الحكمة والسياسة الفاسدة
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
وصنع الفرّيسيّون مشورة، فيما بينهم، على يسوع. التآمر وارد من أول السقوط وهو مستمر إلى الدينونة العامة. طالما هناك حقّ هناك مشورة على الحقّ للقضاء عليه، لضربه، لطعنه، للتخلّص منه. لذلك لا نستغربَنّ إنْ كان كل مظهر من مظاهر الحقّ في عالمنا مضطَهَداً. في العالم سيكون لكم اضطراب. إذا كنا نبحث عن السلام في العالم فإنّنا نبحث عن سراب. إن كنّا نبحث عن السلام في العالم فلن نعرف يسوع. لذلك لا يستغربنّ أحد البلوى القائمة علينا سواءٌ في هذه البلاد أو في أي مكان آخر. طالما المؤمن بيسوع سالك باستقامة فيما ليسوع فهو عرضة للمضايقة والاضطهاد.
وتشاور الفريسيّون على يسوع لكي يصطادوه بكلمة. أرادوا أن يخدعوه. أرادوا أن يدفعوه إلى زلّة اللسان. أرادوا أن يفعلوا ذلك لكي يكون لهم شهود ولكي يتمكّنوا من تقديم شكوى بحقّه. الشيطان وعملاؤه يشجّعوننا، دائماً، على الكلام البطّال، ثمّ بعد ذلك يحاولون اصطيادنا بما نقول. لهذا السبب كان حَرِيّاً بنا أن نكون حريصين جداً من جهة الكلام. لا يعتبرنّ أحد أنّ بإمكانه أن يتفوّه بأي شيء وساعة يشاء، فهناك مَن يريد الإيقاع به من خلال كلامه. المؤمن بيسوع يحاول قدر الإمكان، بنعمة الله، أن يَلزم الصمت. ومتى تكلّم يتكلّم لأنّه لا بدّ من الكلام. لنجعل الكلام للضرورة. الكلام ليس للتسلية. الكلمة تبني والكلمة تهدم. الكلمة يمكن أن تُفرغ النفس من حرارتها، والكلمة يمكن أن تطرد نعمة الله من حياة صاحبها. الناس، في العالم، يظنّون أنّ لهم في الكلام حرّية. يطلقون العنان لأنفسهم حين يتكلّمون مما ترغب به نفوسُهم دون حسيب ولا رقيب. الثرثرة في العالم، بكل أسف، من مظاهر الحرّية.
فأرسَلوا إليه – أي الفريسيّون – أرسلوا إلى يسوع تلاميذهم والهيرودُسيّين. الفريسيّون والهيرودسيّون لم يكونوا حزباً واحداً. ولكنْ الأحزاب، في هذا الدهر، تتضامن فيما بينها متى كانت لها مصلحة مشتركة. كل حزب يتربّص بحزب، ولكن إذا دعت الضرورة إلى التعاون يتعاونون ولكن إلى حين. إذاً، أرسلوا إليه تلاميذهم والهيرودسيّين قائلين، يا معلم! هكذا خاطبوه: يا معلم! لو كان يسوع معلّمهم بالفعل لما كانوا تشاوروا عليه ليصطادوه بكلمة. ولكنْ الناس في العالم، كما هو مألوف فيما بيننا، يطلقون الصفات الحميدة على الناس متى أرادوا أن يحقّقوا كَسْباً ما منهم ولا يعنون ما يقولون. يستعملون الكلام كمجرّد أداة للوصول إلى ما ترغب به نفوسهم. هذه عند الشرقيّين عادة قبيحة، متى استُعملَت بقباحة. بسهولة نقول عن فلان إنّه “معلّم” ونقول عن علتان إنّه “سيّد” ونقول عن ثالث إنّه “أستاذ”. يا أستاذ! نسمّي الناس بأسماء كبيرة ونحن لا نعني ما نقول. فقط لنخدعهم ونصل إلى ما نرغب فيه. يا معلّم، قد علِمنا! إذاً هم يَعلمون. هكذا يدَّعون. يعلَمون ولا يقولون إنّهم يظنّون. قد علِمنا أنّك صادق. كل منطق أهل العالم مجبول بالكذب والرياء والمداهنة. قد علِمنا أنّك صادق وتعلِّم طريق الله بالحقّ. لاحظوا كلمة “صادق” وكلمة “حقّ”. ويذكرون الله. الناس بسهولة يستعينون بالله ويذكرون الله وكأنّهم أتقياء، وهم من أرومة إبليس. قد علمنا أنّك صادق وتعلّم طريق الله بالحقّ ولا تبالي بأحد ولا تنظر إلى وجوه الناس. تقول ما عندك بلا رَوْتَشة ولا تخاف أحداً. لا تبالي بأحد، لأنّك تعلّم طريق الله بالحقّ. إذاً قلْ ما في نفسك. أهل العالم يستعملون هذا الأسلوب لكي يُخرِجوا محدّثهم عن تحفّظه حتى يوقعوا به. ولا تنظر إلى وجوه الناس. أنت لا تحابي أحداً. تقول الحقّ في السرّ وفي العَلَن. فقلْ لنا، ماذا تظنّ، هل يجوز أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا؟ يفرشون أولاً السجاد الأحمر، ثم بعد ذلك ينفثون سمَّهم. هل يجوز أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا.
