ملاحظات حول الصوم
الأب أنطوان ملكي
كثيرون يفصّلون صيامهم على ما يريحهم. فهذا يصوم عن الحلوى فقط وآخر عن التدخين وثالث عن هذا العمل أو ذاك. فالفكرة السائدة هي أنّ الصوم مرتبط بالتخلّي عن شيء ما من أجل الله. لكن المعنى الحقيقي للصوم أكثر غنى من ذلك، فالصوم ليس فقط في التخلّي بل في الكَسب، في الوصول إلى أمور لا يُمكن تحقيقها إلاّ من خلال هذا النشاط الروحي. في المعنى القانوني للخلاص، يعتقد البعض بأنّ المسيح أتى إلى العالم ليتمم مهمة ما، ويصلح إساءة الإنسان لله، وأن تضحيته على الصليب تسدّ هذه الحاجة وتُدخِل الجنس البشري مجدداً في حظوة الله. من هذا المنظار يكون الصوم رمزاً: تضحية شخصية يقدمها الإنسان ليعود إلى نعمة الله. وهذا قد يكون التخلي عن أي شيء، بدءً من قطعة حلوى مروراً بالامتناع عن استعمال الفايسبوك خلال فترة الصوم وصولاً إلى التخلّي عن أكثر من ذلك… لكن هذه التخليّات التافهة لا علاقة فعلية لها بالمعنى الحقيقي للصوم. فالله ليس بحاجة لكل هذه التضحيات كما لم يكن بحاجة لكلّ محرَقات العهد القديم. نحن مَن يحتاج قانون الصوم وليس الله.
إن تحويل الصوم إلى رمز أو إلى مجرد فكرة يفسِد كلّ جهاد الصوم الكبير. في هذا العالم المكوَّن من أفكارنا المشبَعة بالقيَم الدهرية، تُنسى أهمية انخراط الجسد بالصوم، لأنّ الفكر يكتفي بالرموز. لكن الإنسان ليس موجوداً في خيال فكري بل هو حيّ في عالم حقيقي، كشخص فعليّ مكوّن من جسد ونفس، مادي وروحي. لا يخلّص المسيحُ العالمَ بنشره فكرة الخلاص، بل بالنزول بنفسه إلى الأرض واتّخاذه جسداً من مريم العذراء وصيرورته مادياً واحداً منا، لا طيفاً ولا روحاً بل لحماً ودماً. موته على الصليب ليس رمزاً بل حقيقة مؤلِمة. لم تكن قيامته مجرّد قصة مفعمة بالأخلاقيات، بل اللحظة التي قرّرت مرحلة جديدة في الوجود البشري. بتحويل كل الأشياء إلى رموز ننتهي إلى العيش في أفكارنا مفتقدين الوجود الحقيقي.
في فهمنا الأرثوذكسي نعي أن الإنسان، لكونه يعيش في عالم مادي بطبيعة ساقطة مشوّهة، فجسده يخضع للأهواء التي تؤثّر على كامل كيانه. ضبط الجسد عن طريق الصوم يوجّه كامل الكائن البشري نحو الله، لأنّ “جسداً مكبوحاً بالصوم يجلب للنفس البشرية الحريّة والقوة والاعتدال والطهارة والتمييز” (القديس إغناطيوس بريانشانينوف). بتجويع الجسد يتغذّى كل الكائن ويصير قادراً على “الارتفاع ليتأمّل الأمور النبيلة وليضع الأمور السماوية فوق أمور الحياة السارّة والممتعة” (القديس يوحنا الذهبي الفم).
هذا ولا يليق أبداً تحويل الخبرة الصيامية غلى مجرّد نظام نباتي. الصوم الكبير هو فترة تحوّل، كما يسميها الآباء تغييراً للفكر (metanoia). يجاهد الصائم لتحويل طريقة حياته بالكامل، معيداً توجيه أولوياته، ساعياً نحو إيجاد سبل جديدة إلى الله، مستبسلاً للكمال في المسيح. كما ينصح القديس باسيليوس الكبير: “يكمن الصوم الصحيح في رفض الشرّ، ضبط اللسان، قمع الحقد، طرد الشهوة والكلمات البذيئة والكذب والحنث بالوعود”.
من هذا المنظار يمكننا أنّ نقول أن صوم الجسد هو صوم للنفس. النفس المتحررة من ثقل الجسد المتخم والمتغذيّة بمَنّ الفضائل يمكنها أن تصل إلى العلو الروحي، حرّة من الأهواء التي تشدّها إلى الأرض. إن نفساً كهذه تصلّي أكثر وتسامح أكثر وتحبّ أكثر. ليس الصوم مجرّد تخلٍ بل هو تدريب على المحبة، لأن الخلاص ليس إكراماً يُمنَح بديلاً للتضحية بل هو أعظم ما عرف البشر من أعمال المحبة.