حياة جديدة
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
“ودنا إلى يسوع رئيس”. الرئيس هنا هو رئيس المجمع. والرئيس في قومه صاحب سلطان. “رؤساء الأمم يسودونهم وعظماؤهم يتسلّطون عليهم”. كل رئيس معرَّض لتجربة الانتفاخ، معرَّض لتجربة العظمة. كل رئيس يتحرّك كبرياؤه ولا يتعامل مع الناس ببساطة. هذا بصورة عامة. “ودنا إلى يسوع رئيس”. الرئيس هنا هو رئيس المجمع. والرئيس في قومه صاحب سلطان. “رؤساء الأمم يسودونهم وعظماؤهم يتسلّطون عليهم”. كل رئيس معرَّض لتجربة الانتفاخ، معرَّض لتجربة العظمة. كل رئيس يتحرّك كبرياؤه ولا يتعامل مع الناس ببساطة. هذا بصورة عامة.
هذا الرئيس أتى وسجد ليسوع. السجود قد لا يكون هنا، بالضرورة، لأنّ هذا الرئيس عرف أنّ يسوع هو المسيح. السجود قد يكون علامة تواضع بإزاء معلّمٍ في إسرائيل. وقد يكون هذا الرئيس قد سمع بيسوع لا سيما في شأن أشفيته وإقامته للموتى، لأنّ يسوع شفى الكثيرين وأقام العديدين من الموت. وإلاّ كيف نفسِّر طلبَه، طلبَ هذا الرئيس ليسوع: هلمّ ضع يدك على ابنتي التي ماتت الآن، فتحيا؟ المهم هنا أنّ الألم علّم هذا الرئيس أن يتّضع. ليس كالألم يعلِّم الإنسان الاتضاع. كل واحد مُعرَّض في موقعه لتجربة العظمة. وكل هذا وَهْم. لأنّ الإنسان في حقيقته العميقة هو تراب ورماد. لذلك سيرة الإنسان، إذا ما أراد أن يكون واقعياً، هي سيرة اتضاع. ولكن بكل أسف، الإنسان لكي يتّضع، لا بدّ له، في هذا العالم، من أن يتألّم. الألم يُحني الرأس ويكسر العظم. حين يمرض إنسان في الشرق، يمرض كل الذين من حوله. حتى المرض ليس خاصاً بالمريض، بل له بُعدُه العائلي والاجتماعي. بالمحبّة، الإنسان يدخل في مشاركة مع الذين هم في معاناة، في مشاركة عميقة. وهذا شيء بارز في علاقات الحبّ بعامة. ليس المريض، في الحقيقة، هو الشهيد وحده. كل الذين يخدمونه شهداء. يلاحظونه ويتابعونه ساعة بعد ساعة. والساعات تكون ثقيلة متعِبة مُضنية. ينظر الإنسان مَن أحبَّه يتلوّى ويذوب شيئاً فشيئاً، ويرى نفسه مسمَّراً على حبيبه، لا يستطيع أن يغادره. لذلك يدخل في مشاركة وجدانية عميقة معه في مستوى الألم، في مستوى المعاناة. لهذا جاء هذا الرئيس إلى يسوع مكسوراً. ابنتي قد ماتت الآن. قد كان بإمكانه أن يعتبر أنّ موت ابنته نهاية محنته. ولكنّه، بالحبّ الذي كان يعتمل في صدره، لم يشأ أن يستسلم للموت. ليس أحدٌ، في الحقيقة، مستعداً لأن يستسلم للموت بكل معنى الكلمة. هو يحاول جهدَه إلى المنتهى لكي لا يموت. المؤمن بيسوع أيضاً لا يستسلم للموت. يستسلم ليسوع. قيمة الموت قيمةٌ سالبة في هذه الحال، بمعنى أنّ الوقفة أمام الموت تدفعنا إلى الإلقاء بأنفسنا بين يدي الله الحيّ. نلقي بأنفسنا بين يدي يسوع بامتياز. نحن لا يمكننا أن نواجه الموت، ولا يمكننا، في الحقيقة، أن نواجه الألم والتجارب والضيقات. الإنسان أوهى من أن يواجه كلَّ هذا. ربما هناك قوم أشدُّ بأساً من غيرهم. ولكن تأتي لحظة يستبين فيها ضعفهم بصورة كاملة. لهذا، نحن، في الحقيقة، نعتمد على مَن غَلبَ، على مَن انتصر، على يسوع. لذلك بإزاء الموت، بإزاء الألم، بإزاء الضيق، بإزاء مناسبات الخوف الشديد، نلقي بأنفسنا بين يدي يسوع. هو يتولّى مواجهة كل شيء. لأنّه هو وحده واجه الموت وجهاً لوجه وانتصر. لا تخافوا أنا قد غلبت العالم.
