الزواج المختلط
الأرشمندريت توما بيطار
نبذة قانونية تاريخية
“ليس مسموحا للأرثوذكسي أن يقترن بامرأة هرطوقية ولا للأرثوذكسية أن تقترن برجل هرطوقي. فإذا ما تمّ مثل هذا الزواج فإننا نوجب إعتباره ملغى ومحلولاً…”.
هذا ما ورد في القانون الثاني والسبعين من مجمع تروللو المعروف بالخامس – السادس والمنعقد في القسطنطينية في العام 692. تجدر الإشارة إلى أن الهرطقة هي كل تعليم يخالف تعليم الكنيسة.
كثيرون بيننا لا علم لهم بوجود مثل هذا القانون. وكثيرون من العارفين به توقفوا عنده طويلاً واعتبروه واحداً من أصعب قوانين مجمع تروللو تفسيراً.
مهما يكن من أمر، فإن القانون يحتّم وحدة الإيمان بين الزوج والزوجة. وما ذلك بغريب عن الفكر الكنسي عبر التاريخ. العهد القديم أولى هذه المسألة أهمية بالغة. الرب الإله، حينما قاد شعبه في البرية إلى أرض الميعاد، حذّره بقوة من مصاهرة الشعوب الأخرى: “لا تصاهرهم. بنتك لا تعط لإبنه وبنته لا تأخذ لإبنك، لأنه يردّ ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى فيحمي غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً”. (تثنية الإشتراع7).
ولا مبالغة إذا قلنا إن أحد ابرز الأسباب التي قوضّت بنية شعب العهد القديم وفكّكته وجنحت به الى الزنى الروحي وخيانة الله وأوقعت به كان الزواج المختلط.
إطار الموضوع
في كل حال، ليس همّنا ههنا أن نعرض لموضوع الزواج المختلط لا من الوجهة التاريخية ولا من الوجهة القانونية. حسبنا أن نلقي عليه بعض الأضواء اللاهوتية الرعائية آملين أن تأتي هذه الأسطر، على تواضعها وعفويتها، مدخلاً إلى دراسات مركزة تمتد إليه بروح المسؤولية التي تفرضها خطورة الزواج المختلط،لا سيما في هذه الأيام.
يقتصر حديثنا عن الزواج المختلط على الزواج بين الأرثوذكسيين وغير الأرثوذكسيين من المسيحيين. غنيّ عن القول أن وطأة الموضوع تشتد وتضعف تبعاً للوسط البشري الذي نتحدث عنه وكذلك للواقع الطائفي.
الزواج المختلط بالأرقام
في مراجعة سريعة لسجلات الزواج في مطرانية جبيل والبترون وتوابعهما للروم الارثوذكس (جبل لبنان) برزت لناظرينا الإحصائيات التالية:
1 – عدد الزيجات المسجلة خلال العام 1985 هو 435. مئة وأربعون (140) منها كانت الزوجات فيها أرثوذكسيات ومئتان وخمس وتسعون (295) غير أرثوذكسيات. أي أن نسبة الزيجات المختلطة التي تنتمي فيها الزوجات إلى كنيسة غير الكنيسة الأرثوذكسية هي 67.8%.
2 – عدد الزيجات المسجلة خلال عام 1986 هو 461. مئة وثمان وسبعون (178) منها كانت الزوجات فيها أرثوذكسيات، ومئتان وثلاث وثمانون (283) غير أرثوذكسيات. أي أن نسبة الزيجات المختلطة التي تنتمي فيها الزوجات إلى كنيسة غير الكنيسة الارثوذكسية هي 61.4%.
3 – يتراوح عدد الإفادات التي تعطى سنوياً لفتيات أرثوذكسيات يزمعن الزواج من شبّان غير أرثوذكسيين بين مئة وخمسين (150) ومئتين (200).
4 – إذا ما جمعنا الأرقام المبينة أعلاه وأخذنا متوسطاتها لظهر لنا أن ما يزيد على 75% من شبابنا وفتياتنا، ممن يقبلون على الزواج سنوياً، يقترنون بشابات وشبّان غير أرثوذكسيين.
واقع ومأساة
إذا ما أمعنا النظر في هذه الأرقام من زاوية أن هناك ثلاث أوساط بارزة في عملية التنشئة المسيحية: البيت والكنيسة والمؤسسات. وإذا ما عرفنا أن نسبة من يرودون الكنيسة وفقاً لدراسة أجريت منذ عدة سنوات هو خمسة في المئة – ربما قفزت هذه النسبة في السنوات الأخيرة إلى سبعة أو ثمانية في المئة. وإذا ما ذكرنا أن المؤسسات الأرثوذكسية لا سيما المدارس والأديرة وحركات الشبيبة والجمعيات وما إليها لا تطال غير فئة ضئيلة من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية. إذا ما أخذنا في الإعتبار هذه المعطيات مجتمعة، لوجب أن تنزل علينا هذه الأرقام نزول الصاعقة. أجل البيت الأرثوذكسي اليوم مشرك… ولطالما رددنا أن الكنيسة الارثوذكسية هي البيت الأرثوذكسي أولاً وقبل كل شيء، فإن واقع هذا البيت صفّاع اليوم حتى الذهول.
