مدخل إلى الأخلاق الأرثوذكسية
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
من أرشيف مجلة النور
إن الأخلاق الأرثوذكسية لموضوع عظيم الأهمية، لأنها تربط العقيدة بحياة الإنسان، وتوضح طريقة حياة المسيحي الأرثوذكسي بواسطة الأخلاق المسيحية، إذن، يتّضح أنّ العقيدة ليست فلسفة مجردة، بل تعبير عن حياة الكنيسة.
كلمة “ethics” “أخلاق” مشتّقة من العالم اليوناني القديم. يستعملها أرسطو كثيراً، وكتابه “الأخلاق” معروف جداً. إن كلمة أخلاق باليونانية، مشتقة من كلمة “ethos” وتعني عادةً رئيسية أو عرفاً. وقد عنت هذه الكلمة في الإلياذة إقامة أو سكنى الناس والحيوانات. تنسب كلمة “ethos” بقوة إلى أرسطو الذي اعتقد بأن الأخلاق تقوم على العادة والممارسة.
للأخلاق التي تُظهر طريقة معينة لحياة الإنسان علاقة مباشرة بالعادة والممارسة. لذلك نستطيع القول أن الأخلاق هي الموضوع الذي يميّز حياة المسيحي الأرثوذكسي.
هناك تمييز واضح بين الأخلاق الفلسفية والأخلاق المسيحية والأخلاق الأرثوذكسية. تحليل الفرق يجعلنا نتحقق من قيمة الاخلاق الأرثوذكسية العظيمة وفرادتها. تقوم الأخلاق الفلسفية على الفلسفة، وهي تختلف عن الأخلاق الأرثوذكسية بمقدار اختلاف الفلسفة عن اللاهوت. لنحلل أكثر نقول: لقد طُوِّرُت الفلسفة في اليونان القديم بجهود الفلاسفة من أجل إعطاء تفسير حول الله والإنسان وخلق العالم. ولكونهم غير حاصلين على الكشف الإلهي (الوحي) استعملوا مخيّلتهم من أجل ذلك. لقد اعتقد أفلاطون أن العالم الذي حولنا مشابه لعالم آخر. دعاه عالم المُثُل. توجد في عالم المثل النماذج الأولى للأشياء المدرَكَة المحسوسة. هذه النماذج أبدية، غير قابلة للتغيير، وثابتة. بينما يحدث العكس مع الاشياء المحسوسة والممكن إدراكها.
وقد طوّر أفلاطون نظريته حول المُثُل. فالفضائل المختلفة كالعدالة والحب…الخ. هي مُثُل، مفاهيم مجردة، وقد أسس أفلاطون أخلاقه على هذه المُثُل. ويقول أن نفس الإنسان أبدية لأنها مماثلة لهذه المثل. فالنفس عنده، مسجونة في الجسد، والجسد هو سجن للنفس. لذلك فإن الصراع الأساسي للإنسان هو صراعه من أجل تحرير نفسه من جسده، وفي هذا الأمر يكمن خلاصه. ويمكننا أن نرى بوضوح أن الأخلاق عند أفلاطون مجردة، لأنها مرتبطة بمُثُل مجردة، ولأن الفضائل إجمالاً غير شخصية.
لقد علَّم أرسطو الشيء نفسه، فقال بأن المُثُل الأفلاطونية، والرموز الرياضية، والمخلوقات الميثولوجية،…الخ، توجد خارج الحواس. هي ثابتة وتتحرك بدون تغيير. أعتقد أن النجوم أيضاً كائنات ثابتة، لا تتحرك. وبالموازنة هناك كائن يمنح الحركة لكل الكون. هذا الكائن هو الله، وهو “غير المتحرك الأول الذي يسبب الحركة”. هذا هو إله الميتافيزيقيا والأنطولوجيا.
لقد قدم الفلاسفة مجهوداً عظيماً في زمنهم. ولا يمكن أن يتوقّع الإنسان تفسيرات أفضل. لكن علينا أن نلاحظ أن الفلاسفة قد سلكوا نهجاً خاطئاً. فإنهم استعملوا المخيلة والتفكير البشري كثيراً في تطوير نظرياتهم. وهذا خطأ أساسي. كثير من اللاهوتيين في الغرب- متأثرين بهؤلاء الفلاسفة- اعتقدوا بوجود “النماذج الأولى” و “المُثُل” الأفلاطونية وكذلك “الأعراض” و”الجوهر” الأرسطوية. وهكذا، أسسوا اللاهوت على هذه الفلسفات، وأوجدوا أخلاقهم عليها.
