سر التوبة والاعتراف – 1
الأب جورج يوسف
مقدمة
“الأسرار هي أبواب النعمة والخلاص، ورحمة الله التي لا تحد وصلاحه غير المتناهي هما اللذان فتحاها لندخلها” (القديس نيقولا كاباسيلاس). فهي وإن تكن، لغوياً، الأمور المخفية أو المستترة، لكنها تدرك عند المؤمنين في شركة الإيمان. ففي النهاية هي تدبير الله الخلاصي وسر محبته الفائقة.
وإن عَدَّت الكتب الأسرار سبعة، إلا أن الكنيسةالأرثوذكسية تقرّ، بأن كل عمل في الروح القدس، ينمي ويبني الجماعة، هو سر مقدس.
وانطلاقاً من حاجة الإنسان للإشتراك بسر المسيح، تأتي الأسرار “بمثابة أبواب السماء”، التي إذا ما ولجناها، ننتقل إلى المسيح معشقنا. فالمعمودية تلدنا، والإفخارستية تغذينا وتتحدنا بالرب، والميرون يعطينا التثبيت وعربون الروح، في حين يأتي سرّ التوبة والاعتراف ليصالح الإنسان مع الله من جديد من بعد المعمودية، إذا ما ابتعد عنه، وأما بقية الأسرار فتخدم الهدف نفسه ألا وهو الاتحاد بالرب.
في هذه الصفحات القليلة، سأحاول أن أتناول سراً من هذه الأسرار، ألا وهو سر التوبة والإعتراف، لشعوري بأهمية هذا السر في العودة المستمرة نحو الله، وبالتالي الاتحاد به. فهو في التعريف لغوياً، التغيير الكياني والتحول الأوّل للمؤمن نحو الله، بحيث يصبح الله هو المحور في حياته. وهذا حتى يتحقق، لا بد أن يكون مبنياً على أسس قوية وإستعداد صحيح لتقبل النعمة الإلهية. فعل الرب يساعدني في إيصال ذلك وإيضاحه من خلال ما سأورده من براهين من الكتاب المقدس وحياة الكنيسة، ومن خلال تحديد بعض الأسس والمفاهيم المتعلقة بالتوبة.
التوبة في الكتاب المقدس: التوبة في العهد القديم
الرباط بين الجماعة والله كان دوماً معرضاً للإنقطاع بسبب معاصٍ قد ترتكبها الجماعة أو شخص منها يؤثر في الجماعة سلباً. لذا كانت النوائب والنكبات بمثابة المنبّه لوعي وإدراك الجماعة لخطيئتها، فتبادر إذ ذاك إلى استعادة الرباط مع الرب، فتعاقب المسؤولين عن المعصية (خروج32: 25 – 28، عد25: 7 – 9، يش7: 24)، أو تسارع لالتماس العفو الإلهي بممارسات نسكية وترتيبات طقسية خاصة بالتوبة كالصوم (قض20: 26، 1مل21: 8 – 10)، وتمزيق الملابس ولبس المسوح (1مل20: 31 – 32؛ 2مل6: 30و19: 1 – 2؛ أشع22: 12)، وافتراش الرماد (أشع58: 5). كما كانت الجماعة تلجأ، في بعض الأحيان، إلى الذبائح التكفيرية (عد16: 6 – 15)، وفي أحيان أخرى، إلى طلب الشفاعة بواسطة رئيس ديني أو نبي (خر32: 30 – 33)، أو تلجأ إلى اعتراف جماعي أمام الرب (1مل8: 33 – 34).
وكثيراً ما نجد في الكتاب المقدس، أحداثاً لأشخاص يعترفون بخطاياهم، ويقدمون توبة صادقة. فعلى سبيل المثال، يعترف لامك لامرأتيه بأنه قد قتل رجلاً (تك4: 23)، وداود يعترف لناثان النبي بإثمه الذي اقترفه بحق أوريا (2صم12: 13)، ويصرخ إلى الرب: قد خطئت إلى الرب” (2صم11: 2).
