العبادة في زمن دهري
المتقدّم في الكهنة ألكسندر شميمن
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
يظهر أن ربط تعبيري “العبادة” و”الزمن الدهري” يفترض أننا نفهم التعبيرين بشكل واضح، وأننا نعرف الحقائق التي يدلاّن عليها، وأننا بهذا نعمل على أراضٍ صلبة ومُستَكشَفة بشكل كامل. لكن هل هذا هو الحال؟ في الدرجة الأولى، أبدأ بحثي بهذا السؤال لأنني مقتنع بأن بالرغم من الانهماك العمومي بالدلالات، هناك قَدْر كبير من التشوش حول المعنى الدقيق للتعابير المُستَعمَلة في هذه المناقشة.
فالإجماع حول معاني عبارتي “العبادة” و”الدهرية” مفقود بين المسيحيين بشكل عام وحتّى بين الأروذكسيين أنفسهم. كما أن الإطار المرجعي المقبول بشكل عام غائب. والأمر نفسه ينطبق على العلاقة المتبادَلة بين العبادة والدهرية. لهذا فإن ورقتي هي محاولة لتوضيح المسألة أكثر مما هي لحلّها، وذلك في إطار نظرة أرثوذكسية متماسكة قدر الإمكان. برأيي، عندما يناقش الأرثوذكسيون مسائل نابعة من “أوضاع” حاليّة، فهم ببساطة يقبلون هذه المسائل في صيغها الغربية. فلا يبدو أنهم يدركون أن التقليد الأرثوذكسي يقدّم، قبل كل شيء، إمكانيةَ، وبالتالي ضرورةَ، إعادة صياغة هذه المسائل أو وضعها في إطارٍ يشكّل غيابُه أو تشوهُه جذرَ الكثير من “مآزق” المعاصَرَة في الفكر الديني الغربي. وكما أرى الأمر، فالحاجة لهذه المهمة ملحّة خاصةً، وقبل كلّ شيء، في مجال المسائل المتعلّقة بالدهرية وتحديداً ما يسمّى الزمن الدهري.
في السنوات الأخيرة، حُلِّلت الدهرية ووُصِفَت وحُدِّدَت بطرق متنوعة كثيرة، لكن على حد علمي أيّ من هذه التوصيفات لم يشدد على النقطة التي أعتبرها أساسية والتي تكشف بالواقع أكثر من أي شيء آخر طبيعة الدهرية الحقيقية، وبالتالي يمكن أن تعطي مناقشتنا وجهتها الصحيحة. الدهرية، أؤكّد، هي قبل كل شيء رفض للعبادة. أشدد: ليست رفضاً لوجود الله، ولا لبعض أشكال التسامي وبالتالي بعض أشكال الدين. إذا كانت الدهرية، بعبارات لاهوتية، هرطقة فهي بالدرجة الأولى هرطقة حول الإنسان. إنها رفض الإنسان ككائن متعبّد (homo adorans): الكائن الذي تشكّل العبادة لديه عملاً يثبّت بشريته وينجزها. إنها الرفض الحاسم وجودياً ومعرفياً للكلمة التي كانت “دائماً وفي كل مكان وللجميع” الظهورَ الحقيقي لعلاقة الإنسان بالله وبالعالم وبنفسه: “حق وواجب أن نسبحك وباركك ونسجد لك ونشكرك ونعبدك في كل مكان من أماكن سيادتك…”
بالتأكيد ينبغي شرح هذا التحديد للدهرية. من البديهي أنه ليس مقبولاً من الذين يختزلون المسيحية، عن وعي أو من دون وعي، إلى فئات إمّا فكرية (إيمان مستقبلي) أو اجتماعية (خدمة المسيحيين للعالم)، ، وعددهم اليومَ ليس قليلاً. فهم يفتكرون أنه من الممكن إيجاد تناغماً بين الزمن الدهري من جهة والعبادة من جهة أخرى، يتخطّى بعمقه مجرّد التكيّف. فإذا كان مناصرو ما هو بشكل أساسي قبول مسيحي للدهرية على حق، بالطبع تتحوّل مسألتنا إلى مجرّد إيجاد أو اختراع عبادة أكثر إرضاءً أو أكثر ملاءمة للنظرة الدهرية لإنسان هذا العصر. وبالواقع، هذا هو الاتجاه الذي يتّخذه أغلبية المصلحين الليتورجيين. ما يصبون إليه هو عبادة ذات أشكال ومحتوى تعكس حاجات الإنسان الدهري وطموحاته، أو حتى حاجات الدهرية وطموحاتها. ومرة أخرى، الدهرية ليست بأي شكل من الأشكال مماثلة للإلحاد. المفارقة الكبرى هي أن في الدهرية يظهر توق مميز إلى التعبير “الليتورجي”. إذا كان تحديدي صحيحاً يصبح كل هذا البحث في طريق مسدود بلا أمل، إذا لم يكن برمته هباءً. وأول ما يظهر من صياغتنا لموضوعنا “العبادة في زمن دهري” هو وجود تناقض داخلي في العبارات يتطلّب إعادة تقييم جذرية لكامل المسألة وإعادة صياغتها القاسية.
