العدو في الداخل
الأرشمندريت ديونيسيوس كالامبوكاس
رئيس دير بترا، كارديتسا، اليونان
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
ما هي الأنا؟
الشيطان، الذي كان أول الملائكة وأرفعهم، عندما حوّل نظره عن الله ووجّه انتباهه إلى نفسه، كانت أولى بذور الأنا. لقد سحب عينيه الروحيتين من رؤية الثالوث القدوس، رؤية الرب، وتطلّع إلى نفسه وراح يفكّر بذاته ويقول: “أنا أريد أن أضع عرشي على أعلى مكان، وأكون مثله”. في تلك اللحظة بدأ تاريخ الأنا، وحقيقتها ووجودها، والأنا بالحقيقة ليست الحقيقة بل رفض الحقيقة. الأنا هي الزهرة التي تخرج من موت المحبة. أي عندما نقتل المحبة، تكون النتيجة الأنا.
ما هو وصف الأنا؟ كيف تظهر في الكائن البشري؟
عندما لا نثق. تولد الأنا عندما لا نثق بالآخرين. عندما نخاف من الآخرين، عندما نحتاج إلى أسلحة لمواجهتهم، عندها نحتاج الأنا لأننا نكون في طريقة الحياة الخاطئة. نفكّر بذواتنا فقط، ولا نرى إلا أنانا. بينما عندما ننظر إلى بعضنا، ونثق ببعضنا، لا حاجة للأنا، ولا سبب ولا إمكانية لها.
إذاً من طريقة كلامك عن الأنا، فهي الإصرار على انفصالنا واستقلالنا؟
نعم، الإصرار على وحدتنا. حاجتنا لأن نكون وحيدين، لأن تكون لنا طريقة تفكير ترضينا وتحفظ شخصيتنا بطريقة خاطئة.
أي إنها وضع ذواتنا أولاً وقبل الكلّ؟
نعم، ويقول المسيح “الآخرون أوّلون”. إذ عندما تريد أن تكون الأخير تختار المقعد الأخير، وعندها فقط تستطيع أن تنادي الجميع بالأصدقاء.
الأنا، هذا الإحساس بأهمية الذات الذي تحكي عنه، غالباً ما تُوصَف في الفيلوكاليا وغيرها من كتابات النساك المسيحيين على أنها العدو الرئيسي الذي ينبغي بأصحاب الطموح الروحي أن يصارعوه في سعيهم إلى الاتحاد بالله. لماذا تُعتَبَر الأنا هذه الخصم المرعب على الطريق؟
إنها لعدو قوي لأنها العدو الذي في داخلنا. نحن أعداء ذواتنا، مثل آدم وحواء في الملكوت. بالطبع، تحدّثت الحيّة إلى حواء، لكن كان باستطاعتها أن تتلافاها. الحيّة قالت لها: “الرب كذب عليكما”، ولكن لو أنها كانت تثق بالرب لما كانت باشرت الحديث مع الحية. وآدم أيضاً، خسر اتصاله بالرب ومكث مع أناه. وكِلا الأنا، عند آدم وعند حواء، عملا معاً. العدو الحقيقي هو الأنا. إنها العدو لأنها ضد المحبة. عندما أنظر إلى نفسي لا أحب الآخرين. عندما أرغب في أن أحتفظ لنفسي بما هو لغيري، أصير قاتلاً لأخي، كما قتل قايين أخاه هابيل. إن أردت أن أقدّم لنفسي الاكتفاء، فأنا أكسب هذا الاكتفاء بالتضحية بحرية الآخرين. من ثم أناي تصبح سيدي، وليس من تجربة أقوى من هذه. بالنسبة لنا، قد تبدو هذا الأنا مثل الماسة. إنها تلمع مثل الذهب، لكن ليس كلّ ما يلمع ذهباً. هذه الأنا مثل النار من دون نور، نار من دون دفء، نار من دون حياة. يبدو أن لها أوجه كثيرة وإمكانيات متعددة، لكن ما هي هذه الإمكانية؟ ما هي الأنا؟ إنها الوسيلة التي بها أحمي نفسي وكأنني في معركة، وكأن كل شخص عدوي، والأمر الوحيد الذي يهمني هو الانتصار.