الدعوة إلى التوبة، في العهد القديم، تركزت ابتداءً من القرن الثامن قبل الميلاد، نتيجة لابتعاد إسرائيل عن الله وانتهاكه لعهد الرب. فانتقد الأنبياء التوبة الشكلية غير الصادقة، ولم يكتفوا بشجب الخطايا، بل طالبوا الشعب بتوبة حقيقة مقامها “البحث عن الله” (عا5: 4 – 6)، وطلب الخير والابتعاد عن الخطيئة (عا5: 4 – 15؛ أشع1: 16 – 18)، والتوجه بالكلية إلى الله، والثقة به، والخضوع لمشيئته وإرضائه.
هكذا تجذرت التوبة في العهد القديم، حتى باتت نقطة جوهرية في بشارة الأنبياء وحياة الجماعة التقية. فقد فهم الأنبياء التوبة على أنها الطريق الوحيد لعودة الوصال مع الله.
1. التوبة في العهد الجديد
في مستهل الإنجيل، أول دعوة توجّه إلى الشعب، كانت “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” (مت4: 17). هذه الصرخة أطلقها في البدء من كان يهدي كثيرين من بني إسرائيل إلى الله ربهم (لو1: 16 – 17)، أي يوحنا المعمدان، فاتحاً بذلك باب الرجاء في الملكوت، وداعياً للاعتراف بالخطايا، وصنع أثمار تليق بالتوبة (مت3: 8)، وتقويم السيرة الحياتية (لو3: 10 – 14).
المسيح ذاته يكرر عبارة يوحنا المعمدان، فيدعو الناس إلى التوبة لأن ملكوت الله بات وشيك التحقق، لكنه “لا يكتفي فقط بإعلان اقتراب ملكوت الله، بل يحققه بقدرته”. فالمسيح إنما جاء ليدعو الخاطئين إلى التوبة (لو5: 23)، ولكي يرد الخروف الضال إلى الحظيرة (لو15: 4 – 7). فقد جاء ليعتقنا من براثن الموت والخطيئة والفساد. فما على المؤمن إذ ذاك، إلا أن يتوجه نحو المسيح بكل كيانه. متحولاً نحو الرب دون سواه.
من هنا كان تأكيد العهد الجديد، على أن الإنسان لا يمكن أن يخدم سيدين (مت6: 24)، فإما أن يحيا مع الرب، أو أن يحيا مع الخطيئة، لأن “كل مولود من الله لا يعمل الخطيئة، لأن زرع الله ثابت فيه، ولا يقدر أن يعمل الخطيئة وهو من الله” (1يو3: 9). لذلك على الخاطىء أن يعود تائباً عند السقوط (2كو2: 12؛ مت13: 24 – 43 و 18: 15 – 22)، وكله ثقة بأن الرب سيتقبله بفرح نظير الابن الشاطر والخروف الضال.
إذاً، التوبة في العهد الجديد هي سر تجديد المعمودية والنعمة وطهارة النفس المفقودة بسبب الخطيئة، ومدعاة للعيش وفقاً لوصايا الرب خلال المسيرة نحو الملكوت.
مسيرة سر التوبة والإعتراف في الكنيسة
لقد أدركت الكنيسة منذ عهدها الأول، أهمية سر التوبة والإعتراف. فقد استلمته من الرسل الذين بدورهم استلموه من الله مباشرة، حين نفخ فيهم قائلاً: “إقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو20: 22 – 32). لذا سعت الكنيسة أن تحيا هذا السر في كل جوانب حياتها؛ وهذا ما تشهد له شهادات عدة تتوزع على فتراتٍ من الزمن,
فالآباء الرسوليون حثّوا على الاعتراف بالخطايا، وضرورة الاعتراف قبل المناولة، وطلب الغفران عن كل الخطايا والسقطات. كما أنها ناشدت الأساقفة والكهنة لقبول التائبين.
