في المرأة الخاطئة
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس آمين.
ودخل يسوع بيت الفرّيسي واتّكأ. اسم الفرّيسي كان سمعان. يسوع كان عارفاً به وبخطاياه. رغم ذلك لم يأنف منه. الربّ لصيق الخطأة حتى يخلصوا، فإنّه جاء ليخلِّص ما قد هلك.
“وإذا امرأة خاطئة في المدينة لما علمت أنّه متّكئ في بيت الفرّيسي جاءت بقارورة طيب ووقفت عند رجليه من ورائه باكية وجعلت تبلّ رجليه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب”. هذه امرأة خاطئة في المدينة. خطيئتها ظاهرة معروفة. كل الناس يلوكونها بألسنتهم. بعض الناس خطاياهم ظاهرة وبعضهم مستورة. أيّهما حاله أسوأ؟ مَن خطاياه مستورة طبعاً! صاحب الخطايا الظاهرة، هذا تحرّر من تمثيل دور الصالح بين الناس. يعرف نفسه أنّه إنسان خاطئ. معرفة النفس مدخل للتوبة عن الخطايا. أما مَن لا يعرف نفسه فيموت في خطيئته. هذه المرأة كلُّ شيء كان يحدِّث عنها أنّها خاطئة. إذاً لم تعد في الوهم. الخطيئة بكل ثقلها وبشاعتها كانت واقعاً يومياً معيشاً لديها. لذا انفتحت أمامها فرصة عظيمة للتوبة. الخطيئة متى عرفناها، على حقيقتها، متى أحسسنا بها، من كل أوجهها، باتت ولا أثقل ولا أبشع. إذا ما اعترف الإنسان بخطاياه أمام نفسه ما أمكنه أبداً أن يكون في وئام معها. فقط الذي يظنّ نفسه صالحاً، الذي يسلك في الوهم، هذا يتعاطى خطاياه ويبرّر نفسه ظانّاً أنّه يصنع شيئاً صالحاً أو مبرَّراً. حين تواجه الإنسانَ خطاياه بشكل صارخ نافر يرفضها. لا يظهر الشيطان، عادة، وجهاً لوجه. يأتينا، دائماً، متوارياً، بحلّة مجمَّلة، بحال من الرياء. يسعى إلينا بالخداع. والخطيئة، التي هي من الشيطان، أصلاً، تفعل فينا الشيء نفسه. تحاول أن تخدعنا دائماً. توحي بأنّنا، بإزائها، مبرَّرون. تقدِّم الخطيئةُ نفسَها وكأنّها ليست خطيئة. كأنّها وضع طبيعي. ولكنْ، إذا ما واجه الإنسان خطيئته، وجهاً لوجه، لا تعود مقبولة لديه البتّة. قد يستسلم لها عن يأس ولكن لا عن قناعة.
لما عرفتْ هذه المرأة خطيئتها وناءت تحتها نبذتها. نبذتها في قلبها ولو كانت مرغمة على أن تُسلم جسدها إليها… ثمّة واقع خانق كانت تعيش فيه، ولكنْ ثمّة موقف كياني أخذته من خطيئتها. بشريّاً، لم يكن بإمكانها أن تجسِّد هذا الموقف. لم يكن بإمكانها أن تسلك في العفّة. حتى لو فعلت الناسُ لا يصدِّقونها. يضغطون عليها، من حيث يدرون ولا يدرون، لتبقى زانية. وإذا كان الناس لا يصدِّقونها فإنّها تبقى، بشريّاً، محبطة.
كانت المرأة الخاطئة محبطة إلى أبعد الحدود. لذا جاءت وهي يائسة، بشريّاً، يائسة من إمكان تبرير البشر لها، يائسة من نفسها، بشريّاً أيضاً. جاءت إلى أين؟ إلى بيت الفرّيسي، الفرّيسي الذي همُّه أن يَظهر طاهراً، أن يقول الناس فيه حسناً. جاءت ولم تَعُدْ تُبالي. دخلت. ماذا سيفعلون لها لو دخلت؟ أكثر ما يمكن أن يفعلوه أن يخرجوها خارجاً. ما هَمَّ! هي خرجت من مجتمع الناس في كل حال. خرجت من قلوبهم. فإذا ما أخرجوها، في الجسد، إلى خارج فهذا ليس بشيء طالما كانوا قد أخرجوها كيانياً وقتلوها. رجموها بنظراتهم، بقساوة قلوبهم.