تختلف الأخلاق الأرثوذكسية كثيراً عن الأخلاق الفلسفية. لأنها تنبع من اللاهوت الأرثوذكسي الذي هو ليس ثمرة ذكاء الإنسان وتفكيره، بل كشف الله نفسه للإنسان. لذلك فإن الله غير مجرد وكذلك هي وصاياه غير مجردة ولا تنبثق من خيال أو إستنتاج.
لنرَ بتركيز أكثر الفرق بين الأخلاق الفلسفية والأخلاق الأرثوذكسية. من الضروري أن نتفحص مفهوم “الخير”. تشغل الأخلاق الفلسفية نفسها كثيراً بالتساؤل حول “الخير”.
ما هو الخير بالنسبة للأخلاق الفلسفية؟ أُعطيت تعريفات مختلفة باختلاف المدارس الفلسفية. فقال البعض أن الخير هو كل ما هو حاجة. وقال آخرون كل ما هو حق. ويرد البعض بانه كل ما هو مفيد، كل ما هو مُسِرّ، وكل ما له قيمة…الخ. يظهر اختلاف التعاريف إكتفاء كل مدرسة فلسفية بتوافق الأخلاق مع تيارها. وبناء على ذلك يقسم علماء الأخلاق إلى فئات مختلفة. ويبقى الله نفسه هو الخير بحسب الأخلاق الأرثوذكسية. وهذا أمر غير مجرد. والسيد المسيح قال: “لا أحد صالح سوى الله وحده” (مر118).
يؤكد الآباء القديسون أيضاً بأنّ الله وحده هو الخير. فالقديس مكسيموس المعترف يعلّم بأنّ “الله وحده هو الخير بحسب الطبيعة، والخير بحسب المشيئة هو فقط الذي يتمثّل بالله”. هذا يعني أنّ الإنسان يصبح خيّراً (صالحاً) عندما يتّحد بالله الذي هو الخير بالطبيعة. تحوّل الإنسان هذا من الشر إلى الخير –باتحاده وشركته فعلياً مع الله- يتمّ بقوّة الروح القدس وبحياة النسك في الوقت ذاته. يقول القديس مرقس الناسك في كتاباته بأنّه من المستحيل بالنسبة لنا أن نحصل على تأثّر بالصلاح ما لم نتلقَّ نعمة الروح القدس حقيقةً في داخلنا. والقديس مرقس نفسه يقول، مشيراً إلى الصلاح: أن الله بداية ووسط ونهاية كل خير.
تختلف الأخلاق الأرثوذكسية أيضاً عمّا يسمّى بالأخلاق المسيحية. إننا نفرّق بين التعريفين لأننا نعرف بأنه كما أنّ الأرثوذكسية تختلف عن الفئات المسيحية الأخرى، كذلك الأخلاق الأرثوذكسية تختلف عن الأخلاق المسيحية. لأن الأخلاق مرتبطة بقوة السلوك “ethos”، والعقيدة مرتبطة جداً بالسلوك “ethos”. فبالتالي، أيّ تبديل عقيدي يؤثّر مباشرة على سلوك الإنسان. وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الأخلاق المسيحية، في الغرب، المؤسَّسَة على الفلسفة قد تطوّرت كثيراً. هكذا يمكن الكلام، في الأخلاق المسيحية، عن فضائل: الحب – العدالة – سلوك الإنسان في العائلة والمجتمع… ونشدّد على السلوك الخارجي، منتجين أخلاقاً خارجية، يمكن تسميتها أخلاقاً فريسية. في الأرثوذكسية الأمور مختلفة كلياً.
عندما نتكلّم أرثوذكسياً عن الأخلاق لا نعني شكليّة خارجية بل تجديد الإنسان. ولأن هذا التجديد هو ثمرة السيرة بحسب المسيح فإن الأخلاق الأرثوذكسية مرتبطة ومتماهية بهذه السيرة. مصطلح “أخلاق” في العهد الجديد، يرد بتعابير أخرى مثل “سيروا في النور”، “سيروا بحسب الروح”، “عيشوا في الله”، “عيشوا في المسيح”، “عيشوا بحسب الروح”. وهذا يرينا تمايزها الكبير عن الأخلاق المسيحية التي تطفو على السطح.
أبعد من ذلك، أن الأخلاق الأرثوذكسية تتماهى مع النسك. إن الأخلاق والنسك كلمتين تعنيان الشيء نفسه في سياق التقليد الآبائي. حتى أننا نستطيع القول، أن الأخلاق هي عيش ثمار حياة النسك التي هي الحياة بحسب المسيح.