لقد قال بعض أعظم المستنيرين الروحيين أنّه عندما يأخذ الإنسان الطريق الروحية بجديّة، غالباً ما يصل إلى مواجهة أناه بطريقة لم يكن يتخيلها قبلاً. في وصف هذه اللقاءات مع الأنا، أعطاها الكثير من القديسين صورة القوة الشيطانية الباطنية التي لا تريد الحياة الروحية ولا تريد الله بل ترغب في أن تعمل كل ما باستطاعتها لتعيق استنارتنا وتقوّض عزمنا الثابت على البقاء على الطريق.
يكتب الرسول بولس كلاماً جميلاً عن هذا الحدث، هذا الصراع داخل القلب البشري. يقول “وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي” (روما 23:7). لهذا قلتُ أن مشكلة الإنسانية الكبرى هي في داخل كل إنسان وليست خارجه. لهذا نحتاج إلى آباء روحيين. لهذا نحتاج أطباء روحيين. نحتاج إلى جراحة وعملية، نحتاج لاستئصال شيء ما في قلبنا.
نحن لا نفهم أن هذا العدو الذي في داخلنا ليس نفسنا، وليس شخصيتنا. إنّه مجرّد إغواء. إنّه بذور مشكلة الأنا. نحن نضمّ شخصيتنا إلى أخطائنا. نحن نشوّش شخصيتنا بالخطيئة. نزاوج هذين الأمرين، وانطباعنا عن أنفسنا خاطئ. لا نعرف ما نحن ونحتاج إلى أحد ما لكي يظهر لنا مَن نحن؛ نحن بحاجة لمَن يفتح أعيننا حتى نتمكّن، أقلّه، من رؤية العتمة.
القديس غريغوريوس بالاماس هو متوحّد لا بل أهم المتوحّدين. لقد أمضى ثلاثين سنة يصلّي فقط الصلاة التالية: “أنِر ظلمتي. أنِر ظلمتي”. لم يسمِّ السيد لأنه لنم يشعر بأنه يستحق ذلك. لم يوجه صلاته لأي كان بل كان يرددها نهاراً وليلاً، أكثر من نفَسه. لأن كل ما كان يعرفه في نفسه كان ظلاماً. لقد كان يكلّم شخصاً آخر لم يكن سوى المسيح الذي قال “أنا النور”.
أنِر ظلمتي تعني أرِني أخطائي؟
أو تعالَ إلى ظلمتي وأحرقها. اجعلها ناراً واجعل نوراً فيها. أعظم ما يمكن أن نقوم به في حياتنا هو اكتشاف أننا لسنا شيئاً بذواتنا. نحن ظلام، غبار.
غالباً ما تُوصف الأنا في الأدب الروحي كعدو ماكر وانتهازي، قادر على قلب كل المواقف لمصلحته محاولاً إعاقة أي تقدّم روحي. ما الذي تشعر بأنه الخاصية الأكثر أهمية في الإنسان من جهة القدرة على مساعدتنا للانتصار في الحرب ضد الأنا الذكية والدائمة التبدّل؟
التوبة. الاعتراف بأخطائنا وخطايانا، هذا أسمى أمر يمكن أن نقوم به. الاعتراف بخطايانا لا لكي ننجح في أمر آخر، بل فقط لكي نرى حقيقتنا. القديس اسحق، ناسك الكنيسة الكبير، يقول أنّ مَن يسلّم بخطيئته، يفهمها، ويعترف بها أمام الرب، هو بالحقيقة الأكثر سمواً. إنه أعظم ممن ربح كل العالم، من الذي يطعم الناس، من الذي يجترح العجائب، ومن الذي يقيم الموتى. هذا الرجل الذي يعترف، هو الأول والأكبر إذ لا يمكن أن يسقط. إنه يمتلك الثبات، المستوى، والموقع الذي يؤهّله ليكلّم الرب. إنه في منزلة تؤهّله ليصرخ إلى الرب بدموعه وبتوبته وبفهمه أنه أخطأ. وعاجلاً يصير واضحاً. النور يأتي منه، يصير طبيباً روحياً، معلماً أو أباً، لأنه لا يخشى الاعتراف بخطاياه وليس عنده مشكلة في أن يقول: “اعذرني، كانت غلطتي”. هذا هو مفتاح النجاة من كل سقطات الشيطان.