لهذا، كما يعلِّمنا آباؤنا، حين نواجه شدّة في حياتنا، علينا أن نلتفت إلى يسوع، علينا أن نستجير به، أن نستعين به، أن نستدعيه. اللهمّ بادر إلى معونتي، يا ربّ أسرع إلى إغاثتي. هذا نفعله كل يوم. نفعله في الحقيقة عن أنفسنا وعن الآخرين. إذا كنا نحن لا نتألّم في هذه اللحظة فهناك العديدون يتألّمون، هناك العديدون يواجهون الموت. قد يأتي دورنا بعد حين. ولكن علينا دائماً أن نستجير بيسوع من أجل الآخرين. لذلك نصلّي دائماً. نصلّي دائماً من أجل العالم كلّه، من أجل المتألّمين، من أجل الحزانى، من أجل المضنوكين، من أجل المتعَبين، من أجل الذين هم في كل شدّة وألم وضيق. نطلب من أجلهم لأنّنا وإيّاهم عائلة واحدة، إخوة. الربّ يسوع جعلنا كذلك. أنتم جميعاً إخوة. الإنسان الذي يعزل نفسَه عن الآخرين في القلب ولو صام وصلّى، فإنّه لا ينتفع شيئاً. بالدرجة الأولى علينا أن يحمل بعضنا أثقال بعض، حتى نتمِّم ناموس المسيح.
لذلك كل يوم تنتهي إلى أسماعنا أخبار العديدين الذين يتألّمون، الذين يموتون. هذا ينبغي أن يكون دافعاً لنا لأن نصلّي من أجلهم. كلّما كان القلب مرهَفاً من جهة هؤلاء، كلّما كانت نعمة الله هي التي تحرّك القلب. قد يصلّي الإنسان لأجل الآخرين ولكن على نحوٍ شكلي. هذه الصلاة لا تدوم. بعد حين لا بدّ لها أن تتوقّف. الصلاة معاناة من أجل أنفسنا ومن أجل الآخرين. “هلمّ ضع يدك عليها فتحيا”. لم يتمكّن هذا الرئيس من مواجهة الموت فاستجار بيسوع. “ضع يدك عليها فتحيا”. أنت كنْ سيّداً عليها. ضع اليد بمعنى المُلكيّة. هي خروف من خرافك. “فتحيا”، لأنّك أنت حياة. فحيثما جعلتَ يدك انبثَّتْ الحياة في الموت. فقام يسوع وتبعه هو وتلاميذه. لم يكن هناك حوار. لم يكن هناك سؤال وجواب. يسوع لا يحتاج إلى سؤال وجواب حين يكون القلب مُرّاً وحين يكون الإنسان متّضعاً إلى هذا الحدّ، مكسوراً إلى هذا الحدّ. الله يفهم حركة قلوب الناس ويتبعهم. هو بحاجة إلى إشارة منهم. محبّته فائقة لدرجة لا يحتاج معها إلاّ إلى مجرّد تلميح. “هلمّ ضعْ يدك عليها فتحيا”. يسوع خادم. كل مَن يحبّ يصير خادماً. لا لأنّ الخدمة مفروضة عليه، بل لأنّه، عن إرادة، يستخدم نفسه لأجل الآخرين.
هنا تنتقل الصورة من هذا الرئيس إلى صورة أخرى هي صورة المرأة التي بها نزفُ دم منذ اثنتي عشرة سنة. نزفُ دم. الزمن زمنُ طبٍّ ضعيف. الناس يتدبّرون بأمور بسيطة بعامة. كانت تنزف كل يوم منذ اثنتي عشرة سنة. دَنَتْ من خلفه ومسَّتْ طرف ثوبه. لاحظوا هذا التحديد. منذ اثنتي عشرة سنة. كل شيء بالنسبة ليسوع يتمّ في أوانه. هو سيّد الأوقات. نحن لا نعرف الأوقات جيداً. لذلك نتصبَّر، نعلم أنّه آتٍ، ولكن لا نعلم لا متى يأتي ولا كيف يأتي. ولكن يأتي في تمام الأزمنة، في تمام الأوقات. العدد اثنا عشر عددٌ كامل. لا أحد بإمكانه أن يقول ليسوع: لقد تأخرت! يسوع يتركنا نستنفد أنفسنا قبل أن يأتي. حين نبلغ حدّاً من المعاناة لا يكون بإمكاننا بعده أن نستمر، إذ ذاك يأتي يسوع. وهذا عن حكمة. ما لم ييأس الإنسان من نفسه بالكامل، فإنّ رجاءه بالله لا يصبح حيّاً. نحن نتعاطى الإلهيات بصورة كلامية إلى حدٍّ بعيد. هذا واقعنا. ولكنْ، في مقابل هذا الكلام، هناك واقع كياني الإنسان بحاجة إليه لكي يحسّ بوطأة هذا الكلام، بقوّة هذا الكلام، بقوّة يسوع الكامنة في هذا الكلام. لهذا يأتي يسوع حين نكون قد استنفدنا أنفسنا.