ما فعلوه، في القسم الأول من كلامهم، يقع في تصنيف الناس في خانة اللياقة. هذه الكذبة الكبرى التي اسمها اللياقة! أن تقول للناس كلاماً طيِّباً يستلذّون سماعه. هذا اسمه لياقة. اللياقة بنت الكذب!
ثمّ في القسم الثاني، بعد اللياقة، يَتَذاكَون. يحاولون أن يكونوا أذكياء. وهذا في التداول معناه الخباثة. والخباثة في التداول معناها الشطارة. ثمّ الشطارة أن تعرف كيف تصطاد الناس. هل يجوز أن تعطى الجزية لقيصر أم لا؟ يريدون أن يوقعوا بيسوع أمام السلطة الحاكمة، بإزاء السلطة الحاكمة، كما ليقولوا: مشكلتُه ليست معنا، مشكلته سياسية، هذا يشتغل بالسياسة. هذا اسمه، في اللغة العصرية، “التسْيِيس”. إذا أردت أن تعطِّل إنساناً اليوم عن قول الحقّ فأنت تعمل على “تسييس” ما يقول! كل شيء إذا سُيِّس انصرف عنه الحقّ. لا يعود فيه حقّ البتّة. والناس، بإزاء السياسة، يقعون في لعبة التذاكي ولعبة الخباثة. وبالتالي الكذّابون، في إطار اللعبة السياسية، يستدعون الكذّابين.
فعلم يسوع شرّهم. يسوع علاّم القلوب، لا يؤخَذ بمظاهر الأمور ولا يؤخَذ برنّة الكلام ولا بالكلام المَلِق. وهو يدعونا، إذا كنّا أمناء له، أن نحرص على أن نحكم على الأمور بحسب الظاهر. فعلم يسوع شرّهم فقال: “لماذا تجرّبونني يا مراءون؟” التجربة هي كمثل نَصْب فخّ لمَن نسعى إلى تجربته. لماذا تجرّبونني يا مراءون؟ وصف الربّ يسوع فِعلتهم ومكيدتهم بالتجربة، وفضح، في آن، دواخل نفوسهم. قال عنهم إنّهم مراءون. المرائي هو مَن يقول شيئاً ويقصد شيئاً آخر، هو مَن يُظهر شيئاً ويخفي شيئاً آخر. المرائي إنسان له وجهان، وجهٌ للاستهلاك العام ووجه للإيقاع بالناس. “أروني نقدَ المعاملة”. بماذا يواجه الربّ يسوع تجربة الفريسيّين والهيرودسيّين؟ يواجهها بالحكمة السماوية. “كونوا حكماء كالحيّات”. والمقصود بذلك الحكمة السماوية. اعلموا أن تتسلَّلوا من خلال كلام الآخرين دون أن تدخلوا في حوار معهم. المهمّ، إذا نُصِبتْ لكم الأشراك، أن تعرفوا كيف تنجون منها. “أروني نقدَ المعاملة، فأتَوه بدينار”. ما فعله يسوع يبدو بسيطاً. فقال: “لِمَن هذه الصورة والكتابة؟” قالوا لقيصر. فقال: “أوفوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ما قاله، في الظاهر، بسيط. الحكمة دائماً، حكمة الله، دائماً ما تأتي في حلّة البساطة. في مقابل ذلك حكمة العالم تأتي دائماً بحلّة مُعقَّدة.