هل نكون دقيقين إذا اعتبرنا أن التواضع هو هذه الخاصية وهذا الاستعداد لمواجهة النفس؟
لا هو ليس التواضع, التواضع هو النتيجة. من الأفضل أن نقول “الحكمة”. نحن نشد على أنفسنا لنتّضع. لكن ما علاقة التواضع بمعرف أخطائنا؟ أعليََّ أن أكون متواضعاً لكي أعرف أخطائي؟ لا. عليّ أن أراها. إنها حاجة ملحّة. إنها طريقتي للوجود للحظة التالية. كيف لي أن أكون موجوداً مع أخطائي للحظة. أمام مَن؟ أمام نفسي، كيف أكون مع أخطائي وخطاياي؟ عليّ أن أقرّ “أنا اقترفتها”.
يعبّر دوستويفسكي عن هذا الأمر بشكل رائع في “الجريمة والعقاب”. الشخصية الرئيسية، راسكولنيكوف، يقتل شخصاً أخراً، وما أن يقوم بذلك حتى يفهم مباشرة ما قام به. إنه لا يتعرّف إلى ذلك بنفسه بل من خلال الكلمات القاسية الصارمة التي قالتها صونيا الفاجرة “أنظرْ ما فعلتَ”. لقد قادته إلى وسط الساحة، أمام كل الناس، ليعترف بما فعل. وقد نطق، اعترف. ويقول أنه لو لم يعترف لما كان استطاع أن يستمر في الوجود، ولكان اقترف أكثر وأكثر من الجرائم. وهو يقبل حكم المحكمة في السجن لأكثر من عشرين سنة في أقسى السجون. ويمضي. وهناك يحسّ بدواء قلبه ويتناوله. نحن عندنا مشاكل في الحياة لأننا لا نريد أن نقبل ولا أن نعترف بخطايانا. مع أن هذا هو المفتاح. ماذا عندنا لنعطي بعضنا؟ ذهب، مال، شهوة، طعام؟ حياة مديدة؟ لا. فقط الاعتراف بخطايانا. وعندها يصير عالمنا جديداً.
يبدو وكأنك تتكلّم عن نوع من الضمير العميق الذي يتحرّك عندما نواجه أنفسنا؟
إنّه المحبة. المحبة أرفع من الضمير. الضمير شيء يقول لك “أنت تفعل هذا، أنت تفعل هذا…” وكأننا أمام محكمة ذاتية. لكن المحبة أكثر من ذلك، فهي تجعلنا مستعدين للدفاع عن خطايا الآخرين. إنها درجة أكثر سمواً. ليست المحبة مجرّد الاعتراف بخطايانا، بل هي أن نكون مستعدين لتحمّل مسؤولية خطايا لم نقترفها، كما فعل المسيح. هذه هي المحبة.
تتحدّث كتابات الآباء المسيحيين عن أنّ هدف الرحلة الروحية هو تجلي الكائن البشري إلى درجة مختلفة كلياً من الوجود البشري، درجة تموت فيها الأنا، وبمعنى ما، نولَد من جديد. ما معني أن تموت الأنا؟ وبأي معنى نولَد من جديد؟
الرب يدعونا لأن نتحوّل. إنه يريد أن يعطينا حقيقتنا، أي ذاتنا الحقيقية، التي فقدناها. وفي الحياة الروحية، خاصةً الرهبانية، يمكن لهذه الأنا أن تتحوّل فعلاً. التلاميذ بعد أن تبعوا المسيح إلى طور ثابور، شهدوا على أن جسمه تجلّى إلى نور. يشرح كثيرون من الآباء أن التحوّل لم يكن فعلياً في جسد المسيح بل في أعين تلاميذه. ففي تلك اللحظة، تحوّلت أعينهم واستطاعوا أن يروا ما كان المسيح عليه دائماً، لامعاً مملوءاً من النور. بتواضعهم، باتّباعهم المسيح، نُقِلوا إلى قمة هذا الجبل ليتمتّعوا بهذه الحقيقة. وكلّ واحد منّا مؤهّل للحصول على هذه البركة كون طبيعتنا مؤهّلة لأن تتحوّل.