هذه الممارسة، طبعاً، كانت شخصية وخاصة، فلم يكن من قانون ينظم هذا السر وكيفية ممارسته. فسعت الكنيسة، وعياً منها لأهمية هذا السر، إلى تنظيم وتفعيل ممارسته في حياة الجماعة. فظهر السر كنظام كنسي في أوائل القرن الثالث، حيث بدأت تظهر القوانين الصارمة في أعمال رحمة على التائبين…؛ وقد استغرق التنظيم في هذه الفترة ثلاثة قرون. أكد فيها آباء هذه الحقبة على التوبة وضرورة الإعتراف بإنسحاق قلب وتواضع.
مع تنامي الرهبنات اعتباراً من القرن السابع، لعب الرهبان دوراً هاماً في الإرشاد الروحي. وقد شهدت هذه الفترة تحول الاعتراف الجماعي إلى اعترافٍ فردي أمام الكاهن، وذلك على عهد البطريرك نكتاريوس خليفة القديس يوحنا الذهبي الفم. وقد كان ذلك تفادياً للمساكل. فصار الاعتراف أمام الكاهن، الذي يمثّل الكنيسة، وليس أمام الجماعة.
نتيجة تأثير الفكر السكولاستيكي، طغى العنصر القانوني بدل الوجه العلاجي والتطهيري على السر. فاعتباراً من القرن السادس عشر، تحول السر إلى فرضٍ أو واجب قانوني يؤهل للاشتراك في المناولة؛ وحدد فيما بعد وجوب ممارسته بأربع مرات في الستة (أي خلال الأعياد الكبرى)، ثم مرة واحدة خلال الصوم الأربعيني المقدس. بعد ذلك فُرضت غرامةٌ ماليةٌ على التائبين والمعترفين. طبعاً، هذا يعكس مقدار التراجع الروحي والظروف القاسية المؤلمة التي كان يعيشها المسيحيون في الشرق.
الآن تحاول الكنيسة إعادة المفهوم الصحيح لسر التوبة الإعتراف، من خلال إلغاء الكثير من المفاهيم القضائية والقانونية الخاطئة في السر، ومن خلال محاولتها الجادة على تشجيع ممارسة هذا السر والإقبال إليه.
هكذا عاشت الكنيسة سر التوبة خلال مراحل حياتها. وقد أدرك آباؤها أهميته، فما توانوا عن الحث على ممارسته وتنظيمه طوال كل هذه السنوات.
مفهوم الخطيئة
الخطيئة بحسب المفهوم المسيحي، هي قوة تسيطر على الإنسان، تعمل بعكس مشيئة الله وعكس الإيمان. فهي من جهة قوة الشر التي تسيطر على الإنسان، ومن جهة أخرى هي العمل ضد المشيئة الإلهية.
الخطيئة، في البدء، لم تكن موجودة، فكل شيء كان حسناً جداً (تك1: 31). لكن بسقوط الإنسان الأول ظهرت الخطيئة في العالم. أي أنها حالة مرضية فاسدة ومميتة تشمل كل البشر. فالموت والفساد صارا كنتيجة للخطيئة، فالابتعاد عن ينبوع الخير والصلاح والحياة يسبب طبيعياً الموت والشر.وهكذا يستغل الشيطان الخطيئة حتى يسيطر على الإنسان، ويبعده عن مصدر وجوده، أي الله. لذا تراه يسعى بكل وسائله حتى يغويه، ويجعله يغرق أكثر فأكثر في لجة الخطيئة، حتى يصل الإنسان إلى درجة يفقد فيها الرجاء بالرب، ويصير عبداً خادماً للشيطان.
لكن الرب الذي دبّر خلاصنا بتجسده الإلهي، عاد فولدنا ولادة ثانية، وألبسنا الإنسان الجديد، ماحياً بذلك كل خطايانا، ومعطياً إيانا إمكانية العودة إليه وأن تتقدم إليه بتوبة. أي “أن الدرجة الأولى في العودة إلى الله” هي التوبة، التي صارت ولادةً متجددة يعطينا الله إياها بعد المعمودية. بهذا نتحرر من كل خطايانا السابقة واللاحقة.