أكثر الناس لا يعون وطأة ما يحدث ولا يبالون. لا بل هناك تفشّ لهذا الواقع واستسلام يذهب إلى حد الإغضاء عن مخاطره واعتباره، بفعل الممارسة والضغط الإجتماعي، واقعاً مقبولاً، وفي الغالب، شأناً مبرراً ومرغوباً فيه يدافعون عنه ويعتبرونه ضرباً من الإنفتاح الأرثوذكسي (!). وإن هو في الحقيقة سوى خروج عن الإيمان القويم وتفريط به وكذلك ثمرة من ثمار هذا الواقع الهجين نفسه.
حتى بعض المسؤولين في الكنيسة، رئاسات وكهنة، لا يرون في هذا الواقع غضضاً. قلة منهم ترى في الأمر خللاً. ما يكفي الغالبية أن تُتم الورقيات والمراسم المتعارف عليها وتحسب نفسها بعد ذلك في مأمن من الشطط.
تهجين العائلة الأرثوذكسية
إذا كان من غير المنصف إعادة التدهور في التنشئة الأرثوذكسية في البيت إلى الزواج المختلط وحده، فمما لا شك فيه أن لهذا الزواج أثراً كبيراً في تهجين العائلة الأرثوذكسية. يتفتّق هذا التهجين، في نظرنا، في مستويين:
1 – في مستوى الممارسات.
2 – في مستوى الوجدان.
في مستوى الممارسات
في مستوى الممارسات، يتراوح التأثير بين الخلط، حينما تتوفر في البيت بقية حضور أرثوذكسي، والإستعاضة، حينما يغيب مثل هذا الحضور. وعندك من هذه الممارسات الدخيلة والعادات التماثيل والصور والمسبحة الغربية والصلوات الغربية.وعندك، كذلك، العادات التقوية الخاصة بأم الله والقديس شربل ومار يوسف التسعوية وشهر مريم. ولا تنسى القربانة الأولى ونذور اللباس لمار الياس ومار مطانيوس والعذراء ومار مارون ومار شربل. وإذا شئت فحدّث عن المناولة بمد اللسان ومسحة الرماد والركعة على ركبة ونصف إشارة الصليب بالأصابع الخمسة ومن اليسار إلى اليمين. ودونك أيضاً تعويد الأولاد على ريادة الكنائس الغير الأرثوذكسية حيث الكاهن متهم بالتطويل والجوق بالتجويد. وإن تنسى لا تنسى القاموس الكنسي المتداول. وإذا شئت فعرّج على فرسان العذراء وأخوية الحبل بلا دنس وجمعية قلب يسوع والقلبين الاقدسين…
مستوى الوجدان
هذا من حيث الممارسات. أما في مستوى الوجدان، فالأمر غاية في الأهمية ولا شك.
إن الخطر الأكبر الآتي من الزواج المختلط يداهم الوجدان الأرثوذكسي أولاً. المرأة التي نشأت في بيئة ومناخ غير أرثوذكسي لا يمكنها إلاّ فيما ندر، أن تنفخ في بيتها وأولادها وجداناً أرثوذكسياً. للرجل دوره ولا شك ولكن المرأة هي صاحبة الدور الاول بلا منازع.
