القداسة وشفاء العالم
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
يا إخوة،
القدّيس أرسانيوس الكبّادوكي زرعه الله في مكان كان أشبه بالصحراء البشريّة. فيما كانت الدلائل تشير إلى أنّ شعب الله، في تلك البقعة، كان في تناقص مطّرد، في ذلك الوقت، بالذات، أضاء روح الربّ مشعلاً بهيّاً. القدّيس أرسانيوس الكبّادوكي كان، في حياته، صلباً. كل الذين يقيمون في الصحراء، في الحقيقة، هم رجال بأس. ما صنعه القدّيس أرسانيوس كان أنّه شدّ نفسه كوتد ولم تعرف نفسه شيئاً من الرخاوة. صار آلة لروح الربّ. صار إناء سكن فيه روح الربّ. لهذا كان واحة بشريّة وسط الصحراء. كل الذين كانوا متعبين وخائفين وقلقين، كل الذين كانت الأمراض تضايقهم والأوجاع تكدّهم، كانوا يأتون إليه سائلين التعزية، سائلين البرء، سائلين كل حاجة. كان للناس الكلّ في الكل، لا هو بل روح الربّ فيه، في مظهر من الضعف وفي زمن ملتبس. وروح الربّ يعمل على أجمل ما يكون العمل حين يكون الإنسان في حيرة من أمره، في القلق، في الخوف. حين يكون المرء مطروحاً لعواصف الدهر، إذ ذاك يختبر عمل الله بامتياز.
الله يروّضنا على التسليم له في كل أمر، في كل حين، في كل حال، في كل مكان. إنسان الخطيئة فينا يريد دائماً أن يكون سيّد مصيره، أن يتحكّم بالظروف، أن يعرف من أين أتى وإلى أين يذهب. أما روح الربّ فيعطينا أن نعرف شيئاً واحداً، أنّنا منه نأتي وإليه نذهب. في ما عدا ذلك يتركنا في الكثير من التساؤل. من الخارج يرى الإنسان دائماً عمل الله مكتنفاً بالسرّية. لكن الذي ينظر كمن الداخل، كمن روح الربّ عينه، هذا يكون في سلام عميق. هذا لا يهتمّ، من بَعد، بما يمكن أن يحدث له لأنّ عِشرة الربّ تؤنسه، فيصير لسان حاله: “جيّد أن نكون ههنا”. المؤمن بيسوع، الكائن إناء للربّ، يتمتّع بسكون عميق وفرح راسخ، ولو وسط العواصف، فيما الذين يعاينونه من الخارج يرونه في الشدّة أو الشقاء أو الفقر. لا يفهم الناظر إليه من الخارج من أين يأتي بالسكون والفرح. كل شهداء الربّ، في الحقيقة، هذه سيرتهم. لهذا السبب كانت أزمنة الشدّة في تاريخ كنيسة المسيح هي الأزمنة التي نضحت، بامتياز، بروح الربّ.
الإنسان، إذا ما كان مؤمناً بالربّ يسوع، لا يوافقه أن يكون في الرغد، أن يكون في سلام العالم. بالعكس يوافقه أن يكون في شيء أو في الكثير من الشدّة. القدّيسون، في كنيسة المسيح، يُولَدون في أزمنة الاضطهاد، في أزمنة الضيق، في الحروب. قلّما يولدون في الأزمنة التي يكون الناس فيها مرتاحين. لهذا كان الراهب، بعامة، حريصاً على أن يدخل، بصورة إرادية، في الصحراء. لا ينتظر أن تكون هناك مجاعة ليلتجئ إلى الربّ الإله بل يسلك في المجاعة، أي في الفقر، ليستنزل روح الربّ. لا ينتظر حروب الناس عليه بل يدخل في حرب مع أفكاره سعياً لا إلى تحرير بلده من المغتصبين بل إلى تحرير قلبه من كل نجاسة. سلام العالم يلقي الناس في الكثير من الخمول، أما الراهب فسلام قلبه أن يكون يقظاً، أن يسهر على نفسه وعلى الآخرين في حراسة من لصوص التجارب الشيطانية والأهواء.
لهذا السبب كان الراهب هو ما يحتاج إليه العالم ليثبت ويستمر. من دون الرهبان يموت العالم في خطيئته ويقبع عامة المؤمنين، بسهولة، في ظلمة هذا الدهر. الكنيسة التي لا رهبان فيها هي عجين بلا خمير. الراهب يخرج من العالم من أجل الآخرين ومن أجل نفسه في آن. لهذا يسعى إلى تنقية قلبه، ويسعى، في آن معاً، إلى الصلاة من أجل الآخرين. بعكس ما يُظن، الراهب لا يطلب ما لنفسه بمعزل عن الناس، بل يطلب ما لنفسه من أجل الناس. “لأجلهم أقدّس ذاتي”. سعيه هو في إطار محبّته للناس. الشمعة، بطبيعتها، لا أنانية فيها وإلاّ لا تكون شمعة. بطبيعتها تضيء على الناس. هكذا الراهب. ينتفي الراهب عن أن يكون راهباً إذا ما اقتبل في قلبه فكراً أنانياً يجعله ينفصل عن الناس. طبعاً نحن ننفصل عن أمزجة الناس، عن طريقة عيشهم. نحفظ أنفسنا من تجارب الناس. كل ذلك صحيح. ولكن كل هذا نفعله لا من أجل أنفسنا فقط بل من أجل الآخرين أيضاً.