لكي أبرهن أن تحديدي للدهرية (رفض للعبادة) صحيح، عليّ أن أثبت نقطتين. الأولى تتعلق بالعبادة: يجب برهان أن مفهوم العبادة بذاته تتضمّن فكرة ما عن علاقة الإنسان ليس فقط بالله بل أيضاً بالعالم. والأخرى تتعلّق بالدهرية: يجب أن نبرهن أن فكرة العبادة هذه هي ما ترفضه الدهرية علناً أو ضمنياً.
أولاً لندرس مسألة العبادة. يبدو لي من حالتنا اللاهوتية الحاضرة، ما يثير السخرية ولكن إيحائي إلى حد ما، أن الإثبات الأساسي هنا سوف يأتي ليس من اللاهوتيين بل من علم الأديان (“Religionswissenschaft”)، أي أن اللاهوتيين بالواقع يتجاهلون تاريخ الأديان ودراسة ظواهرها. ومع هذا فحتى في حالة تكونه، عندما كان منحازاً بقوة ضد المسيحية، ظهر أن هذا العلم يعرف الكثير عن طبيعة العبادة ومعناها ممّا يعرفه اللاهوتيون الذين راحوا يختزلون الأسرار إلى مقولات من “الشكل” و”المحتوى”، “السببية” و”الشرعية”، مقصين بالحقيقة التقليد الليتورجي من تأملاتهم اللاهوتية.
في أي حال، ليس من شك، بأن إذا درسنا العبادة عامة والليتورجيا المسيحية بالتحديد، على ضوء علم ظواهر الأديان الذي أصبح ناضجاً من الناحية المنهجية الآن، نحن ملزَمون بالاعتراف بأن المبدأ الفعلي الذي تقوم عليه والذي قرّر وحدّد تطورها هو الميزة الأسرارية للعالم وموقع الإنسان فيه.
كلمة “اسراري” تعني هنا البديهية الجوهرية والأساسية التي لا تعبّر عن نفسها وحسب في العبادة بل التي بالواقع تشكّل العبادة بكاملها ظاهرة هذه البديهية وتأثيرها وخبرتها. وهي أن العالم بمجمله ككون، أو في حياته وتكوّنه زمناً وتاريخاً، هو ظهور لله وأداة لإعلانه وحضوره وقوته. بكلمات أخرى، إن العالم لا يموضع فكرة الله كمبدأ مقبول عقلياً لوجوده، بل يتكلّم عنه بإخلاص، وهو بحد ذاته وسيلة لمعرفة الله والشركة معه، وبكونه على هذا الشكل هو طبيعته الحقيقية وقدره النهائي. لكن فوق ذلك، العبادة هي عمل جوهري بالحقيقة، والإنسان هو جوهرياً كائن متعبّد، إذ فقط في العبادة يصل الإنسان إلى مصدر تلك المعرفة وإمكانيتها، أي تلك الشركة التي تكمّل نفسها كمعرفة حقيقية، معرفة الله وبالتالي معرفة العالم، أي الشركة مع كل ما هو موجود. هكذا، تقوم فكرة العبادة بحد ذاتها على بديهية أن العالم هو ظهور لله واختبار لهذه البديهية. وهكذا يُكشَف العالم، في العبادة، كسرٍ بطبيعته ورسالته الحقيقيتين.