هذا التجلّي هو تقدمنا الحقيقي ونمونا الحقيقي. ليس المهم أن نوظّف حياتنا الروحية في المسيح لنصير أفضل، أكثر ذكاءً، أكثر معرفة، نزيد أصدقاءنا، نؤثّر على غيرنا، نحقق سلطة وقوة، نمتلك مالاً وصحة وشهرة واعتباراً حسناً. المسألة هي ما في القلب ليس إلاّ. المهمّ هو أنّ لا تحمل الممارسة اليومية أي بذار للأنا في قلبنا. عندما تأتي التجربة يمكنها أن تتلف جودة الحياة والعلاقة بين الناس. علّمنا الرب أن نكون يقظين دوماً وأن نصلي إليه “لا تدخلنا في التجارب”. من خلال هذه الحماية من التجربة، نتوصّل إلى أن نرى بوضوح تامّ ما في قلوبنا. وباتّباع الحياة اليومية البسيطة، يمكننا أن ننقي أنفسنا، روحنا وفكرنا. بعد هذا، يصير من السهل أن يأتي الروح القدس. في القداس الإلهي نكون في الكنيسة مع الخبز والخمر. نصلّي، يأتي الروح القدس ويحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. بالطريقة عينها، يمكننا أن نطهّر أنفسنا، والروح القدس يأتي ويحوّلنا بشتّى الطرق التي قرأنا عنها في الكتب، ويجلب إلينا خبرات أكثر مما تسع كل كتب الدنيا.
هناك في التقليد الأرثوذكسي ذرية جليلة من الآباء الروحين المستنيرين، أشخاص عظماء برهنوا بحياتهم إمكانية تحطيم الأنا واكتشاف الحياة الجديدة في الله. ما هي علامات الإنسان الذي ربح المعركة الروحية؟ كيف يتغيّر التعبير عن الشخصيّة في الشخص الذي تغلّب فعلياً على الأنا؟
إنّه مستعد دوماً لكل شيء. لا يتعب ولا يحكي عن التعب أو يحسّ به. مبتهج ومستعد دائماً للعطاء. يعيش فقط للآخرين، مستعد لخدمة أي كان. لا يدين أحداً مهما كبرت خطيئته. إنه مثل ولد، لكنه ولد ملك. مَن يستطيع أن يلمس ابن ملك؟ مَن يستطيع أن يلامس شبلاً حديث الولادة فيما اللبؤة قريبة منه؟ على هذا المنوال، أنت حمل صغير بين ذئاب، لكنك لا تخاف. أنت هناك تقدّم، تستقبل الجميع، تحبهم، تخدمهم، تصلي من أجلهم، مستعد للموت في أي لحظة، وفي كل هذا أنت حرّ تماماً وبكل ما في الكلمة من معنى. كل هذه هي ثمار المحبة، لأننا نصبح مصدر محبة. هكذا هو الإنسان من دون أنا. هذا هو التحوّل. إننّا مثل شجرة برية قديمة نحتاج شيئاً يأتي إلى داخلنا ويحوّل هذه الشجرة إلى أخرى مثمرة. إنسان من غير أنا يكون مع الله، مع الروح القدس.
عندما تموت من أجل الكل في كل لحظة، عندما تحب، عندما تحترم، عندما تنحني أمام الآخر، فكأنك تهيؤه لعملية جراحية؛ يختلف الأمر عندما تدين الآخر أو تحسّ بأنه يحتاج شيئاً منك. عندما تكون كاملاً أمامه – ونحن بإمكاننا أن نكون كاملين، لا بل علينا أن نكون كاملين، وهذه هي الحاجة الأساسية – هذا ما يحتاجه الناس ويعرفونه ويفهمونه. سريعاً يأتي الجميع ليأخذوا مقعداً في مواجهة هذا الشخص، في مواجهة ابن روحي أو أب روحي.
بحسب خبرتك، الأب الروحي الذي تخطّى فعلياً الأنا والذي ينفخ الروح في الناس ليبلغوا أقصى ما في مقدورهم، ألا يقدّم أيضاً ذروة التحدي لأنا الذين يأتون ليروه؟
بكل تأكيد. في الحقيقة، بوجود هكذا إنسان، يبتعد الشيطان. ويمكنكم أن تروا بوضوح كيف أن الشيطان يجعل الناس مجانين أو غاضبين أو قليلي الاحترام من دون قول أي شيء. لمجرد أنك هناك، إنهم ينفجرون. ويمكن أن ترى أشياء رهيبة في الناس بينما في حالات أخرى تراهم أناساً كرماء مع ربطات عنق وحلي ذهبية. ما أن يظهر شخص ممن يجسّدون روح الله حتى ترى ما كنت لتراه عندما كان يسوع في الطرقات. الشياطين التي كانت تسكن البشر كانت تنادي “أنت، مَن أنت؟ أجئتَ لتعذبنا؟” البعض يُصدَمون به، آخرون كانوا يفكّرون في كيف يتخلّون عنه، وغيرهم كان يفكّر بأمور أخرى ضده. لم يتوجّه إلى ما كانوا يقولونه بل إلى ما كانوا يفتكرون. والروح القدس نفسه موجود في الآباء القديسين، ويمكن أن يخلق النوع نفسه من المواجهات. تقع المواجهة عندما يفهم الآخر أنه عاجز عن التلاعب مع هذا الرجل الذي يحمل روح الله. كونه يعجز عن التخفي أمامه.