دنتْ من خلفه ومسَّتْ طرف ثوبه. لماذا دنتْ من خلفه؟ لأنّ الشريعة الموسوية لا تجيز للمرأة النازفة، المرأة التي تكون عادة في فترة حيضها، لا يجوز أن تمسَّ أحداً ولا يجوز لأحد أن يمسَّها، وإلاّ يكون دَنساً. إذاً هناك مانع شرعي. لهذا جاءت سرّاً من خلفه ومسَّتْ طرف ثوبه. لم تشأ أن تمسَّه هو، لكي لا تكون مخالفة للشريعة. لأنّها قالت في نفسها إنْ مسَستُ ثوبه فقط برئتُ. يسوع سمّى هذا الأمر إيماناً. من أين يأتي الإيمان؟ لماذا لا يؤمن الناس؟ لماذا لا يؤمن الكثيرون؟ لماذا يؤمن بعض الناس وبعض الناس لا يؤمن؟ الإيمان، في الحقيقة، هو من الله، عطيّة من الله. ولكنْ الله لا يعطي الإيمان للناس جزافاً. بل مَن كان متّضعاً، مَن كان محبّاً للحقّ، هذا يستدعي الإيمان الذي يعطيه الله للمتّضعين. الربّ يعزّي المتّضعين. “ثقي يا ابنة، إيمانكِ أبرأكِ”. يسوع التفت إليها فرآها. يسوع كان قد رآها في قلبه، ولكنْ أراد أن يقرن معاينة القلب بمعاينة العين. الأشياء عند يسوع تأخذ تعبيرها في مستوى الجسد. يسوع أيضاً يلمس ويتكلّم ويبكي ويحسّ. “ثقي يا ابنة، إيمانكِ أبرأكِ”. الإيمان يُبرئ. قال للمرأة ثقي لأنّه أراد أن يقول لنا أن نثق بأنّ إيماننا به يبرئنا. مِمّ يبرئنا؟ بالدرجة الأولى يبرئ نفوسنا من كل جذور المرض والألم والمعاناة والموت. الإيمان يبرئنا مما هو وراء الموت. الربّ يسوع لم يُلغِ الموت بالجسد، أبقى عليه. ولماذا أبقى عليه؟ كان بإمكانه أن يلغيه بسهولة كلية كاملة. طالما إيماننا أبرأنا، فلماذا الموت بعد؟ لأنّ الموت في يسوع صار له معنى جديد، صار نافعاً، صار ربحاً. كما يقول الرسول بولس: “الحياة لي هي المسيح والموت ربح”. كيف يمكن أن يخطر ببال الناس أن يكون الموت ربحاً؟ بالإيمان، هذه هي الحقيقة أن الموت ربح. وإلا يكون مجيء الربّ يسوع، يكون مجيء ابن الله بالجسد مشروطاً ومحدوداً. لكنّ مجيء الربّ يسوع، مجيء ابن الله بالجسد، تخطّى كل الحدود وملأ الدنيا نوراً وملأ الدنيا حياة. حتى الموت صار ينضح حياة. كيف يكون هذا؟ كيف نختبر هذا؟ بالإيمان، بالتسليم ليسوع. هذا نتروّض عليه كل يوم. ثمّ الموت فرصة، لا بل الفرصة الأعظم لكي يسلّم الإنسان نفسه ليسوع. في يديك أستودع روحي. هذا عادة يأتي بعد مخاض. ولكن عند قوم يأتي في لحظة، والله علاّم القلوب، كما كان حال اللصّ الذي في لحظة، بكلمة تفوّه بها: “اذكرني يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتك”، سمع كلام الحياة: “اليوم تكون معي في الفردوس”.
إذاً، الموت صار له وجه جديد، صار للمؤمن للخير، للبركة، صار ربحاً، لم يعد خسارة، لا بل الخسارة الكبرى للحياة. الخسارة الكبرى للحياة أن يقيم الإنسان في خطيئته، أي أن يقيم بعيداً عن يسوع الذي هو الحياة ومعطي الحياة.