حينما يسمع العديد من الناس كلمة (النسك) يظنون أنها مصطلح يختص بالرهبان الذين ينعزلون في الأديرة، ويعيشون حياة خاصة، ومختلفة جداً عن حياة الناس في العالم. هذا خطأ، فالنسك، في التقليد الأرثوذكسي، ليس أكثر من حفظ وصايا السيد المسيح. والرهبان هم، بحسب أفاغريوس، أولئك الذين يعيشون بحسب الإنجيل. إذن الحياة النسكية هي حياة بحسب الإنجيل. بالموازاة يمكننا القول أنّ النسك هو حفظ ناموس الله، وتحقيق وصاياه، والجهاد من أجل إخضاع مشيئتنا لمشيئة الله. كما أننا نعلم جيداً من تعليم آبائنا القديسين أنّ الإنجيل كلّه ليس أكثر من “وصايا الخلاص”. ما يحويه الكتاب المقدس إنما هو وصايا الله التي يجب أن يحفظها البشر الذين يطلبون خلاصهم. هذا واضح في التطويبات.
“طوبى للفقراء بالروح” هي وصية الرب لنعيش فقرنا الروحي، أي لنختبر بؤسنا. “طوبى للحزانى” وصية الرب لنبكي على الأهواء التي فينا، للبكاء على أسانا. “طوبى للجياع والعطاش إلى البر” هي وصية الرب كي نجوع ونعطش إلى الشركة معه. “طوبى لأنقياء القلوب” هي وصية الرب لننقي قلبنا. بقوله “طوبى”، يقول الرب: كن فقيراً، حزيناً، جائعاً إلى البر…
وهكذا، الصلاة المستمرة، مداومة القداس الإلهي، السهر الذي يحفظ الذهن يقظاً، نقاء القلب… هذه كلها وصايا المسيح. “الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة” (رو712). القديس يوحنا الإنجيلي تلميذ المحبة يقول للمسيحيين “بهذا نعرف أننا عرفناه إن حفظنا وصاياه، من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه، وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكمّلت محبة الله. بهذا نعرف بأننا فيه” (1يو23-5). وهو نفسه يقول بحق “فإن هذه هي محبة الله أن نحفظ وصاياه”.
“هدفنا” بحسب ديونيسيوس الأريوباغي “أن نتمثّل بالله، وأن نشترك معه، بقدر ما هو ممكن. وأننا نبلغ هذا، كما تعلّم الكلمات المقدسة، بواسطة حبّ الوصايا الفائقة الإكرام”.
ويعلم القديس غريغوريوس بالاماس أنّ ممارسة الفضائل تجلب معرفة الموجودات. ويجيب عن سؤال عن غاية ممارسة الفضائل قائلاً أنّ هذه الغاية هي: الاشتراك مع الله والتمثّل به. ممارسة الفضائل متعلّقة بممارسة الوصايا. قديس الهدوئية يشير أيضاً إلى أن حبّ الله “ينمو بعمل الوصايا فقط”.
أود فيما يلي، عرض عدة أقوال آبائية تكشف قيمة وصايا الله: “إنّ غاية وصايا المخلص هي تجريد النوس (الذهن) من الكراهية وعدم العنف” (القديس مكسيموس المعترف).
“وصايا الله أثمن من كل كنوز العالم. والذي يحوزها يجد الله في داخل نفسه” (القديس إسحق السرياني).
“حفظ وصايا الله يولّد عدم الهوى، وعدم هوى النفس يصون المعرفة. طاعة وصايا الله هي القيامة من الاموات”.
يعتبر القديس غريغوريوس السينائي أنّ عمل الوصايا هو أحد الطريقين الذين بهما توجد قوة الروح المعطاة سرياً بالمعمودية المقدسة. كلّ هذا يُظهر ضرورة النسك من أجل الشفاء وقيامة النفس. وكما ذكرنا سابقاً، النسك أساساً هو حفظ وصايا المسيح المخلص.
إنّ حقيقة ارتباط وتماهي الأخلاق بالنسك تظهر بالأمثلة الثلاثة التالية:
الأول، مأخوذ من تعليم القديس أنطونيوس. بدراسة نصوصه المائة والسبعين المعنونة بـ “حثّ حول أخلاق الناس والحياة الفاضلة”، يتأكّد المرء أنّ القديس يتكلّم عن تطبيق وصايا المسيح، عن صراع الإنسان من أجل تحويل أهوائه، عن توجيه قواه بإتجاه الله، عن عيش حياة فاضلة شبيهة بالله، عن تنقية قلبه لكي يحرز معرفة الله. هذه توضح أنّ أخلاق الإنسان ليست أكثر من تحويله وتجديده في نطاق النسك الذي في المسيح.
