الإعلان الإلهي
الأب جورج عطية
* من الفصل الأول في “أمالي مادة العقائد” في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي *
إعلان الله بواسطة خليقته
يُقصَد بالإعلان الإلهي الأفعال والطرق التي استخدمها الله كي يعرّف بها عن ذاته أو مشيئته أو مقاصده.
الخليقة ذاتها – بما فيها الإنسان – هي الإعلان الأول والدائم لله عن وجوده وقدرته وحكمته عنايته ومحبته. وبكل تأكيد، فلم تكن الخليقة، بعد خلق الإنسان الوسيلة الوحيدة لكي يتعرّف بها على خالقه، بل يحدّثنا الكتاب المقدس في بداية صفحاته عن شركة شخصية مباشرة مع الله. ولكن الإنسان بعد ابتعاده الطوعي عنه بالخطيئة خسر إمكانية هذه المعرفة أو المعاينة المباشرة بسبب إظلام ذهنه وقلبه. ولم يبق عند البشر سوى الخليقة المنظورة والمحسوسة التي تذكرهم بالخالق غير المنظور وغير المحسوس، “لكي يطلبوا الله لعلّهم يلتمسونه مع أنه عن كلّ واحد منّا ليس بعيداً، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 27:17-28) لأنّه، كما يعلّمنا الرسول بولس “لم يترك نفسه بلا شاهد” (أع 17:14).
الكتاب المقدس والتسليم الرسولي يؤكدان هذه الحقيقة إذ يظهر أن الخليقة تعلن عن الله أو تخبر عنه، بحسب تعبير داود النبي: “السماوات تذيع مجد الله والفلك يخبر بأعمال يديه” (مز1:19). هذا الإعلان يتلقّنه مَن يبحث بإخلاص عن خالق هذه الكائنات المذهلة التي تنتظم بإبداع في هذا الكون العجيب. فإنه، كما يقول سفر الحكمة، “بعِظَم جمال المبروءات يُبْصَرُ خالقها على طريق المقايسة” (حك5:13). أو كما يعلّم بولس الرسول “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم (في البشر) لأن الله أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر” (رو19:1-20).
الإنسان إذاً يستطيع أن يؤمن بوجود الله غير المنظور من خلال رؤيته لمصنوعاته المنظورة والتي تحدّث عن صانعها وخالق مادتها، لأنه لا سبب بدون مسبب. كذلك يستطيع أن يهتدي إلى لانهائية قدرة الله من عظمة هذه الطبيعة المخلوقة والغرابة الهائلة لأبعادها كبراً أو صغراً.
كما يمكنه أن يستدلّ على سرمديته من قدم مخلوقاته والاستمرارية الدقيقة لنظام حركاتها. أما حكمته ومحبته فتظهران من خلال عنايته الفائقة بجميع مخلوقاته الحيّة من أحقرها إلى أعظمها: “أنظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها… تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو…الخ…” (مت26:6-30). وبالإجمال، كما يقول القديس أثناسيوس الكبير: “كلّ الخليقة بنظامها وانسجامها تظهر ككتاب مفتوح وتصرخ مخبرة عن سيدها وصانعها”.
ما ذكر أعلاه، لا يعني أن تفتيش الإنسان عن الله من خلال خليقته، هو عملية عقلانية منطقية بحتة. وبالتالي فلا يمكن أن يستفيد من هذه العملية إلاّ الأذكياء والفهماء. في الواقع، ظلّت معرفة الله وستظل، من خلال هذه الطريقة أو غيرها، أقرب تناولاً لا للحكماء في أعين أنفسهم لمتواضعي الروح وأنقياء القلوب: “أحمدك أيّها الآب ربّ السماء والأرض لأنّك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” (مت25:11). أحبّ الناس الظلمة أكثر من النور لأنّ أعمالهم كانت شريرة” (يو19:3). لأن الله الذي زرع في كيان الإنسان منذ الأساس بذور كلمته الإلهية والتوق إلى معرفته، هو الذي يعلن بصورة خفية، وحتى من خلال الطبيعة، للعيون التي تبصر وللآذان التي تسمع (مت13: 16)، أي للقلوب النقية غير الموصدة.
إظلام الصورة الإلهية في الإنسان بعد السقوط، هو الذي أدّى لأن تصبح ليس فقط الرؤية الإلهية غير ممكنة، بل وأيضاً إعلان الله من خلال طبيعته غير فعّال بشكل كافٍ، وكذلك أن يتشوّه استعماله من قبل الوثنيين، الذين عبدوا الخليقة دون الخالق، كما سنرى. من أجل هذا السبب، مع اعتراف الآباء بأهمية معرفة الله من خلال الخليقة، كوسيلة بنّاءة تساعد على الإيمان بالله، إلاّ أنهم يعتبرونها نسبية محدودة، ويحذّرون من أية محاولة للتعرف على الله انطلاقاً من تصوّر وجود مجال للمقارنة أو التشابه بين المخلوق والخالق. لأنّ نوعية طبيعة الله غير المخلوقة تختلف جذرياً عن طبيعة المخلوقات، إضافة إلى أن الله غير ممكن قطعاً أن يصبح هو نفسه موضوعاً قابلاً للمعرفة والبحث من قبل أي مخلوق، وذلك لتعاليه المطلق على كل الموجودات.