“فبرئتْ المرأة منذ تلك الساعة”. الله يعطينا هنا وهناك أمثلة عن قوم برئوا بالجسد، لكي نعرف أنّه قادر أن يبرئ النفس. لأنّ الإنسان طالما هو في الجسد، هو في حال ضعف، لا يفهم إلاّ من خلال الحسيّات. بحاجة دائماً لأن يضع يده كتوما. يريد أن يبصر، يريد أن يسمع. لذلك الطوبى للذين آمنوا ولم يروا. هؤلاء يطوَّبون. ولكن الله ينزل إلى مستوى ضعفنا. يكلّم كلَّ إنسان باللغة التي يفهمها. لا مانع عنده. في نفس الوقت يقول: “إلى متى أكون معكم، حتى متى أحتملكم”. وفي آن معاً: “قدّموه إليّ”. هذا قاله عن الولد الذي جاء به أبوه وكان فيه روح نجس. إذاً، الله يجعل نفسه دائماً في مستوى كل إنسان. ليس هناك إنسان واحد في الدنيا إلاّ ويجعل يسوع نفسه في متناوله. ليس شيءٌ يُبعِد يسوع عن أيّ إنسان في العالم إلاّ الكبرياء والخباثة. النفس الخبيثة المرائية، هذه بين يسوع وبينها جدار إسمنتيّ، لا يأتي هو من خلاله ولا يمكن لأحد أن يخترقه.
وانتهت قصّة المرأة ونعود إلى قصّة الرئيس. “وجاء يسوع إلى بيت الرئيس فرأى الزمّارين والجمع يضجّون”. لماذا يضجّون؟ الناس يَسكرون بالضجيج. يُنفِّسون عمّا يعتمل في قلوبهم من ضيقات. وأحياناً يكون الأمر تمثيلاً. هناك أناس يضجّون لأنّهم يختنقون في قرارة نفوسهم. يكونون بحاجة إلى الصراخ، إلى الضجيج ليعبِّروا. وهناك قوم يستصرخون أنفسهم تمثيلاً ليعطوا الانطباع أنّهم حزانى. وهذا يفعلونه دغدغة لمشاعر أهل الفقيد. “فقال يسوع: تنحّوا، إنّ الصبيّة لم تمت ولكنّها نائمة”. شيء جميل جداً أن نعرف أنّ يسوع ينظر إلى الموت باعتباره فعل نوم. ضحكوا عليه، الله دائماً يُضحَك عليه. كلمته يُضحَك عليها. الناس لا يصدِّقون، أحياناً كثيرة لا يصدِّقون إلاّ بعد فوات الأوان. الإنسان غالى في الابتعاد عن الله لدرجة أنّ الله صار أضحوكة له. “فلمّا أُخرِج الجمع دخل يسوع وأمسك بيدها فقامت الجارية”. الحياة هنا، يسوع، أنا هو الحياة. أمسك بيدها، أعطاها حياة. فقامت الجارية. الأمور بهذه البساطة، حتى نفهم أنّ يسوع يقيم كل نفس. لهذا قال: “مَن كان حيّاً وآمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد”. مَن كان حيّاً، مَن كانت عينُه عليّ وآمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد. طالما عيوننا مسمَّرة على يسوع فلا موت بعد.
في أخبار العديد من القدّيسين، هناك فرح يرافق الموت. كان الآباء، أحياناً كثيرة، يجتمعون عندما يسمعون أنّ إنساناً على وشك أن يغادرهم من الآباء. كانوا ينتظرون لأنّهم كانوا يريدون أن يشهدوا عمل الله السلاميّ في خروج النفس من الجسد. الله يكون حاضراً، والله يرطِّب النفس بطريقة أو بأخرى حتى يَسهُل على الإنسان أن يسلم نفسه لله وحتى يخرج بفرح.
“ذاع الخبر في تلك الأرض كلّها”، حتى وصل إلينا. المهم أن نتروّض على هذا الفكر كل يوم. المهم أن نحيا في مستوى هذا الفكر كل يوم. بعد ذلك تحدث الأعجوبة إذ يصبح ما قيل هنا حياة لكل واحد منا حين يقيم يسوع في نفوسنا، حين يمسكنا لا بيدنا بل بكياننا، ليقيمنا إليه في السكنى فيه، إلى حياة أبدية.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.
عظة ألقيَت في السبت السادس من متّى 9: 18 – 26 في 7 / 7 / 2007