الثاني، مأخوذ من القديس سمعان اللاهوتي الحديث. يوجد بين كتاباته ما يُدعى “الكتاب المقدس والأخلاق” ويتكلّم فيه عن معصية آدم، عن تجسّد المسيح، عن تجديد الإنسان، عن الأهواء واكتساب النضج الروحي في المسيح، عن مجيء الروح القدس إلى قلب الإنسان وكيف نتعرف إلى حضوره، عن اتّحاد النفس والجسد في الله، عمّن هو التائب والممارس لحياة النسك، عن الاستنارة ومعاينة النور غير المخلوق، عن الحديث السري مع الروح القدس، عن معرفة الله التي تُقْتَنى لا بالتعليم بل بنعمة الله النعطاة للمتنقّي، عن مجيء المسيح الثاني الذي يتم بداخلنا قبل الموت، وكيفية التحقق من أن المسيح في قلوبنا، عن موت الإنسان العتيق بواسطة قوة ونعمة المسيح، عن كيفية شراء ذمتنا… إلخ. هذا التعداد الكثير يظهر أنّ القديس سمعان يربط الأخلاق بالولادة الثانية في المسيح، والتي تمرّ في النسك.
الثالث، مأخوذ من القديس غريغوريوس بالاماس. لقد كتب 150 مقالاً مقسّمة إلى فصول: طبيعية، لاهوتية، أخلاقية، وعملية. وترى أن المصطلحَين: أخلاقي وعملي يشيران إلى استنارة النوس. أما المصطلح اللاهوتي فيشير إلى معاينة الله. لأن المعاينة مرتبطة جداً باللاهوت في تعليم القديس غريغوريوس بالاماس. نتأكّد من أنّ القديس، بعد تحليل هذه الأمور، تابع ليتكلم عن: خلق العالم، مجيء المسيح، سقوط الإنسان وإعادة ولادته التي تتمّ عندما يحيا في الكنيسة ويمارس الحياة الأسرارية والنسكية.
الأخلاق الأرثوذكسية هي إذن متماهية مع الحياة النسكية وبالتالي مع ثمارها.
على كلٍ وكما ذكرنا سابقاً، أنّ حياة النسك هي عبور الإنسان في مراحل الحياة الروحية الثلاث: تنقية القلب، استنارة الذهن، تألّه الإنسان. إذا درسنا أعمال الآباء سوف نجد هذه المراحل الثلاث في كلّ مكان. يعرّف أفاغريوس البنطي المسيحية بأنّها “عقيدة يسوع المسيح المخلّص المؤلّفة من العملي والتطبيقي واللاهوتي”.
القديس ديونيسيوس الأريوباغي يتحدّث عن المراحل الثلاث مسمياً إياها: التنقية والإستنارة والكمال. القديس مكسيموس المعترف، يتكلّم أيضاً عن الفلسفة العملية (التنقية) والمعاينة الطبيعية (الاستنارة) واللاهوت السرّي (التألّه). القديس سمعان اللاهوتي الحديث يقسّم عدداً من فصوله إلى: عملية ومعرفية ولاهوتية. يميّز القديس غريغوريوس بالاماس أيضاً في نصوصه بين الأخلاقي والطبيعي واللاهوتي. التقليد الأرثوذكسي بكامله يتكلّم عن مراحل الكمال الثلاث هذه، لأن مراحل الكمال الروحي، المتعلّقة بالحياة النسكية تشفي الإنسان. فإن النسك بالتالي متعلّق بالشفاء. هكذا أيضاً تهدف الأخلاق إلى شفاء النفس. لذلك فإنّ تطبيق الأخلاق المسيحية هو تحقيق الشفاء باتّباع النهج الأرثوذكسي. تبعاً لذلك نقول أنّ الأخلاق في التقليد الأرثوذكسي غير منفصلة عن النسك. والنسك مرتبط ومتعلّق بمعالجة الكنيسة الشفائية. لهذا فإننا لا نفهم الأخلاق منفصلة عن الشفاء، ولا الشفاء منفصلاً عن الأخلاق. إذن، باستعمال مصطلح الأخلاق لا نعني أشياء خارجية وأفكار مجرّدة خارجية ومبادئ ولا حتّى فضائل.