عندك في الحديث عن الوجدان النظرة الى الوجود والموقف العميق من هذا الوجود. وبما أن الإيمان إيمان فاعل بالمحبة، فللوجدان الأرثوذكسي فرادته كونه خلاصة التعاطي المميز مع الله في الكنيسة والتاريخ إن لجهة الفكر أو العبادة أو نمط العيش. لذا نحن نحسب أن هذا الوجدان هو ميراث الكنيسة الحي الذي لا يمكن التفريط به إلا على حساب أمانة الكنيسة لربّها واستقامة فكرها وسلامة كرازتها. في إطار هذه الفرادة، يمكننا أن نتحدث، من دون عقد، عن اختلاف، لا سيما في هذه الرقعة من العالم، بين وجدان أرثوذكسي وآخر غير أرثوذكسي. ويتجلّى ذلك في الموقف من أمور شتّى أساسية. ففيما يشكل النظام، مثلاً، هاجس الكنيسة الكاثوليكية الأول، وفيما تميل الكنائس البروتستانتية إلى التأكيد على البراغماتية والإنجيل الإجتماعي، يشكل اللاهوت والعبادة محور الإهتمام في الكنيسة الأرثوذكسية. الوجدان الأرثوذكسي لا يمكن أن يطرح في هذا السياق، وفي المستوى الشعبي مثلاً، موضوع القداس الذي يستغرق ربع ساعة أو نصف ساعة. الأرثوذكسي، متى دخل إلى الصلاة طرح عنه كل إهتمام دنيوي وترك ساعة يده خارجاً واستغرق في الصلاة كمن لا همّ آخر له. ودونك مثلاً آخر: النظرة إلى الوحدة المسيحية والعلاقة بين الكنائس، وتالياً بين أبناء هذه الطائفة وتلك. يعتبر الكاثوليكي أن الوحدة المسيحية تتحقق عندما يضع المسيحيون الآخرون عصا الطاعة للبابا ويعودون إلى الكنيسة الكاثوليكية الأم كالإبن الشاطر إلى أبيه. ويعتبر البروتستانتي أن الوحدة المسيحية هي نتيجة طبيعية لحوار عقلاني هادىء خالٍ من العقد في جو ديمقراطي مسؤول وفي إطار تعاون خدماتي إجتماعي أصيل. بينما يعتبر الأرثوذكسي أن الوحدة المسيحية لا تكون إلا إذا عاد المسيحيون إلى الأصول والينابيع واستعادوا الإيمان الحي الواحد والفكر الإلهي الواحد، وأن الوحدة بين الكنائس هي الوجه الآخر للوحدة مع الله.
وكما هي الحال بالنسبة للإختلاف في النظرة إلى محور الحياة المسيحية وإلى الوحدة المسيحية، كذلك هي الحال بالنسبة للحشد من المسائل الأخرى في الوجود. النظرة إلى الخطيئة تختلف. النظرة إلى المؤسسات تختلف، النظرة إلى السياسة تختلف، النظرة إلى الرئاسات، النظرة إلى الزواج الخ…
مواجهة الموضوع
إننا نعتبر، في ضوء ما تقدّم، أن مسألة الزواج المختلط، على تسيبها، غاية في الخطورة. وإذا كان من غير الجائز التغاضي عن الواقع وعن طبيعة التداخل السكاني في هذه البلاد وعن الضغوط الإجتماعية السياسية الحاصلة، فمن غير الجائز التفريط بالوجدان الأرثوذكسي، وتمييع الهوية الأرثوذكسية والتسليم بالأمر الواقع وإتباع نهج اللامبالاة حيال أمر في مثل هذا المستوى من الأهمية. قد لا يكون بالإمكان إيجاد حل عجائبي لهذه المسألة، ولكن بالإمكان فعل الكثير وعلى صعد شتّى. على صعيد الدراسات اللاهوتية والتاريخية والقانونية والأبحاث الرعائية. على صعيد النشر والتثقيف الإيماني. على صعيد التنشئة الكهنوتية. على صعيد رعاية الشباب، على صعيد رعاية العائلات. نحن بحاجة لأن نقول لأبنائنا أن الزواج المختلط من حيث المبدأ ممارسة خاطئة وغير أصولية ومضرة بالبنية الكنسية التي ننتمي إليها وزانية بمعنى الزنى الروحي. نحن بحاجة لأن نبيّن لأولادنا بالأمثال والأرقام المضار المتأتية من هكذا ممارسة. طبعاً نحن لا نفرض على أولادنا السلوك في نهج كنسي مستقيم بالقوة، أقلّه أن نبث فيهم روح الأمانة لكنيسة المسيح والمعرفة الصحيحة والتوجيه السليم، ولله، بعد ذلك، فيهم شؤونه.
المسؤولية المشتركة
وبانتظار أن يأخذ موضوع الزواج المختلط حجمه الواجب وحقّه من الإهتمام لدى الرئاسات الموقرة والكهنة الأجلاء وحركات الشبيبة الأرثوذكسية، على كل واحد منا، كهنة وعلمانيين، آباء وأمهات، شباناً وشابات، أن يعي أن هناك مشكلة حقيقية تهدّد الكنيسة. وأنه لا يجوز ولا يليق بمن التزموا الأمانة لربهم أن يستمروا في معزل عما يجري أو أن يديروا له ظهورهم غير عابثين.
تعليق
المقال سبق نشره في مجلة النور أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. كان لا بدّ من التوقّف عنده وإعادة نشره، لأن الأرقام المذكورة أعلاه لا بدّ ارتفعت. ولكن المحرّك الأهم لإعادة نشر المقال هو أنّ كلّ الأبرشيات أسست أو تعمل اليوم على تأسيس مكتب إعداد زوجي. وقد طرحنا سؤالاً على القيّمين على مكتبين من هذه المكاتب حول ما الذي يقومون به للعمل على درء خطر تمييع الوجدان الأرثوذكسي. الجواب هو عملياً لا شيء. فبرامج هذه المكاتب محصورة بلاهوت الزواج وكيفية تلافي الخلافات أو حلّها. (الأب أنطوان ملكي)