دخلتْ بيت الفرّيسي. دخلت ولم تعد ترى شيئاً. لم تعد ترى إنساناً. جاءت، فقط، لأنّها علمت أنّ يسوع كان هناك، في الداخل. رأته في نفسها. أحسّت بلاهوته لأنّها في الجحيم. الموجوع يحسّ بحضرة الله، ينجذب إلى حضرة الله كما لا ينجذب العاديّون لأنّه بحاجة إلى حنان. يعرف أنّ الربّ الإله هو ينبوع الحنان. دخلت حاملة معها قارورة طيب، عربون رجائها العَطِر. قارورة الطيب ثمنُها، في الدنيا، كثير. أما في عينها فلم يعد شيء ثميناً. كل شيء بات تراباً. واقعية الخطيئة دفعتها إلى الزهد الأقصى.
وقفت عند رجليه. الإنسان الذي يعرف أنّه خاطئ لا يقف عند الرأس. يقف عند الرِّجلَين. يقف من الوراء. يعرف أنّه غير مستأهل، غير مستحقّ. ينسحق. من ورائه. هذا ما يقابل الكلام عن العشّار الذي لما صعد إلى الهيكل وقف من بعيد ولم يرفع نظره إلى فوق.
إذاً وقفت من وراء يسوع وكانت تبكي. ماذا بإمكانها أن تقول! لم يَعُد الكلام يُجدي. الصمت أفصح. الدموع أبلغ. الكيان الذي يتلظّى ألماً يعبّر عن نفسه بالبكاء لا بالكلام. جعلت بكلام الدموع تحكيه لوعتها، تبلُّ قدميه وتمسحهما بشعر رأسها. كانت تفعل ما لا يفعله إنسان عاقل. هذا الجنون، بالذات، حين يتجلبب به الإنسان في حضرة الله، يصير حكمة عظيمة تقدّمنا إلى الله. المسيحية جهالةٌ في هذا الدهر. المسيحيّون زمرة مجانين إذا ما ثبتوا في حقّ ربّهم. هذه نظرة العالم لهم!
جعلت تبلّ رجليه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب. مسرحٌ سماوي! خير معلّم للإلهيات الألم. الألم يعلِّمنا كلّ شيء. يوقفنا، كيانياً، في حضرة الله، من حيث لا ندري. بالألم يتلو الإنسان لدى ربّه مزاميره الروحيّة!
“فلما رأى الفرّيسي الذي دعاه ذلك تكلّم في نفسه قائلاً: “لو كان هذا نبياً لعلم من هذه الإمرأة التي تلمسه وما هي. إنّها خاطئة”. الفرّيسي الذي خطاياه مخفيّة، وأول خطاياه وأعظم خطاياه قساوة قلبه. لكنّ الفرّيسي تهمّه المظاهر. مَن هو الذي تهمّه المظاهر؟ الذي لا يعرف نفسه أو الذي يعرف نفسه كَذِباً، أي على غير حقيقتها، الذي لا يعرف نفسه كيانياً. كلّنا يقول عن نفسه إنّه خاطئ، ولكنْ، مَن منا يُحسُ، في الحقيقة، بأنّه، كيانياً، خاطئ؟ كلّنا مستعدٌ، بسهولة، لأن يتمظهر بالاتضاع عساه به يتمجّد! كَذِبٌ على كذب!
