القداسة
الأرشمندريت أفرام كرياكوس
“اليوم ظهرتَ للمسكونة يا ربّ ونورك قد ارتسم علينا نحن الذين نسبّحك بمعرفة قائلين لقد ظهرتَ وأتيتَ أيها النور الذي لا يُدنى منه”
ندوة أسبوع الوحدة، الاثنين ٢٤ ك٢ ٢٠٠٠، كنيسة البشارة برج حمّود
الانسان يحيا إمّا لله وإمّا للعالم ولنفسه. الدافع في جوانب حياته كلّها، إمّا أن يكون الإيمان وإمّا أن تكون مصلحته البشريّة. القديس هو الإنسان المفروز لله الذي هو القدّوس وحده. القديس هو المفروز للمسيح عن طريق النعمة الإلهيّة، عن طريق ختم موهبة الروح القدس.
الروح القدس ناسج القداسة في كيان الإنسان. يحيا القدّيس بنعمة الروح القدس الى أن يُصبح كلّه نعمةً، كلّه روحاً، جسداً روحانياً، جسداً متألهاً.
بهذا المعنى، كلّ إنسان معمّد باسم الآب والإبن والروح القدس هو قدّيس، هو مخصّص في كيانه وحياته للمسيح الإله. كان المسيحيّون الأول يعَون هذه الحقيقة بشكل واضح وبولس الرسول يسمّي المؤمنين المُرسل اليهم قدّيسين.
أمّا اليوم فعندنا ميوعةٌُ كبيرة بالنسبة لوعي هذه الحقيقة. لكنّ أحداث العالم الحاضرة تُعيدنا شيئاً فشيئاً الى هذا المعنى الأصيل. فيضطر الإنسان المسيحي في كثير من الاحيان أن يأخذ موقفاً واضحاً: هل يتصرَّف بموجب إيمانه أم يتصرّف بما يقول العالم ويفرضه؟
المسألة طبعاً ليست في أن نترك العالم ونعيش مسيحيّين أي للمسيح في العزلة، بل أن نبقى في العالم ونشهد للرب يسوع وسط الصعوبات. لا شك أن ذلك الموقف الجريء لا يستطيع الإنسان اليوم ان يتّخذه إلاّ بقوّة الروح القدس. لنا أوّلاً مثال الرسل الذين جالوا الأقطار مبشّرين بالكلمة بعد اقتبالهم نارَ الروح الإلهي يوم العنصرة. عندنا أيضاً مثال الشهداء القدّيسين الذين كانوا بقوّة إلهيّة يرقصون وسط العذابات والنار بداعي محبّتهم الكليّة للمسيح.
وفي إطار أسبوع الوحدة هذا نقول إن التقارب لا يتمّ فقط عن طريق الحوار اللاهوتي الذي نحترمه ونطيع نتائجه كأعضاء في الكنيسة الجامعة، كما لا يتمّ فقط عن طريق النشاطات الإجتماعية التي تخلق إلفةً بين المسيحين. التقارب يتمّ بخاصةٍ عندما يحيا كل واحد إيمانه بالمسيح كاملاً في حياته، بالمعنى الذي قلناه أوّلاً أي أن يكون مكرّساً مفروزاً للمسيح الذي يشكل في حياته المحور والهدف والدافع تماماً كما يقول بطرس الرسول في رسالته الأولى الجامعة: “أمّا أنتم فجنسٌ مختار وكهنوتٌ ملوكي، أمّة مقدّسة شعب اقتناء لكي تُخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب” (۱بطرس ٢:٩).
لدينا هذه الصورة الواضحة والرائعة التي يعطيها الآباء القدّيسون قائلين إننا موجودون على شعاعات دائرة وسطها المسيح. كلّما اقترب الانسان من المسيح مركز الدائرة كلّما اقترب من أخيه الانسان وكلّما اقترب من أخيه الانسان اقترب من المركز الذي هو المسيح والعكس بالعكس.
ببساطة أقول أن مرض إنسان هذا العصر هو الإبتعاد عن الله لأن اللامبالاة تجاه الله يَنتج عنها لامبالاة تجاه كل انسان آخر بل تجاه كلّ شيء. هو مرض الحضارة، مرض الطبيعة بل مرض الدول التي أخذت تسنّ قوانين منافية لنواميس الله.
من عاش قريباً من الله – أو كما نقول شعبيّاً الذي يخاف الله – نؤمن “أن الله قادر أن يحوّل كلّ شيء لخير الذين يحبّونه”، أن يقربه من أخيه في حوار بنّاء، أن ينيره ليفهم إيمانه بل ليستنير الى ما هو من إيمان أفضل. هذا الى جانب بث الفضائل السامية من شركة محبّة ضدّ الأنانية والفردية المستشرية، التضحية والتنازل، ترابط العائلة لا الفرقة والطلاق. هذه الفضائل ما هي إلاّ صورة عن الله المثلّث الاقانيم كون الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله.
بكلمة فلنكن يا إخوة صادقين في إيماننا، في حياتنا نقترب كثيراً من بعضنا البعض.
نحن نخصّ المسيح قبل كلّ شيء. لقد اشترانا بدمه الكريم لم يعد لنا القدرة او الحق ان نتصرّف كما يحلو لنا. هذه هي الصعوبة، هذا هو التحدّي، هذه هي القداسة: أن نكون له وله فقط. له المجد الى الأبد. آمين.