القديسون وإعلان القداسة
جورج يعقوب
إن حضور القديسين في الحياة الكنسيّة هو أمر في غاية الأهميّة. وهذا أمر طبيعيّ إذ أنّ غاية الكنيسة وهدفها هو “صناعة القدّيسين”، ولهذا السبب بالذات تدعى “معمل القداسة”. لقد كان موضوع “القداسة” لفترة طويلة من الزمن حلماً منسيّاً وما زال، مع أن الحديث عن أشخاص “قدّيسين” معاصرين بات شائعاً وربما “حديث الموسم” على الصعيد الكنسي. ولكن يبقى السؤال ما هي القداسة ؟ من يظهر القدّيسين ويختارهم؟ ما هي معايير القداسة ؟ وماذا عن إعلان القداسة في الكنيسة الأرثوذكسيّة والتعييد للقدّيسين؟
إذا سألنا بشكل عشوائيّ المّارة على الطريق من هو القديس فإنّ الأغلبيّة يعطون الجواب الآتي:
القدّيس هو شخص لم يخطئ، حفظ الوصايا…. وما شابه ذلك من الصفات التي تنصب في خانة المفاهيم الأخلاقيّة والنفسيّة. القداسة للأغلبيّة الغالبة من الناس هي عبارة عن حالة يصير إليها الإنسان إذا ثبت في أعينهم انّه إنسان فاضل.
ولكن إذا وضعنا تعريف القداسة بحسب الناس في مجهر الكتاب المقدّس، التقليد والحياة الكنسيّة نستنتج أن القداسة أولاً تتماهى مع الله وليس مع البشر والأشياء المقدسة. القداسة إلهيّة المركز وليست بشريّة المركز لهذا السبب تدعى والدة الإله بالفائقة القداسة والكليّة القداسة، ليس بسبب فضائلها وحياتها الفاضلة (التي لا نشكّ بها) ولكن لأنّها اتحدت شخصيّا مع الله القدّوس عندما تجسّد الرب يسوع من أحشائها آخذاً صورة عبدٍ. القداسة إذاً بالنسبة للكنيسة ليست أمراً شخصيّاً يرتبط بِكَم هو “قدّيس” هذا الشخص في حياته، ولكنه موضوع علاقة شخصيّة مع الله القدّوس. فالله، بمشيئته الفائقة الحريّة، يقدّس من يشاء بدون أن يتعلّق الأمر بأيّ شيء البتّة سوى الإرادة الحرّة للمقدَّس. إنّ تماهي القداسة مع الله نفسه تقود إلى الاتحاد بالمجد الإلهي بحسب إيمان الكنيسة. القداسة تعني أن يتمجّد اسم الرب لهذا ليس من الصدفة أن الفقرة الأولى من الصلاة الربيّة، “صلاة الكنيسة”، هي “ليتقدّس اسمك”. فإذا وضعنا في ذهننا أن هذه الصلاة هي إسخاتولوجيّة أي أنّها تعبّر عن حالة العالم في الآخرة يمكننا أن نفهم أن ّما نطلبه في “أبانا الذي” هو أن يتقدّس اسم الله من قبل كل العالم وذلك بصرخة الشاروبيم التي سمعها إشعياء النبي “قدّوس ، قدّوس، قدّوس ربّ الصبؤوت السماء والأرض مملؤتان من مجدك أوصنا في الأعالي”.
الله وحده يظهر قدّيسيه! وهذا يتمّ بواسطة الروح القدس إذ يعلن بطرق متعدّدة أن أحد أعضاء جسد المسيح اتّحد بالله الثالوث بالنعمة وصار “إلهاً” بالنعمة أيضاً على حسب تعبير القديس أثناسيوس الكبير. فالكتاب المقدّس وتقليد الكنيسة يشهد لذلك. في العهد القديم الله نفسه أعلن عن قداسة أيوب بوصفه قائلاً عنه أنّه “رجل كامل، تقيّ ومستقيم وأن لا أحد مثله في الأرض”(أي 1: 8). في العهد الجديد، يسوع المسيح نفسه قال للّص “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23 :43). لا ننسى أن للعجائب التي يصنعها القدّيسون دور مهم في الكشف عن قداستهم إذ تصير بنعمة الروح القدس.
