الألوان.
فمثلاً، مع أنّ الأيقونات الأرثوذكسيّة تعبّر عن الخصائص التاريخيّة للشخص المرسوم فإنّها تجرّب أيضاً تصوير هذا الشخص كإنسان متجلٍّ ومتألّه لتُظهر بهذا الشكل خبرة الشخص المصوَّر في اشتراكه بالمجد الإلهي بالنعمة المؤلِّهة التي لله المثلّث الأقانيم وكمواطن للملكوت وذلك بواسطة إنارتها المميّزة التي تعكس لاهوت النور الذي للأيقونة الأرثوذكسية.
على هذه الأفكار يمكن أن يُقال إنّه لا يجوز للأرثوذكسيين أن يستبدلوا الأيقونات الأرثوذكسية بأيّة صور غربيّة، لأنّ الغرب المسيحي يرفض تماماً مبدأ حضور النعمة والقوى المؤلِّهة الذي يعكس حضور الروح القدس في الشخص المصوَّر، ولهذا يسمح الغرب بصور ليس لها أيّ علاقة بالشخص المصوَّر.
وعليها أيضاً، لا يجوز للمؤمنين أن يجهلوا تعليم كنيستهم في تكريمهم للأيقونات المقدّسة، فيجعلوا منها أداة زينة في أماكن غير لائقة بإكرام الأيقونة، على عواميد الطرقات ولوحات الإعلانات مثلاً. كما لا يجوز أن يحوّلوها أداةً للتفنن، خاصةً وأن تطور التكنولوجيا المتعددة الوسائط والكومبيوتر جعل عملية التحكّم بالصور أمراً سهلاً، حتى باتت الأيقونة موجودة على الغلافات والبطاقات والأكياس والسيارات والساعات، وغيرها من المواقع التي لا تحمل أيّ توقير، وبالنهاية تنتهي مرمية بلا أي اعتبار لما تمثّل وتحمل. باختصار، لا يليق جعل الأيقونات بضائع للتجارة. فكلّ هذه الممارسات هي تجاوز كبير وإهانة لقداسة الأيقونة، التي تقدّسنا بالنعمة الإلهية الحاضرة فيها. إلا أنّ هذا التقديس لا يحدث بشكل آليّ لأنّ المشاركة في النعمة الإلهية يلزمها شرطين أساسيين، هما الإيمان والطهارة الروحية.
ختاماً، ما قاله أحد أساتذة اللاهوت يختصر الموضوع كلّه: “إنّ حضور الأصل بالنعمة في الأيقونة مبنيّ على التعليم العقائدي المقرَّر في المجمع المسكوني السابع، ويثبِت لاهوت الكنيسة الأرثوذكسية في تفرقته بين الجوهر والقوى الإلهية، ويستند على تجسّد اللوغوس (الكلمة) الإلهي وأعماله الخلاصيّة، وهو لخدمة الشركة الحميمية والحيوية القائمة بين الأعضاء المجاهدة والأعضاء الممجدة في جسد المسيح المبارَك… وأنّ هذا الحضور يرتبط في الأيقونة بعجائب الأيقونات ارتباطاً قوياً… من هذا كلّه يتّضح لنا أنّ حضور الأصل بالنعمة في الأيقونة لا يُعتَبَر حقيقة ذات معنى ثانوي، بل إنّه حقيقة ذات تأثير على لاهوت الكنيسة وخبرتها الروحية”.