في الكتابات المسيحية، غالباً ما يُشار إلى عدو الطريق الروحية بتعابير دراماتيكية كمثل إبليس، لوسيفر، الشيطان. هل الشيطان مجرّد صورة مجازية عن الأنا البشرية؟ أم هو شيء مستقلّ عنّا؟
الشيطان هو المعلّم. الأنا هو الوسيلة التي بها يحقق نظريته. العيش بحسب الأنا هو مثل إحراق البخور أمامه. عندما نشْتَمّه يأتي. إنّه عشيره، قريبه، لسانه، لهجته. إنه معجَب به، لهذا هو يأتي ويباشر رفقة مع أنانا، من ثمّ يبدأ بالتقرّب منا.
أتقول أن الشيطان موجود بهذا المعنى كقوة غير شخصية من الشر الذي يعمل في داخل كل منا كالأنا؟ أم الأكثر دقة هو القول بأن الأنا هو أصلاً هناك فينا والشيطان هو صوت التجربة التي يستمع إليها الأنا؟
الثانية. الشيطان ليس له سلطة للعمل من خلال الأنا. نحن أحرار في اتخاذ القرار دائماً.
هناك أشخاص كثيرون في الغرب يحاولون أن يأتوا بأفكار علم النفس الغربي لتطبيقها على الطريقة الروحية. بالواقع، يبدو وكأن صار تطوير أنا قوية وحسّاً قوياً بالذات أمراً متفقاً عليه للصمود في وجه صعوبات الطريق الروحية. تنتشر عبارة “عليك أن تصير أحداً ما قبل أن تصير لا أحد” حتى صارت عقيدة في الكثير من الدوائر الروحية. ما قولكم في هذه الفكرة؟
إنها كالقول: “عليّ أن أكون أولاً رأساً للمافيا حتى أصير رئيساً للبلاد”، أو “سوف أعمل أولاً مع الشيطان، وأكون رفيقه ليعطيني كل ما أريد، وكوني أكثر ذكاءً منه، فسوف أستعمل قواي للخير”. من النافع أن نرسل الأولاد ليدرسوا ويتعلّموا الغناء والرياضة ويصيروا مثقفين ويكتسبوا أساساً اقتصادياً ليباشروا حياتهم. ولكن ألسنا في كثير من الأوقات نرى أن أحلام الأغنياء وأولادهم تتحطّم؟ يقول الإنجيل “إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناءون”.
الأنا هي الإله المعاصر في القرنين العشرين والحادي والعشرين. والفكرة التي أشرت إليها في سؤالك هي الدين الحديث. لكن نعرف هذه التجربة. الأنا تعني “أنا لا أؤمن بوجود الروح القدس. إنه غير موجود”. لكن هذا كذب. الروح القدس يقود العالم ومباركون هم الذين يطلبونه، يرونه، يتنفسونه، يتحرّكون فيه، يلهمهم، يحبونه، ويتّحدون به.
هناك كثيرون ممن يصرّون على أن الأنا هي حقيقة متأصلة ولا يمكن إلغاؤها في البشرية، وكل محاولة للتخلي عنها أو لتخطي طبيعتنا الدنيا سعياً إلى الكمال، هي بحد ذاتها تعبير عن أهم hubris. عالم النفس اليونغي ماريون وودمن يذهب إلى حدّ القول بأن مفهوم الكمال بحد ذاته هو “اغتصاب للنفس”. كيف تجيب على الذين يؤكّدون أننا بالطبيعة متصدّعون وعاجزون عن بلوغ الكمال؟
قال المسيح “كونوا كاملين”، وعلّمنا أننا متى صرنا كاملين وعملنا كل شيء بشكل كامل فيما نحن نفكّر ونعتقد بأننا بائسون وخطأة وخاسرون وعبيد، عندها نجد التواضع والمجد. الكمال ممكن لأنه هو كامل، وهو قد اتّخذ طبيعتنا. لذا يمكننا أن نكون مثله ومعه. الكمال ممكن بسبب هذه الموهبة. وممكن ألا نكون كاملين لأننا أحرار في رفضها، أي في رفض المحبة. وعندما نرفضها، نصير بحاجة للاهوت وللفلسفة ولتأليف الكتب ووضع النظريات التي تقول باستحالة تخطي الأنا.