قال الفرّيسي في نفسه ما قاله باستهزاء: “لو كان هذا نبيّاً…”. “لو كان هذا”. يتحدّث عن الربّ يسوع وكأنّه شيء، كأنّه السِقط، كأنّه مدّعٍ. دائماً الإنسان المتكبِّر يُهين الله في تدابيره. “لو كان هذا نبيّاً”… إذاً يسوع، في نظر الفرّيسي، جاهل، لا يعلم شيئاً. إذاً ليس هو بنبيّ. ويسوع كان عالماً بكل شيء. “فأجاب يسوع”، مع أنّ الفرّيسي لم يطرح عليه سؤالاً، ولكنْ ما دار في خلده كان سؤالاً قويّاً. “فأجاب يسوع وقال له: يا سمعان، عندي شيء أقوله لك. قال: قلْ يا معلّم”. منذ قليل قال عنه في نفسه: “هذا” وأنكر عليه النبوّة. وها هو الآن، لأنّه يتكلّم علانية، يتكلّم بلياقة: “قلْ يا معلّم”. الفرّيسي إنسان كذّاب، يعرف أن يرائي جيّداً. معلّم في الرياء. يسوع كان عالماً بكل ذلك وكان قابلاً به لأنّه كان يعرف ما في الإنسان. وهو جاء، في الأساس، لكي يعطي الجميع فرصة أن يخلصوا. لذلك لا مانع لديه أن يُهان. “ضَرْبُ الحبيب زبيب!” المجد لطول أناتك يا ربّ؟
قال يسوع: “كان لمداين مديونان”. كل الناس مديونون. “على أحدهما خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون”. ليس أحد في هذه الدنيا إلا أخطأ. “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله”. “وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما كليهما”. الله يعرف أنّه ليس لإنسان أن يعطي فكاكاً عن نفسه حتى لو كدّ إلى الأبد وعاش ما طال الأمد. لذلك يسامح. الله غفّار الخطايا. يقيم في قمامة البشريّة عساها تتنقّى. هكذا يتجلّى الخلاص، في أن الربّ الإله يسامح. “سامحهما كليهما، فقل لي أيّهما يكون أكثر حبّاً له”، الذي كان يظنّ أنّ عليه القليل أو الذي كان يعرف أنّ عليه الكثير؟ طبعاً الذي كان ينوء تحت ثقل خطاياه، تحت ثقل ديونه، هذا كان يعاني كلّ يوم. الخطيئة ولا أثقل متى ألحّت كل يوم. لذلك مَن أخطأ كثيراً وناء تحت ثقل خطاياه، هذا له فرصة، قد ينتفع منها وقد لا ينتفع، أن يتوب توبة عظيمة، أن يحظى برحمة عظيمة.
إذاً استبان الجواب. هذه المرأة التي كانت تنوء تحت ثقل خطاياها قد عبّرت عن محبّتها ليسوع لأنّها، في الحقيقة، لحظة وقفت من ورائه غُفرت لها خطاياها. الله لا يحتاج من الإنسان لأن يتكلّم بلسانه طالما هو علاّم القلوب. فلغة الكيان أبلغ. هذه تكلّمت لحظة وقفت من ورائه، لما شعرت بلاهوته يغسل خطاياها فاضت حبّاً فنزلت عند رجليه وسكبت الطيب ومسحت رجليه بشعرها وقبّلت قدميه. هذا كلّه عشق التوبة. هذا كلّه لأنّها أحبّت كثيراً. من أين جاءتها هذه المحبّة الفائقة؟ لاهوت السيّد انسكب فيها فتعطّرت بالحبّ وفاض عطر قداسة القدّوس فيها زكيّاً!
سمعان الذي ظنّ نفسه حكيماً قال: “فيما أظنّ الذي سامحه بالأكثر”. هذا يكون أكثر حبّاً له. المستكبرون دائماً ما يهمّهم أن يظهروا بمظهر الحكمة والعلم والفهم. لكنّ الربّ الإله هو الآخذ الحكماء بمكرهم. وقعتَ يا سمعان! لم يكن سمعان يعرف أنّ يسوع جعله، بهذه الطريقة، يلفظ حكماً على نفسه. خطيئته أدانته. فقال له: “بالصواب أجبت”. في الحقيقة، الله لا يحاكم أحداً. فقط يكشف للناس حقيقة ذواتهم، ثمّ، بعد ذلك، يجدون أنفسهم مدانين مما جنته أيديهم.