ما فعله يسوع هنا كان أن رسّخ قاعدة أساسية في التعامل مع قيصر وقاعدة في التعامل مع الله. “أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ما هو الذي نعطيه لقيصر؟ نعطي لقيصر الكرامة. نعطي لقيصر الضرائب. نعطي لقيصر الجزية. نعطي لقيصر الخضوع لقوانينه. الكنيسة ليست، أبداً، ضدّ النظام في العالم. بالعكس نحن نعتبر أنّ النظام في العالم مبارَك عند الله. وقيصر يُعتبَر خادماً لله. نحن علينا أن نتعامل مع قيصر باعتباره خادماً لله، يستمدد سلطانه من فوق. هذا ما قاله الربّ يسوع لبيلاطس: ما كان لك عليّ من سلطان لو لم يُعطَ لك من فوق. إذاً، نحن نكرِّم السلاطين في هذا الدهر ونخضع لهم. ولكنْ ما لا نخضع له أبداً هو تأليه قيصر. بالنسبة لنا يبقى قيصر خادماً لله. وساعة يطلب العبادة لنفسه، ساعة يعاملنا كأنّه الله، ساعة يطالبنا بأن نعامله وكأنه الله، ساعة يشاؤنا أن نعطي له ما هو لله، أي العبادة، فإنّنا إذ ذاك نَمتنِع.
مشكلة السياسة، بالدرجة الأولى، في العالم كلّه أنّ الذين يعملون فيها يتحكّمون بمصائر الناس بدل أن يعملوا على خدمة الناس، على تسهيل أمور الناس باسم الله. يعتبرون أنفسهم كأنّ لهم الحقّ في أن يسحقوا شعوباً باسم المصلحة العامة. وهذا تصرّف يتخطّى ما هو لقيصر إلى ما هو لله. الزعماء مثلاً يستلذّون أن يأتي الناس إليهم ويَستَجدوا، بكلام مَلِق، خدمة هنا أو هناك. وهذا لون من ألوان العبادة. سيّدي سيّدي! السياسة بعامة في العالم تتوخّى انتزاع سلطة الله على الناس، ولذلك هي ساقطة سلفاً. المسيحيّون رفضوا، في الزمان الأول، أن يَدعوا قيصر “سيّدي” ورفضوا أن يعبدوا قيصر. رفضوا أن يُلقوا البخور أمام تمثال قيصر. لذلك اضطُهِدوا. واليوم كل إنسان لا يتذلّل أمام أهل السياسة يخسر الكثير من الامتيازات التي يمكن أن يسبغوها عليه. السياسيّ، في العمق، يطلب عبادة الآخَرين له ويتصرّف كأنّه السيّد على كل شيء. السياسة بحاجة إلى تحجيم حتى تكون في خدمة الناس. إذا لم يكن قيصر في عين نفسه خادماً لله فلا يمكنه أن يكون خادماً للناس. سيتصرّف باعتباره سيّداً عليهم، وبالتالي سيعتبر أنّ الله هو خادم له وداعم لمقاصده. إذاً، اوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لا خلطة بين الشؤون التي لقيصر والشؤون التي لله. هذا على الأقل ينبغي أن يكون واضحاً في الأذهان حتى نكون شهوداً لله أمام قيصر وحتى نكون مستعدّين لأن نواجه قيصر. كل الذين يواجهون قيصر باسم الحقّ يشهدون للحقّ. قلّة قليلة تثبت في الحقّ. أكثر الناس ثابتون في الكذب والجُبن والتملُّق لأنّ قيصر يُرهبهم. يخافون. يخافون على مصالحهم. يخافون على حياتهم. بدل أن تكون مخافتهم لله تصير مخافتهم للمُتسيِّدين على السياسة. لذلك، السياسة، حين تخلط ما بين قيصر والله، تُفسد الناس، وهذا حاصل في الكثير من الأحيان. المهمّ أن نُنمي علاقتنا بالله حتى تقيم مخافته فينا. وكلّما أقامت مخافته فينا كلّما صرنا على جرأة في تعاملنا مع أهل هذا العالم. إذ ذاك فقط يمكننا أن نشهد للحقّ. ونشهد للحقّ بحكمة أخّاذة على صورة الحكمة التي أبداها يسوع، في إطار الوداعة. لأنّ الذي قال: “كونوا حكماء كالحيّات قال أيضاً: “كونوا ودعاء كالحمام”.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.
عظة في السبت الثالث عشر من متى (22: 15 – 22) في 26 كانون الثاني 2008