بالواقع، إن هذه الحقائق البسيطة مسلَّمٌ بها إلى درجة عدم الإشارة إليها في ما عندنا من نظريات معقدة للمعرفة فيما يتمّ تجاهلها كلياً في مناقشاتنا التفسيرية، مع أن عليها يتوقّف ببساطة وجودنا الفعلي ككنيسةٍ وخليقةٍ جديدة وشعبٍ لله وهيكلٍ للروح القدس. وبالواقع أتساءل إذا ما كان عليّ أن أذكركم بها؟ نحن بحاجة للماء والزيت، والخبز والخمر لكي نكون في شركة مع الله ولكي نعرفه. هذا هو تعليم الذي تحمله الليتورجيا كما هو أيضاً تعليم كتيباتنا الليتورجية الحديثة. إن هذه الشركة مع الله من خلال المادة هي ما يكشف المعنى الحقيقي للمادة، أي للعالم نفسه. نحن نستطيع أن نتعبّد في الزمن فقط. مع هذا، فإن العبادة لا تكشف فقط معنى الزمن بل بالمطلق تجدد الزمن نفسه بشكل حقيقي. لا يوجد عبادة بدون مشاركة الجسد، بدون الكلمات والصمت، النور والعتمة، الحركة والسكون، ومع هذا فإن في العبادة ومن خلالها كل هذه التعابير الأساسية عن الإنسان في علاقته مع العالم تُعطى صلاحيتها المطلقة معلَنَةً في معناها الأسمى والأعمق.
إذاً عبارة “أسراري” تعني أن كون العالم أداة للعبادة ووسيلة للنعمة ليس أمراً عَرَضياً، بل هو إعلان جوهره ومعناه وتجديده وإنجاز قصده. إن أسرارية العالم الطبيعية تجد تعبيرها في العبادة وتجعل الأخيرة العمل الجوهري للإنسان وأساسَ ونبعَ حياته ونشاطاته كإنسان. فالعبادة في كونها ظهور الله تكون بهذا ظهور العالم، وبكونها شركة مع الله تكون الشركة الوحيدة الحقيقية مع العالم، وبكونها معرفة الله، تكون الإنجاز المطلَق لكل معرفة بشرية.
الملاحظة التالية ضرورية عند هذه النقطة وقبل أن آتي إلى نقطتي الثانية، أي الدهرية كرفض للعبادة. إذا كنتُ قد أشرت سابقاً إلى علم الأديان، فلأن هذا النظام أسّس على مستواه الذاتي وبحسب منهجيته الخاصة أن هذه هي بالواقع طبيعة ومعنى العبادة بشكل عام كظاهرة عالمية وبدائية وليس العبادة المسيحية وحسب. من ناحية ثانية، يبدو لي أنه ينبغي باللاهوتي المسيحي أن يسلّم بأن هذا يصحّ بشكل خاص في الليتورجيا المسيحية التي تكمن فرادتها في أنها تنبع من الإيمان بالتجسد، أي من السر العظيم الشامل: “الكلمة صار جسداً”. بالواقع، يهمنا كثيراً أن نتذكر أن فرادة العبادة المسيحية وحداثتها ليست في أنها ليست استمراراً للعبادة بشكل عام، كما يحاول بعض المدافعين المفرطين بالحماس أن يثبتوا فيما يختزل علم الأديان المسيحية وعبادتها إلى جماعة-سر وثنية. فالفرادة والحداثة هي في أن استمرارية العبادة هذه تُنجَز في المسيح وتتلقّى معناها المطلق والجديد فعلاً بما يحمل النهاية الفعلية لكل العبادة الطبيعية. المسيح هو تمام العبادة كتوقير وصلاة وشكر وتضحية وشركة ومعرفة لأنه هو ذروة ظهور الإنسان ككائن متعبّد وملء إعلان الله وحضوره من خلال العالم. إنه الإنجاز والسر الحقيقيان لأنه كمال أسرارية العالم الجوهرية.
