أقوال روحية – 1
إعداد راهبات دير راهبات القديس يعقوب الفارسي المقطع، دده، الكورة
المثال المسيحيّ
جمعتنا جلسة عائليّة وديّة مع كاهن رعيّتنا، فدار الحديث حول تخبّط شبابنا المعاصر وحاجته الملحّة للمثال المسيحيّ، فقال ممّا قال: لقد بات العالم معوزاً كفقير معدَم من جهة كلّ ما هو روحيّ وكلّ ما هو فاضل وطاهر. لقد عصفت الخطيئة بالعالم عصفاً يكاد يجهز عليه، حتّى المعتبرَين في المجتمع ينظر إليهم الناس كمثل عليا، اهتزّت بهم الكراسي وسقطوا في أشنع الخطايا من نصب وكذب وزنى. لذلك انحلّ العالم بالشهوات وأصبحت المثل العليا في كتب التاريخ وفي سير الأفاضل الذين رحلوا عن هذا العالم. فإن وُجد في أيّامنا هذه من يشهد للمسيح بكمال السيرة، فإنّه يصير عزيزاً جدّاً في عينيّ الله والناس.
ولسنا بذلك نظلم أيّامنا، ولكن نقول أنّ ندرة المثال المسيحيّ الحيّ حتّى في وسط العاملين والمتردّدين على الكنائس أصبحت ظاهرة عامّة في كلّ الأوساط. فما أكثر الكلام والكتب، وما أندر الحياة بحسب المسيح. ولكنّ الربّ لا يترك نفسه بلا شاهد. فإنّه وإن كان نادراً ولكنّه متواجد حيّ شاهد على فجور العالم وعواصف الشهوات، وبالوقت نفسه أمين صامد ضدّ هذا التيّار الجارف.
ولقد جاءني يوماً شابّ في العشرينات من عمره، وكان يسكن بجوار الكنيسة ولكنّه كان بعيداً عنها في ذات الوقت. عبثاً حاول معه إخوة كثيرون أن يردّوه عن غيّه، ولكنّه كان يراوغ، يعد ولا يفي، يتهرّب ويختفي. جاءني إذن هذا الشابّ، وكنت قد انتهيت لتوّي من خدمة الغروب، وجلست أتلقّى الاعترافات، وجلس إلى جواري وقال: أنا أريد أن أتوب. لقد أقلعت عن التدخين، وتركت رفقة السوء بنيّة صادقة وعزم أكيد، وأرجو أن تساعدني في طريق توبتي. علّمْني كيف أقرأ الإنجيل المقدّس، علّمْني كيف أصلّي.
وبعد أن سمعت اعترافاً صادقاً بدموع غزيرة، وقرأت له إفشين الحلّ سألته:
– ما الذي دفعك بهذا الحماس القويّ لبداية الحياة مع المسيح، هل سمعت مثلاً عظة مؤثّرة؟ أو هل ذهبت إلى أحد الأديرة أو تقابلت مع أحد الآباء؟
– لا.
– هل سمعت عن مرض عزيز لك، أو فُقد أحد أحبّائك؟
– لا.
– ماذا إذن؟!
– منذ بداية السنة الدراسيّة والدكتور الفلاني يواكبنا في دراستنا الجامعيّة، وبالتحديد في كلّيّة العلوم. لقد أسرنا بأخلاقه الكريمة، وكنّا جميعاً نجلّه لوداعته وجدّيته واحتماله إذ لم نره قطّ غاضباً، بل كان في حكمة وبساطة ينصح تلاميذه للحياة الأفضل. ومنذ بضعة أيّام، وأثناء المحاضرة، لفت الأستاذ نظر أحد الطلبة أن ينتبه، وكان هذا الطالب عنيفاً جدّاً بطبعه، والكلّ يتجنّبون الاحتكاك به. كان الأستاذ يتكلّم بلطف شديد وأسلوب مهذّب. وإذا بنا نفاجأ ببركان ثائر من الطالب، وانهال على الأستاذ سبّاً وشتماً، وهكذا وبلحظة انقسم المدرج إلى قسمين: قسم مع الأستاذ والثاني مع الطالب، وتكهرب الجوّ كلّه، والدكتور واقف صامت، لم يضطرب، ولم يعلّق بكلمة واحدة، بل في هدوء عجيب قابل الهيجان والاحتدام. هاج المدرج كلّه وقام بعض الطلبة يعارض والآخر يؤيّد حتّى أوشكوا على الاشتباك بالأيدي. وهنا وجدت الدكتور يمسك بالميكروفون وفي حزم جادّ أعاد السكون للمدرج. ثمّ قال مخاطباً الطالب: يا ابني أنا متأسّف إذا كنت قد أزعجتك حين لفتّ نظرك إلى الانتباه إلى المحاضرة. ولكن صدّقني أنا أقصد مصلحتك. أمّا أنا كوالد فلا بدّ أن أحتمل أولادي حتّى في ساعات الغضب. وما يربطني بكم هو رباط أب لأولاده أكثر من رباط محاضر وتلاميذ، وأنا من حقّي كأستاذ أن أحاكمك على هذا الفعل، وأستطيع أكثر من ذلك، ولكن من واجبي كأب أن أحتملك وأغفر لك، وأنا أحبّ أن أكون أباً أكثر من أن أكون أستاذاً.