السؤال الذي يطرح الآن وهو موضوع جدل في كنيستنا الإنطاكيّة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين يدور في فلك قضيّة إعلان القداسة وما ينتج عنها من تساؤلات: معايير القداسة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، إعلان القداسة وإكرام القديسين.
الكنيسة الأنطاكيّة هي نبع القدّيسين. هي أرض القداسة بامتياز. فقد قدّمت وما زالت تقدّم العديد من القديسين. ابتداء من الرسولين بطرس وبولس وصولاً إلى القدّيس يوسف الدمشقّي وغيرهم الكثير الغنيين عن التعريف. كما وأن العديد من أبنائها في الفترة الأخيرة تظهر بنعمة الروح القدس علامات عن أمانتهم للمسيح وقداستهم تستحق الانتباه والتقدير.
إن تقليد الكنيسة الأولى، الكنيسة الشاهدة، التي “تزينت بدماء الشهداء كأنّها ببرفير وأرجوان”، يختلف تمامًا عن وضع الكنسية اليوم في شأن إعلان القداسة. ففي السابق كان الشعب مباشرة بعد استشهاد أحد أعضاء جسد المسيح يكرّمه كقدّيس ويبني فوق ضريحه كنيسة على اسمه ويعلن قداسته ولكن كل هذا بعلم وموافقة الأسقف الذي كان يدخل اسم القدّيس بلائحة أسماء القدّيسين المعيّد لهم. وقد حصلت على مرّ التاريخ العديد من إعلانات القداسة من قبل الأباطرة والحكّام ولكن لم يتم الموافقة عليها من قبل الأسقف لأنّها لم تكن قانونيّة. ومع الوقت بدأت الأمور تُنَظّم ووضعت المعايير الرسميّة لإعلان والاعتراف بقداسة المسيحيين الأرثوذكسيين كقدّيسين في الكنيسة الأرثوذكسيّة وتعتبر إلزاميّة:
1. عضو في الكنيسة الأرثوذكسيّة “ذو فكرٍ أرثوذكسيّ مستقيم” بحسب القدّيس نكتاريوس الأورشليمي(1660-1669).
2. الحياة الفاضلة والمثاليّة، قدّيس من جهة كل شيء وبارٌ حتى نهاية حياته.
3. أن يكون قد حفظ ودافع وشهد طيلة حياته بالقول وبالفعل عن الإيمان القويم والعقيدة الأرثوذكسيّة.
4. موت شهادة أو حياة استشهاد في سبيل الإيمان بالمسيح.
5. تضحيات في سبيل كنيسة المسيح والعمل الكنسي.
هنالك معايير أخرى ولكنها لا تنطبق على كلّ القدّيسين:
1. صنع العجائب قبل وبعد الموت.
2. إفاضة الطيب من ذخائرهم المقدّسة. وهذه موهبة جدًا خاصة تختص بالقليل من القدّيسين كالقدّيس ديمتريوس والقدّيس سمعان مؤسس دير السيمونوس بتراس في الجبل المقدّس و القدّيسة ثيوذورة التسالونكيّة.
3. عدم انحلال الجسد وفساده.
4. الانتظار لفترة تتجاوز الخمسين سنة على وفاة القدّيس لإعلان قداسته. هذا الشرط لا تشهد له التقاليد الكنسيّة القديمة.
إعلان القداسة كما قلنا كان يقوم به الشعب. و لكن منذ عهد البطريرك فوتيوس الكبير هنالك شهادات عن أن هذا الموضوع صار مرتبطًا بالمجمع المقدس الخاص بكلّ بطريركيّة. كما وأنه بدأ يتضح أكثر منذ القرن الرابع عشر مع القدّيس فيلوثاوس كوكينوس أن المجمع المقدّس هو المسؤول الأول عن هكذا قرار. الموضوع بالنسبة للكنيسة الروسيّة محسوم منذ سنة 1547م.