إذا كانت استمرارية عبادة الإنسان في الليتورجيا المسيحية تتضمّن في ذاتها قاعدة انقطاع أساسي عن ما سبق، وإذا كانت العبادة المسيحية، التي هي كمال كل عبادة وغايتها، هي في نفس الوقت بدايةً وعبادةً جديدة جذرياً، لا يعود مستحيلاً على العالم أن يكون، وجودياً، سراً للمسيح. فالعالم رفض المسيح وقتله وبهذا رفض مصيره وتمامه. لهذا، التجسد هو أساس كل عبادة مسيحية، فمحتواها الحقيقي هو دائماً الصليب والقيامة. من خلال هذه الأحداث تكون الحياة الحقيقية في المسيح مخبوءة مع المسيح ومع الله وتتحوّل إلى حياة ليست من هذا العالم. على العالم الذي رفض المسيح أن يموت في الإنسان إذا أراد أن يكون مجدداً أداة للشركة ووسيلة للمساهمة في الحياة التي أشرقت من القبر في المملكة التي ليست من هذا العالم، الآتية بحسب تعابير هذا العالم.
إن الخبز والخمر والطعام والمادة هي الرمز الحقيقي لهذا العالم ومحتوى تقدمتنا لله. وهكذا، لكي يتحوّل هذا الرمز إلى جسد المسيح ودمه ويصبح شركة في ملكوته، ينبغي أن يرتفع في الأنافورا ويؤخَذ من هذا العالم. وهذا يكون فقط عندما تترك الكنيسة هذا العالم في الإفخارستيا وترتفع إلى مائدة المسيح في ملكوته حيث ترى فعلاً وتُعلِن أن السماء والأرض مملوءة من مجده وأن الله ملأ الكل من ذاته. ومع هذا، مرة أخرى يكون هذا الانقطاع، هذه الرؤية لكل الأشياء جديدة، ممكناً فقط لأن في البداية كان هناك استمرار وليس رفضاً، لأن الروح القدس يصنع “كل شيء جديداً” وليس “أشياء جديدة”. هذا لأن كل العبادة المسيحية هي تذكُّر للمسيح في الجسد كما يمكن أن تكون أيضاً تذكُّراً لملكوته، أي ترقباً وتوقعاً له. هذا فقط لأن ليتورجية الكنيسة هي دوماً كونية، أي أنّها تفترض كل الأزمنة في المسيح، وبالتالي يمكن اعتبارها إسخاتولوجية (أخروية)، أي أنها تجعلنا مشاركين حقيقيين في الملكوت الآتي.
هكذا هي إذاً علاقة الإنسان بالعالم كما تتضمنها فكرة العبادة. فالعبادة تحديداً وفعلاً هي حقيقة ذات أبعاد كونية وتاريخية وأخروية، وبالتالي تعبير ليس فقط عن التقوى، بل عن نظرة شاملة إلى العالم. وهذه القلّة التي أخذت على نفسها جهد دراسة العبادة بشكل عام، والعبادة المسيحية بشكل خاص، سوف توافق بالتأكيد على أنه يمكن إثبات هذا المفهوم عن العبادة بشكل موضوعي، أقلّه على مستويات التاريخ وعلم الظواهر. وعليه، إذا كان ما يسميه الناس اليوم عبادة هو نشاطات ومشاريع وتعهدات ليس لها بالحقيقة أي علاقة مع هذا المفهوم للعبادة، فمسؤولية هذا الأمر تقع على التشوش العميق المييز لعصرنا المشوَّش.
ممكن أن نأتي الآن إلى نقطتي الثانية. الدهرية، كما قلت، هي قبل كل شيء رفض للعبادة. وإذا كان بالواقع ما قلناه عن العبادة صحيح، لكنه ليس على نفس القدر من الصحة أن الدهرية تتألّف من الرفض، المعلَن أو الخفي، لفكرة الإنسان والعالم. فالدهرية هي التعبير عن هذه الفكرة بعد تحويلها إلى هدف العبادة الحقيقي.