ثمّ التفت يسوع إلى المرأة… انتهى الأمر فيما يختصّ بسمعان. صدر الحكم عليه. معرفته كانت كافية للحكم عليه. التفت يسوع، إذ ذاك، إلى المرأة وقال لسمعان: “أترى هذه المرأة”. هذه، رغم كل شيء، هي إنسان وليست مجرّد كتلة لحمية. لم يقل له: “أترى هذه؟” قال له: “أترى هذه المرأة؟” لم يقل عنها إنّها خاطئة لأنّها باتت، في عينيه، مبرَّرة، لأنّها أحبّت كثيراً. أنا دخلتُ إلى بيتك، يا سمعان، وأنت لم تُعطِ لرجليّ ماء. ربما لأنّك كنت تشكّ فيّ، ربما لأنّ أفكاراً كانت تراودك أنّي لست بنبيّ، لم تستقبلني كضيف عزيز. ربما أردت أن تمتحنني. إذاً، أنتَ لست من سلالة إبراهيم الذي عرف أن يضيف الملائكة الثلاثة في القديم. وهذه المرأة، يا سمعان، التي تقول عنها “هذه”، مستخفّاً بها، بلّت قدميّ بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. في الحقيقة، لم يأت يسوع إلى هذه الدنيا ليَلقى كرامة من أحد. جاء ليقيم ضيفاً مستضيفاً للنفوس التعبة، النفوس المُضْنَكة. جاء ليقيم ضيفاً في هيكل الذين يعرفون أنهم خطأة ولا يستحقّونه. جاء من أجل الخطأة، من أجل الذين يعرفون أنفسهم أنّهم خطأة. لم يأت من أجل الأبرار، الذين يحسبون أنفسهم أبراراً. العشّارون والزناة يسبقونكم إلى ملكوت السموات. “أنت يا سمعان لم تقبّلني”. حسبتني غريباً عنك. “وهذه منذ دخلتْ لم تكفّ عن تقبيل قدميّ”. هذه لم تقبّلني فقط، قبّلت قدميّ في تنازل كبير، في انسحاق كبير. وأنت في تعالٍ كبير لم تقبّلني. أنت لم تدهن، يا سمعان، رأسي بزيت. لم تطيِّبني يا سمعان. أغدقتَ عليّ كلاماً مَلِقاً ظننتَه طيّباً، “أما هذه فدهنت قدميّ بالطيب”. لم تتفوّه بكلمة واحدة ولكنّها أغدقت عليّ من طيب قلبها. يقولون عن المرأة الشَرود إنّها تبيع جسدها بمال. إذاً المال هو المحتَسَب عزيزاً عليها. لكنّها هنا تسكب عزيز الناس على قدميّ السيّد سكباً. لذا بات السيّد لديها الأعزّ. لأجل ذلك، يا سمعان، أقول لك إنّ خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنّها أحبّت كثيراً. الله غفر لها سلفاً فأحبّت، فأعلن الربّ يسوع أنّها لأنّها أحبّت غُفِرَت خطاياها الكثيرة. كأنّ الربّ الإله الذي يجعل محبّته في الناس يتوارى ولا يدّعي أنّ هذه منه، أنّ المحبّة هي من الله، بل منهم هم مع أنّ القول الكتابي هو أنّ المحبّة هي من الله. الله يمّحي بإزاء الذين يمّحون. كل شيء له يصبح لهم. ولأنّها أحبّت كذلك أنا أعلن أنّ خطاياها الكثيرة قد غُفِرَت لها. ثمّ قال: “مغفورة لكِ خطاياك”. أعطاها صكّاً بذلك أمام الجميع حتى يتعلّم الجميع أن لا يدين أحدهم الآخر. “مَن أنتَ يا مَن تدين عبد غيرك. هو لمولاه يثبت أو يسقط، والله قادر أن يثبّته”. هذه المرأة اعتُلنت اليوم، والربّ الإله أَعلنها، قدّيسة في كنيسته.
“فجعل المتّكئون معه يقولون في أنفسهم: مَن هذا الذي يغفر الخطايا أيضاً”. تبقى قلوب الناس في هذه الدنيا طالما لم يخرجوا من خطاياهم. يبقون في ثرثراتهم. يثرثرون في شأن الله إلى ما لا نهاية. أما يسوع فله كلمة واحدة. قال للمرأة: “إيمانكِ خلّصكِ. اذهبي بسلام”.
وأُسدل الستار وانتهى العشاء الأرضي إلى المائدة السماوية.
عظة أُلقيت في دير مار يوحنا – دوما في عيد القدّيسة أوفيميا في 16 أيلول سنة 2006