ممكن التحرر من الأنا وضروري، ولازم. فقط لأن الناس لا يعرفون أن هذا ممكن، فهم لا يريدون هذه الإمكانية، ولا يسمحون بوجودها، فيحتاجون لخلق هذه الأفكار. لكنهم لا يعرفون أنهم يكذبون، وهذا أكثر الأمور التي نسمعها جنوناً. ما الذي يقوله الطبيب للمريض “أنظر، المرض جزء من طبيعتنا. علينا أن نتعايش معه. فلا ينبغي أن نقلّم أظافرنا، إذ إننا سوف نموت غداً أو الذي بعده! أي تعليم هو هذا؟ نعم ممكن تحرير الأنا لكن هذا سر.
الممارسات النسكية في الأرثوذكسية تشدد كثيراً على الحاجة لقمع حوافزنا الغريزية. النزوات، كالشهوة الجنسية والجوع والعطش وحتى الرغبة بالنوم، غالباً ما تكون مكتومة في ممارسة نكران الذات. ما هو دور الممارسة النسكية في البلوغ إلى التحرر من الأنا؟
النسك هو وسيلة لبلوغ حيث نريد أن نصل. إنه سكة الحديد التي عليها يسير القطار. كثيرون يشعرون أن النسك يعني اتّباع مجموعة من القوانين، لكنه ليس ناموساً مفروضاً علينا. في كرة القدم مثلاً، قوانين اللعبة موجودة لا لجعل اللعبة صعبة، بل للإسهام في إخراج اللعبة بشكل كامل. كذلك الأمر بالنسبة للحياة الروحية. الفترات الخاصة وقوانين الصيام والسهرانيات والصلوات تساعد كطرق وأدوات سرية. نحن نتبع هذه الطرقات الأسرار، هذه الارتباطات المقدّسة وهذه الأوامر الإلهية. وخارج القوانين العامة، هناك القوانين الشخصية التي تُعطى في العلاقة بين الأب والابن الروحيين، كمهمة خاصة بكل شخص. نرى القديسين الذين قضوا وقتاً طويلاً في الكهوف أو الغابات أو الصحراء. هم لا يذهبون إلى هناك حاملين مشاريع للعودة. عندما يذهبون إلى هناك فإلى الأبد والرب يهديهم.
المسيح ذهب إلى الصحراء بعد معموديته ليواجه الشيطان. لم يكن في فكره “بعد أربعين يوماً سوف أعود”. فقط مضى إلى هناك. خرج من الأردن معتمداً من القديس يوحنا المعمدان ومضى إلى الصحراء. من وجهة نظر أولى، خسر الوقت في كونه وحيداً هناك. لم يمضِ إلى أهله ليعطيهم الطعام ويباركهم ويقودهم ويعطيهم الروح القدس. لا. لقد مضى إلى الصحرا وقال للشيطان “يا صديقي، انظْر، لقد كنتَ إلى الآن تتلاعب بالناس. بدأتَ بحواء في الفردوس، والآن أن تنتهي معي. أنا هنا لوحدي، منقطع عن الأكل، والبرد في عظامي في ليلاً في الصحراء أمر مريع. أنا أتألّم. لكني لا ألعب. أنا هنا وحيد وأنت تأتي إليّ وتقول بأن أحوّل الحجارة إلى خبز. أنت تقول لي بأن أنحني أمامك؟ أنت؟ ألأعطيك سلطة على شعبي؟ اذهبَ الآن. لقد رأينا بعضنا. أعرف مَن تكون وتعرف مَن أكون.” في تلك اللحظة تخلّى الشيطان عن كل شيء.
إذاً الحياة النسكية ضرورية. أن يكون الإنسان مستعداً في أي لحظة للموت أمام كل الناس، هذه هي الصحراء وهذه هي الحياة النسكية التي تجلب الروح القدس. وإذا ذهبنا إليها، الروح القدس يقودنا.