إلى ذلك، هذا الرفض هو في أساس الدهرية وهو يشكل معيارها الداخلي. وكما ذكرت سابقاً، الدهرية لا تساوي الإلحاد بأي شكل. إن الدهري المعاصر غالباً ما يقبل فكرة الله. لكن ما يرفضه بشكل أكيد هو بالتحديد أسرارية الإنسان والعالم. فالدهري يرى أن العالم يحمل في داخله معناه وأسس معرفته وعمله. قد يستنتج بعض المعنى من الله ويعيد إليه نشوء العالم وقوانينه التي تسيّره. وقد يقبل بسهولة إمكانية تدخل الله في وجود العالم. وقد يؤمن بالحياة بعد الموت وبخلود النفس. وقد يعيد إلى الله طموحاته المطلقة، كمثل المجتمع العادل وحرية كل البشر ومساواتهم. بتعابير أخرى قد “ينسب” دهريته إلى الله ويجعلها “دينية”، أي هدفاً للبرامج الكنسية والمشاريع المسكونية أو موضوعاً للقاءات الكنسية ومادة للاهوت. كل هذا لا يغيّر شيئاً في “الدهرية” الأساسية لنظرته للإنسان والعالم، في العالم الذي يفهمه ويختبره ويعمل فيه على أساس مصطلحاته الملازمة ومن أجل جوهره الخاص. كل هذا لا يغيّر شيئاً في رفضه “للظهور”. فالظهور هو البديهة الأساسية بأن سبب وأساس وجود كل ما في هذا العالم، كما سبب وجود العالم نفسه، ليس فقط في مكان آخر، بل أن العالم نفسه هو الظهور والحضور لذلك المكان الآخر، وبالواقع هذا الظهور هو حياة العالم وما فيه، وإذا انقطعوا عن هذا “الظهور” يصبح الكل ظلاماً وسخفاً وموتاً.
يتجلّى جوهر الدهرية كرفض في تعاطي الدهري مع العبادة. وعلى ما يبدو عليه من التناقض، فالدهري هاجسٌ بالعبادة بطريقة ما. ذروة الدهرية الدينية في الغرب، الماسونية، تتكوّن كلياً من شعائر متقنة جداً ومثقلة بالرمزية. نبي “المدينة الدهرية” الحديث، هارفي كوكس، أحسّ بالحاجة إلى أن يُلحِق كتابَه الذي حقّق أفضل المبيعات بكتابٌ عن “الاحتفال”. فالاحتفال اليوم هو موضة بالواقع. أسباب هذه الظاهرة الفريدة فيما يبدو هي بالحقيقة بسيطة جداً. وهذه الأسباب لا تبطل نظرتي بل على العكس تؤكدها. إذ من جهة، تثبت هذه الظاهرة أنه مهما كانت درجة الدهرية أو حتى الإلحاد، يبقى الإنسان “كائناً متعبداً” بشكل جوهري، يحنّ أبدياً إلى الطقوس والشعائر بغضّ النظر عن فراغ البديل المقدّم له واصطناعيته. ومن جهة أخرى، بإثبات عجز الدهرية عن خلق عبادة أصيلة، تكشف هذه الظاهرة في الدهرية عدم ملاءمتها المطلقة مع النظرة المسيحية الجوهرية للعالم كما تظهر مأساويتها.
ظهر هذا العجز بالمقام الأول في مقاربة الدهري للعبادة وفي قناعته الساذجة بأن العبادة، على غرار كل ما في العالم، يمكن أن تكون تركيباً عقلانياً ونتيجة تخطيط و”تبادلاً للرؤى” ومناقشات. المناقشات الدارجة حول الرموز الجديدة هي نموذج لهذه المقاربة، وكأن الرموز ممكن أن “تُصنَع” وتُوجَد من خلال مداولات اللجان. لكن النقطة كلها هنا هي أن الدهري عاجز فطرياً عن أن يرى في الرموز ما يتخطى كونها “مساعِدات سمعية بصرية” لنقل الأفكار. في العام الماضي، قضى طلاب وأساتذة أحد المعاهد المعروفة فصلاً “يعملون” على “الليتورجيا” مركزّين على “الأفكار الرئيسية” كمثل البيئة والفيضان في باكستان. لا شك في أنهم يقصدون حسناً. إن افتراضاتهم المسبقة هي الخطأ: بأن العبادة التقليدية لا تمّت إلى هذه المواضيع بصلة وليس لديها ما تكشفه فيها، وبأنه ما لم يتم قراءة موضوع ما بوضوح في الليتورجيا أو تحويله إلى مركزها فهو يبقى بجلاء خارج المدى الروحي للخبرة الليتورجية. الدهري مولع جداً هذه الأيام بتعابير مثل “الرمزية”، “السر”، “الاستحالة”، “الاحتفال” وكل البزة الرسمية من المصطلحات العبادية. ما لا يدركه في أي حال هو أن استعماله لهذه العبارات يكشف بالحقيقة عن موت الرموز وتحلّل السر المقدس. وهو لا يدرك هذا لأن في رفضه لأسرارية الإنسان والعالم، يتحوّل نحو النظر إلى الرموز بالواقع كمجرد رسوم للأفكار والمفاهيم، ما هي ليست عليه بالتأكيد. لا يمكن الاحتفال بالأفكار والمفاهيم، سواء كانت “السلام”، “العدالة” أو حتّى “الله”. الإفخارستيا ليست رمزاً للصداقة أو التلاقي، أو أي حالة أخرى من النشاط مهما كانت جذابة. إن السهرانية أو الصوم هما على الأكيد “رمزيان”: فهما يعبران دوماً ويظهِران وينجزان الكنيسة كترقب واستعداد. إن تحويلهما إلى رموز للاحتجاج السياسي أو الإثبات الإيديولوجي، واستعمالهما كوسائل مختلفة عن القصد منهما، أو الظن بإمكانية استعمال الرموز الليتورجية اعتباطياً، كل هذا يعني موت العبادة بالرغم من نجاح كل هذه “الاختبارات” الواضح والشعبي.