هذا، في الحقيقة، ما كان عليه القدّيس أرسانيوس الكبّادوكي الذي كان راعياً لخراف المسيح في كل أمر. جمع بين السعي الرهباني والسعي الرعائي. كان إيقونة لروح الربّ بين الناس. والربّ جعله على صلابة داخلية جعلت شعبه لا يتعلّق به وحسب، بل يشعر معه بطمأنينة كبيرة.
الإنسان، كل إنسان، في الحقيقة، لا يطمئن، في العمق، إلاّ للقدّيس. طبعاً، هناك قوم لا يعرفون. هؤلاء يحكمون جزافاً على قدّيسي الله. لكن قدّيس الله، من حيث يدري الناس ولا يدرون، هو ما تشتاق إليه نفس الإنسان، ما تشتاق إليه البشريّة، ما تحتاج إليه البشريّة. أنين الإنسان، كل إنسان، أنين البشريّة، كل البشريّة، هو أنين إلى إيلاد القدّيسين في العالم. انظروا مثلاً كم يبذل البشر من تضحيات، كم يبذلون من دماء، من أجل أن يتحقّق لهم تغيير في مستوى واقعهم السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. وإذا ما نظر الواحد، في العمق، إلى ما يتشوّف إليه هؤلاء الناس الذي يقدّمون التضحيات، فإنّه يرى أنّ الناس يطلبون الرجل القدّيس الحكيم في الموقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو في أي موقع من المواقع. ضمير الإنسان، في الحقيقة، مركّب على أساس أن يكون قطب الاهتمام هو الرجل القدّيس. هذا هو المخاض الدائم في عالمنا. الناس يغيِّرون مواقفهم دائماً لأنّهم يشعرون بالخيبة تلو الخيبة بإزاء الذين يحكمون، أو بإزاء الذين يتولّون الشأن الاقتصادي أو الاجتماعي.
من هنا، يا إخوة، أنّ الكنيسة، أولاً وأخيراً، من حيث هي جسد المسيح، هي مصنع قداسة، مصنع قدّيسين. وإذا ما كانت الكنيسة تعاني في العالم، فهي تعاني من اضطهاد الذي لا يعرفون، ومن اضطهاد الشيطان الحسود. والكنيسة تعاني، بخاصة، حين لا يحفظ المؤمنون فيها أمانة القداسة. نحن لا يمكننا أن نحيد عن القصد الذي جعله الربّ الإله لنا في حياتنا كمؤمنين. القصد هو أن نكون على قداسة في السيرة بإزاء كل إنسان، في تعاطينا كل أمر من الأمور. بطبيعة الحال، الشيطان يحارب الذين ينزعون نزعة القداسة. ولكن، أحياناً كثيرة، الحروب التي يعاني منها المؤمنون، أو مَن يُفترض بهم أن يكونوا مؤمنين، هي حروب تأتي عليهم بسبب تخلّيهم عن الهدف الذي جعله الربّ الإله لهم. فإنّهم إذ لا يشاؤون أن يسلكوا في القداسة يعانون لا من الشياطين وحسب بل من الناس أيضاً. ولو كانوا ليُعانوا من أجل القداسة لقَوَوا على الأبالسة وكسبوا الناس في الكثير من الأحوال. هكذا، بالضبط، ربحت الكنيسة العالم في الماضي. كان المؤمنون وسط الاضطهاد في ازدياد، وكانت نِعَم الله تدفق على شعب الله دفقاً. لكن لمّا أخذ المؤمنون يفترون صاروا يعانون ولم نعد نحصِّل نتائج مرموقة. باتت الكنيسة كأنّها بممتلكاتها، بسلطاتها، بسيطرتها على الآخرين، ولم تعد، أحياناً كثيرة، بقدّيسيها. لهذا أخذت تخسر. أخذت تتراجع.
من هنا، يا إخوة، أنّه لا سلام يُرتجى في كنيسة المسيح إلاّ إذا سلكنا في المحبّة الأولى، في محبّة الله، في محبّة القداسة. كل شيء، إذ ذاك، يعطينا الربّ الإله أن يخضع لنا. إذ ذاك فقط تزدهر الكنيسة. من هنا أنّنا حين نعاين قدّيساً من قدّيسي الله، فإنّنا، إذ ذاك، نُعطَى نموذجاً للحياة يشاؤنا الربّ الإله أن ننتفع منه. فقط، حينذاك، نحتفل بأعياد القدّيسين إذ نتبنّاهم سيرة جديدة لنا، ونسلك في إثرهم. ننهض من سباتنا إلى الحياة الجديدة، إلى الوعي الجديد، إلى الغنى المعطى لنا من فوق. “إرادة الله قداستكم”. فقط في القداسة يستبين وجه المسيح في كنيسته، ومن دون القداسة تتشوّه الكنيسة أكبر تشويه، في وجوه أبنائها بخاصة، ويُجدَّف، إذ ذاك، على الله بسببهم.
المهم أن نحرص، أن ننتبه لنستعيد ما أمكن، ولو أمكن، هذه الأمانة التي أبداها القدّيس أرسانيوس الكبّادوكي وأمثاله من آبائنا القدّيسين، وبهم حُفِظَت الكنيسة وتُحفَظ إلى دهر الداهرين، آمين.
عظة في دير مار يوحنا – دوما، الخميس 10/ 11 / 2005