أهمية سر التوبة والإعتراف
مما لا شك فيه، أن الإنسان بالمعمودية ينال الصفح عن كل ما اقترفه من خطايا. لكن بما أنه معرض للسقوط في أية لحظة، فلا بد إذاً من سر يعيده إلى الأحضان الأبوية، لأنه من غير الممكن أن تعاد معموديته. لذلك أسس لنا الرب سر التوبة، وأعطانا إياه بمثابة معمودية ثانية، تصالح الإنسان مع الله إذا ما أخطأ بعد المعمودية. فمن خلال هذا السر ينال المؤمن التائب؛ بقوة الروح القدس، الصفح عن جميع خطاياه التي يعترف بها، ويتحول بكل كيانه إلى الله. “فالتوبة الحقيقية ثورة تهز أعماق الكيان الداخلي الإنساني، وتبدله بشكل جذري، فيصبح الله محور حياة الإنسان”.
بالإضافة إلى أن سر التوبة يصالح الإنسان مع ذاته ومع الآخرين، لطالما أن الخطيئة تسيء للمرء على ثلاثة أصعدة: الله، الآخر، الذات. لذلك تكمن أهمية هذا السر في دوره الفعال في إعادة اللحمة بين الله والإنسان، وبين الإنسان نفسه والآخر، وذلك بالتطهير من الخطيئة التي تسيء الله والآخر والذات.
مفهوم التوبة
البداية الواعية للحياة بالمسيح أو الحياة الروحية، هي العودة إلى الله في الإرادة التي تنكر العالم والأنا الشخصي. هذه العودة هي النابعة من حرية الإنسان وقدرته على الإختيار. فكما أنه يرتكب الخطيئة بحريته، كذلك عليه أن يعدل عنها بحريته. وطالما أن الإنسان معرض للخطأ باستمرار، لذلك يجب أن يكون في حالة توبة مستمرة، يفرضها الشوق إلى الله والرغبة في الحياة معه. فالتوبة “هي ليست توبة إلى فضائل، ولكنها توبة إلى الله ذاته، هي إتحاد به وإقتباس لحياته فينا”.
بالإضافة إلى أن الوعي الشخصي لفقدان الله، هي نعمة إلهية وكشف وظهور أولان لوجهه الإلهي للبشر. فالتوبة الصادقة هي “عطاء الحب الإلهي لنا، مبادرة إفتقاد الأب لإبنه، إنها إنتظار الأب لإبنه. إنها تحريك الله لقلب الخاطىء”.
هكذا يجب أن تكون التوبة مستمرة بلا حدود وغير منتهية، كما أن طريق الاتحاد بالله غير منتهٍ، وهذه الإستمرارية لا تنتهي حتى الموت.
المراجع والمصادر
تريوديون، طبعة ثانية، المنشورات الأرثوذكسية، طرابلس، 1994.
التوبة والإعتراف، الأسرار. مطرانية جبيل والبترون وما يليها للروم الأرثوذكس.
جماعة من المسيحيين الأرثوذكس في فرنسا، الله حي، ترجمة د. دعد، منشورات دير مار الياس شويا البطريركي، ضهور الشوير، لبنان، 2000.
خضر، المطران جورج، أهل بيت الله، الروح العروس مطرانية جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس، 2000.
الراهب الروسي سلوانس، الإعتراف قبل المناولة. ترجمة رزق الله حرمان، مجلة النور العدد 6و7، السنة 1946.
كاباسيلاس، نيقولا، الحياة في المسيح، ترجمة البطريرك الياس الرابع، منشورات النور، 1971.
كيرياكوس، الأرشمندريت أفرام، أحاديث روحية، دير سيدة البلمند البطريركي، 1996.
مسرة، الشماس جراسيموس، الأنوار في الأسرار، المطبعة اللبنانية، 1887.
معجم اللاهوت الكتابي، الطبعة الرابعة، دار الشرق، بيروت، 1999.
يازجي، الأسقف يوحنا، الدليل الرعائي للأسرار، بطريركية إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس.، 1996.
يازجي، الأسقف يوحنا، سر التوبة في الطقس البيزنطي الأرثوذكسي، سر التوبة، منشورات معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس الكسليك، 2002.
الياس شفيق، طريق الخلاص، سر التوبة والإعتراف، الطبعة الأولى، جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية، عمان، 1997.