كل هذا ينكشف كبديل لمَن اختبر العبادة فعلياً، ولو لمرة واحدة. فهو يعرف أن عبادة الدهريين النسبية هي ببساطة لا تتلائم مع وثاقة العبادة الحقيقية. وهنا، في هذا الإخفاق الليتورجي المأساوي، الذي بدأنا نرى نتائجه المروّعة، تكشف الدهرية فراغها الديني المطلَق، ولن أتردد في القول، أنها تكشف أيضاً جوهرها المعادي للمسيحية بما في الكلمة من معنى.
هل يعني هذا انصرافاً بسيطاً عن موضوعنا “العبادة في زمن دهري”؟ هل يعني هذا أننا كأرثوذكسيين لا يمكننا أن نعمل شيئاً في هذا الزمن الدهري سوى أن نمثّل أيام الآحاد طقوسنا “القديمة الملوّنة”، وأن نعيش من الإثنين إلى السبت حياة دهرية بالكامل، مشاركين في نظرة للعالم لا علاقة لها بالمطلق بهذه الطقوس؟
جوابي الشديد على هذا السؤال هو لا. أنا مقتنع بأن قبول هذا “التعايش” كما يُسوَّق له اليوم على يد مسيحيين حسني النية ظاهرياً، لن يعني فقط خيانة لإيماننا، لكن عاجلاً أم آجلاً، سوف يقود إلى تذويب ما نرغب تحديداً بالحفاظ عليه وتخليده. وفوق هذا، أنا مقتنع بأن هذا التذويب قد بدأ وتخفيه جدران “مؤسساتنا” الكنسية العازلة للنعمة (في انشغالها بالدفاع عن حقوقها القديمة وامتيازاتها وأولياتها فيما تدين بعضها البعض كغير قانونية)، ومعها الكهنة المسالمون والتقويات التي تبرّر نفسها.
ما علينا أن نفهمه أولاً هو أن المسألة التي نناقشها معقدة بما لا يفهمه “محافظونا” الحسني النية، بغض النظر عن كل شجبهم وإدانتهم للدهرية ومنشئها وتطورها. فالدهرية، وعلينا أن نشدّد مراراً وتكراراً، هي ابنة المسيحية من زواج سابق. هكذا هي تماماً في كل الإيديولوجيات الدهرية التي تسيطر على العالم. ليس صحيحاً ما يدّعيه بعض الرسل الغربيين عن قبول مسيحي للدهرية كابنة شرعية فالدهرية هي هرطقة. والهرطقة، في أي حال، هي دائماً تحريف لما هو صحيح، وتعبير مبالغ عنه، وبالتالي هو بتر لبعضه، وتأكيد “الخيار” الواحد (hairesis تعني الخيار باليونانية)، أي لعنصر على حساب الآخر، وتحطيم لجامعية الحقيقة. فوق كل ذلك، الهرطقة هي دائماً سؤال موجَّه إلى الكنيسة وتتطلّب الإجابة عليه جهداً من الفكر والضمير المسيحييَن.
Keynote speech at the 8th Syndesmos General Assembly, ‘Worship in a secular age’, Boston, USA, December 1989