لذا فإنّ أي مشروع لإعلان قداسة يتم أولاً بتحرّك شعبيّ متواضع، على مثال حياة القدّيسين، نحو المتروبوليت راعي الأبرشية، فيتم تجهيز ملف واضح عن الشخص المرشح حتى يرفع بواسطة المطران، عندما يرى أن الموضوع مناسبًا، إلى المجمع المقدّس حيث يصار لدرسه بدقّة وعلى أساسه يقرّر المجمع ما هو مناسب للكنيسة بنعمة الروح القدس. هكذا أمور، ولكي لا توقع العثرات في النفوس الضعيفة، يجب أن تتم بكلّ هدوء ورويّة.
إن القديسين يصار إلى التعييد لهم وإكرامهم فقط بعدما يتمّ إعلان قداستهم من قبل المجمع المقدّس وغير ذلك يعدّ تخطيًا للقوانين الكنسيّة.
واليوم في كنيستنا الإنطاكيّة نرى علامات قداسة على بعض الأشخاص من رهبان، كهنة ومطارنة وبطاركة… وحتى علمانيين. هذا أمر طبيعيّ وليس من داع للتعجب. فالكنيسة الإنطاكيّة عاشت وتعيش في القداسة منذ القديم حتى اليوم وهي معتادةٌ على هذا. ما علينا أن نفعله نحن أن نصلّي إلى الرب فقط لكي يمجَّد اسمه في هؤلاء الأشخاص.
أمّا في موضوع إعلان قداستهم، الموضوع في غاية البساطة وقد وعت له الكنيسة الأرثوذكسية في زمننا الحالي حيث تغيّرت المعايير الاجتماعية. في اليونان مثلاً لا يصير أي إعلان عن قداسة إلاّ بعد مرور أكثر من 50 سنة على وفاة الشخص وذلك بسبب وجود مقربين منه من أهل و إخوة و… على قيد الحياة حيث لا يصار إلى الافتخار و التكبّر بالقول، وهذا جداً وارد، أنا أخ القدّيس، أنا ابن القدّيس…( وقد حصل منذ سنوات أمر كهذا في الكنيسة الغربيّة حيث أعلنت قداسة امرأة بحضور زوجها وابنتيها) لأن من يفتخر فليفتخر بالرب على حدّ قول الرسول بولس. ومثال على ذلك الراهب باييسيوس والأب يعقوب تساليكيس وغيرهم. الملفت للنظر أن تكريمهم يصير بشكل بسيط زيارة المدفن، إضاءة شمعة، والاكتفاء بالقول “يا أبونا صلّي لأجلنا” وليس “تشفّع لأجلنا”. مع العلم أن الكثير يزورون ضريحهم والكثير من العجائب تحدث بصلواتهم. هنالك منشورات بأقوال وتعاليم لهم وهذا أمر طبيعيّ.
الكنيسة هي جسد المسيح، وهو رأسها. الكلّ مدعو ليعمل إرادة الرأس، إرادة المخلص يسوع المسيح. الكلّ مدعوّ للقداسة، أن يكون في الفردوس، أن يكون قدّيسًا على مثال القدّوس. فالقلب، العين، الأذن، اليد وكل أعضاء الجسد و لو كان لها أسماء مختلفة عليها أن تصنع مشيئة الرأس. وهكذا نحن سواء كنّا علمانيين أو رهباناً أو إكليروس أو مبشرين كلّنا أعضاء في جسد المسيح يجب أن نصنع مشيئته. كلّنا قدّيسون لأنّه ينادينا دومًا “القدسات للقدّيسين”. فلنبتعد عن كلّ مجد عالميّ ولا نسعين لنعطي ألقاب لأناس تخطوا الألقاب ولنترك من تقدّسوا يعيشون بهدوء مع القدّوس حيث يتمتعون بجمال وجهه وهو في الوقت المناسب سوف يعلن رسميّا بواسطة ملائكته المطارنة (كما يدعون في رؤيا القدّيس يوحنا) للعالم أجمع هؤلاء الأحباء قدّيسون في كنيسة الرب يتشفعون بنا كما كانوا من قبل.