يا للدهشة!! ويا لانذهال الجميع!!! إذ وجدنا هذا الطالب يجري نحو الأستاذ ويحاول أن يقبّله قائلاً: سامحني يا دكتور أنا غلطان. أقامه الدكتور محتضناً إيّاه يقبّله ويقول: كلّكم أولادي وأنا أحبّكم جميعاً. ودوّى المدرج بالتصفيق. وأكمل الأستاذ المحاضرة بعد أن ترك فينا أثراً عميقاً. عندها قلت في نفسي: هذه هي الحياة الفضلى وأنا أريد أن أعيشها، هذه هي الحياة بالمسيح وغيرها لا يسمّى حياة. ومن ساعتها عزمت على الحياة بالمسيح، وقرّرت التوبة والاعتراف إذ عاينت قوّة الحياة المسيحيّة وكيف تتغلّب على شرّ الأشرار.
قلت له: يا ابني هكذا كان الشهداء الأبرار شهوداً للمسيحيّة، وكانوا يجتذبون بصبرهم على الآلام وغفرانهم حتّى الذين عذّبوهم وأذوهم. نعم كانوا يحوّلون الوثنيّين إلى الإيمان بالمسيح. فما أقوى حياة الشهادة للمسيح وما أعظم أثرها…
“ليس ما يصدّ الأشرار عن شرّهم مثل مقابلة ضررهم برقّة، فهذا يجعلهم يتوبون عمّا سبق أن ارتكبوه” (القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم)
كيف تقدّم للمجتمع ابناً كاملاً… بالفشل [1]
ورد في إحدى الصحف الأجنبيّة مقال وضع عشرة بنود وجّهها لأهل يريدون لطفلهم أن يغدو شابّاً كاملاً ولكن ليس بالفضيلة ولا بالصلاح بل بالفشل. فلنرَ إذن ما هي هذه البنود العشرة:
1 – أعطِ ولدك كلّ ما يطلبه منك، لأنّه عندما سيكبر سيشعر بأنّ له الحقّ في امتلاك كلّ شيء.
2 – عندما يتكلّم كلاماً نابياً سفيهاً، اضحك له مبدياً إعجابك، وهكذا يظنّ أنّه ذكيّ ظريف، فيؤمّن في المستقبل معجَبون يصفّقون له.
3 – لا تولي اهتماماً لميوله الدينيّة، لأنّه عندما يصبح شابّاً واعياً سوف يختار لنفسه المذهب والديانة اللذين يروقان له.
4 – اجمع ولملم كلّ ما يخلّفه وراءه على الأرض، إذ بهذا يتعوّد أن يلقي مسؤوليّة حياته أو تبعة أخطائه على الآخرين.
5 – تشاجر أمامه مع زوجتك، أو صديقك، أو جارك، وبكلّ ما تملك من قوّة العضلات والصوت، لأنّه هكذا سينمو لديه اعتقاد بأنّ العلاقات الاجتماعيّة تُبنى على القوّة والمشاجرة، فإن “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”.
6 – أعطه كلّ ما يطلبه من المال لكي يصرفه في لعب الورق، فيتعلّم ألاّ يعمل لكي يعيش بشرف، بل يتّكل على القمار، لأنّه الوسيلة الأسهل للحصول على لقمة العيش وإن كان فيه دمار لنفسه وللآخرين، وهكذا تبدو له حياته أسهل من حياتك الشاقّة.
7 – وفّر له كلّ ما ترتاح إليه نفسه من طعام وشراب وتسليات وراحة ورفاهيّة، لأنّه إن رُفض له طلب فسوف (يتعقّد).
8 – أعطه دائماً الحقّ في كلّ شيء، لاسيّما إذا اختلف مع رفاقه أو أساتذته أو جيرانه وحتّى مع الشرطة (في حال خالف أنظمة السير مثلاً)، وهكذا ينمو شعور في داخله بأنّ الكلّ (المجتمع) يظلمونه ولا يفهمونه، لذا وجب عليك أن تقف إلى جانبه، وتربّت على كتفه معزّياً. 9 – برّر ذاتك عندما يبدو ولدك بعد كلّ هذا لا يُحتمَل بقولك: لقد جرّبت مع هذا الولد الشرس المشاكس كلّ الطرق، ولبّيت له كلّ طلباته، وأمّنت له كلّ احتياجاته، ومع ذلك لم ينصلح.
10 – استعدّ، أيّها الوالد (الحكيم)، لكي تحيا مع ابنك المدلَّل هذا حياة بائسة مؤلمة، فهذا ما ينتظرك إن أنشأت ابنك على هذا المنوال.
[1] عن اليونانيّة من مجلّة الكنيسة