الكنيسة والدهرية
الأب أنطوان ملكي
الكنيسة هي جسد المسيح وعروسه. هذا إيماننا نمارسه فنسعى إلى الكنيسة لنتقدّس فيها إذ خارجها ليس من تقديس. وفي ممارستنا اليومية نستعمل كلمة “الكنيسة” بعدة معانٍ. فهي تارة جماعة المؤمنين أي شعب الله. وهذا استعمال سبقنا إليه آباؤنا القديسون استناداً إلى الكتاب المقدّس وتحديداً رسائل الرسول بولس الذي يسمّي جماعة المؤمنين الملتئمة كنيسة. أما الاستعمال الثاني لكلمة “كنيسة” فهو البناء الذي تمارس فيه جماعة المؤمنين عبادتها، والعبادة هي فعل احتكاك الجماعة بالله من خلال الصلاة. لم ينتشر في تقليدنا استعمال كلمة “معبد” لأنّ البعد البشري للكنيسة كان دائماً حاضراً فغلبت كلمة “الكنيسة” لأنها، بالتحديد كما ذكرنا، جماعة البشر المجتمعين في هذا المكان المحدّد للصلاة. ولهذا السبب نشأت في تقليدنا خدمة تكريس الكنائس وهي على شكل تكريس الناس في المعمودية. فصار هذا البناء يُمسَح بالميرون كما يُمسَح المتقدّم إلى الاستنارة في المعمودية. إذاً، هذا البناء لم يعد كغيره من الأبنية بل صار مكاناً لسكنى النعمة، أي صار كنيسة. ولأن هذا المكان صار كنيسة بمسحهبالميرون وتكريسه، فهو المكان الذي تقيم فيه الكنيسة شعائرها وعبادتها، فنشأت الليتورجيا وتنظّمت الخِدَم الأخرى على أساس تنظيم هذا المكان. فهذه الصلاة تُتلى في صحن الكنيسة وتلك من الهيكل والأخرى على الباب وغيرها. لكل جزء من أجزاء هذا المكان معانٍ روحية تهدف إلى تقديس الكنيسة كجماعة، ومَن يرَ في الكنيسة بعدها الروحي التقديسي لا يسعه إلاّ أن يحترم هذه الترتيبات التي عاشتها الكنيسة لأجيال وتقدّست بها أجيال. ولمّا كانت مهمة الكنيسة العمليّة هي تقديس الكون مكاناً وزماناً، صار لكل خدمة زمانها وللكنيسة أعيادها في أوقات محددة وأصوامها وما يرتبط بهذا التنظيم الزمني من شؤون تقدّس المؤمنين والكون من حولهم. وعلى أساس ما أوحى به الروح القدس وما اختبرته الكنيسة خلال قرون، ارتبطت الأصوام لا بالامتناع فقط عن الطعام بل وأيضاً عن الأعراس. ولكي لا يُفَسَّر هذا الامتناع على أنه مرتبط بالحزن، فكنيستنا كنيسة قيامية دائمة الفرح، كان هناك امتناع عن الأعراس في فترات الأعياد الكبرى كي يتفرّغ المؤمنون لهذه الأعياد فتكون أعياداً بمعنى الكلمة.
ماذا عن ممارساتنا اليوم؟ هل نحن نساهم في عمل الكنيسة التقديسي للكون إنساناً ومكاناً وزماناً؟ أوّل ما ينبغي بنا عمله كي نكون مساهمين هو احترام الإنسان والمكان والزمان، ليس على طريقة ما يحاول فرضه علينا الإعلام ومجتمع الاستهلاك اليوم، بل على طريقة آبائنا وتقليدنا. من هنا أنّنا نلحظ اليوم ممارسات نقوم بها، أحياناً عن جهل وأحياناً عن نسيان وأحياناً عن غير ذلك، أقول أنّ هذه الممارسات تزرع الشك في مدى التزامنا بعمل الكنيسة التقديسي. فما نراه من قلة الالتزام بالحشمة في الملبس والتصرف بين شبابنا، في الكنائس وخارجها، هو إشارة إلى أنّنا، كجماعةٍ، مقصّرون بإنجاز مهمة تقديس الناس. فقلة الحشمة لم تعد حكراً على الأعراس بل صارت ممارسة يومية. إلى هذا، فحفلات العشاء التي تُقام في السبوت، حتى ولو كانت لجمع المال للكنيسة، هي دليل على أنّ حسّنا لتقديس الزمان صار ضعيفاً فصرنا نتخلّى عن الدقّة ونحتكم إلى التدبير فنرى أنّ بناء القاعات أو غيرها من المشاريع أولى من توجيه الناس نحو الاستعداد للقدّاس بسهرة سلامية صلاتية. والأمر نفسه ينطبق على الأعراس التي لم يعد للكنيسة رأي في تحديد مواعيدها فاستبيحت السبوت والأصوام والأعياد. أمّا مكان إقامة الأعراس، وقد بدأ البعض يطالب بألاّ يكون الكنيسة، إذ صارت الساحات أو القاعات أو ضفاف برك السباحة أفضل منها، فلا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن هذا دليل على ضعف تحسّسنا لتقديس المكان وقداسته.
شبابنا الذين يدرسون تعاليم كنيستهم هم في حيرة اليوم، وبعضهم في سخط، لأنّ ما يقرؤون مختلف عمّا ينظرون. فهنا مناولة مشتركة، وهناك عرّاب غير أرثوذكسي، وهنا جنازة لغير أرثوذكسي سبق تجنيزه في كنيسته وهناك عرس على “بيسين” في منتجع. الدهرية “طاحشة” على كنيستنا ومسؤولية إيقافها عن طريق وضع الأمور في نصابها بلياقة وترتيب هي على الجميع. صحيح أن أبواب الجحيم لن تقوى على كنيسة المسيح، لكن هذا لا يعفينا نحن من حِفظ أبوابها. إنّ كنيسة دهرية لا تنفع أحداً لأنّها لا تحمل الخلاص لأحد. لذا فلتكن آذاننا للسمع فنسمع. آمين.