الصليب
الشماس الياس بركات
وسط فترة الصوم الكبير، وعند نهاية الأسبوع الثالث من الصوم يؤتى بالصليب إلى وسط الكنيسة حيث يكرّمه المؤمنون ونبدأ بالاقتراب من أكثر المواضيع أسرارية في إيماننا: موضوع الآلام والصلب والموت.
لِما هي أسرارية؟ أليست الآلام في صميم الحياة؟ أليس كلٌّ منا مُدركٌ لها غالباً؟ نعم هذا صحيح. لكن السؤال هنا ليس عنّا بل عن المسيح ابن الله.
مع ذلك فأمامنا اليوم الصليب الذي يظهر أيضاً يوم الجمعة العظيمة ونسمع أيضاً ذات الكلمات … ’وابتدأ يشعر بالحزن والكآبة‘ (مت 26: 37). وقال لهم ’نفسي حزينةٌ حتى الموت، (مت 26: 38). بدَلَ أن يساعد تلاميذه المخَدَّرين بالحزن واليأس يسأل عونهم: ’أمكثوا هنا واسهروا معي‘ (مت 26: 38)، ومن ثم التألُّم لوحده: الحملة عليه، الهزء به، الصفع على الوجه، البصاق، المسامير في اليدين والرجلين. وأقسى من الكل ـ هجرانه. الكل تركوه وهربوا. وكأن كل السماء قد اختبأت. ’وفي الساعة الثالثة صرخ يسوع صرخةً جديدة وقال ـ إلهي إلهي لماذا تركتني. (مت 27: 47)
إن تمعَّنا بهذا نرى وكأنه لم يبقَ شئ مألوف: لا مساعدة ولا دعم ولا أمان.
أُضئ شمعةً، أصنعُ ذِكرانية وكل ما في الحياة سيكون سوياً، فالله سيأتي لنجدتنا بعد موت مرعب وغامض. أليس هذا هو المفهوم البسيط لمعظم المؤمنين؟ ألَم يتبعوا المسيح كجمعٍ غفيرٍ مؤملين الشفاء والعون والتعليم المفيد؟ لنلاحظ بحسب نصوص الأناجيل كيف أخذت تلك الجموع تتناقص!
حافِظُ الوصايا، ذلك الغني، يُعرِض عن المسيح؛ لم يكن بوسعه إدراك كلمات المسيح ’إذا أردتَ أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ كلَّ أموالك وأعطها للفقراء، فيكون لك كنزٌ عظيم في السماء وتعالَ اتبعني، (مت 19: 21)
ليلة عشاء الحب العظيم يتركه تلميذه ليخونه! وفي النهاية يتركونه جميعهم ويهربون.
في حياتنا الأمور هي بالعكس: نبدأ وحيدين، في غموض، ومن ثمّ يأتي الإقرار والاحتضان وسحابة المعجَبين.
وعند الصليب يبقى يسوع لوحده. وعن الآتي يقول ’إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم، (يو 15: 20) و’ستعانون الشدة في العالم‘ (يو 16: 33). ومهمة واحدة قد أعطانا ـ أن نحمل صليبنا، ونعلم تماماً ما يعني الصليب.
شئ غريب يحصل في هذه الديانة: بدل العون نُعطى صليباً، بدل وعود الراحة والرخاء نسمعه يؤكد ’اضطهدوني وسيضطهدونكم‘. وعندما نسمع عظماء الكهنة الساخرين منه يقولون ’خلَّص غيره ولا يقدر أن يخلِّص نفسه! هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به‘ (مت 27: 42). ألا نُذَكَّر بما نسمعه اليوم؟ إذن ألم يقدر إلهكم أن يساعدكم؟
وبالفعل، كلما انتظرنا من الله هكذا عون، فقط عجائب تمحو آلام وعذابات حياتنا، فسنسمع الإتهامات أعلاه. وستستمر هذه الإتهامات لأن أية حبة دواء رخيصة ستخفف وجع الرأس أفضل من الصلاة والدين. ولن نفهم سر الصليب أبداً ما دمنا نتوقع من الدين هذا النوع من الحبوب ـ إن كان لشئ بسيط أو هام. وبغض النظر عمّا يغلِّف الصليب من فضة أو ذهب يبقى ما قال فيه الرسول بولس في فجر المسيحية ’عاراً لليهود ومعثرة للوثنيين‘ (1كور 1:23). يمثِّل اليهود هنا الذين يبتغون من الدين العون فقط، أما الوثنيون فيمثلّون الذين يبحثون عن التفاسير البسيطة. وبهذه الحالة فالصليب هو حقاً عارٌ ومعثرة.
يُطافُ بالصليب اليوم والأسبوع العظيم يقترب في حين تدعونا الكنيسة، لا إلى أن نفحص ونناقش بل أن نتبع بصمتٍ كل خطوة للمسيح. أن نتبع سيره البطئ نحو الآلم، نحو الصلب والموت. إنها تدعونا لأن نتناول ونحمل هذا الصليب بعينه.
وهنا يحدث شئ غريب لنا. فجأة، من بين مشاكلنا ومن بين صِعابنا، وحتى من بين معاناتنا نلتفت إلى آخَر، إلى هذا الشخص المتألم والذي يعاني بصمت، إلى ليلة الرعب حيث الخيانة والوحدة ولكن أيضاً حيث الإحتفال والحب والنصر.
شئ ما غريب يحدث لنا: ولربما بدون أن ندري، نبدأ بالإحساس بأن هذه الديانة الرخيصة والأنانية، ديانة كانت تطالب لنفسها بالأشياء، تطالب بأن يكون الله في خدمتها…. تتبخّر! وتنجلي، روحياً تتضح بأن الديانة في أعماقها شئ مختلِف تماماً. بأنها في النهاية ليست عن العون والراحة بل عن الفرح والنصر.
إبراهيم وسارة في شيخوختهما ـ في موت الحياة فيهما ـ أتاهما الفرح العظيم، أبوا صموئيل (ألقانة وحنَّة)، زكريا وأليصابات، يواكيم وحنّة، وغيرهم. فرحهم اختلط بالنصر. النصر على الموت، موت الزرع، موت الطبيعة البشرية. صرنا بالنعمة نحيا.
فدعونا إذن ولو عقلياً أو فكرياً نتبع المسيح في هذا المسار إذ يحمل صليبه نحو الجلجلة وربما شئ أبدي سينجلي لنفوسنا.
لهذا يؤتى في وسط الصوم بالصليب إلى وسط الكنيسة. وهذا ما تدعوه الكنيسة بأسبوع تكريم الصليب وذلك من أجل أن نبدأ مسيرتنا الخاصة نحو أقصى وربما الأكثر إرعاباً، لكن في الأخير، السر الأكثر فرحاً لإيماننا.