الأب الروحي الشهيد الجديد
الكاهن سرجيوس ميشيف
نقلها إلى العربية بتصرف الأب أثناسيوس بركات
فُجع الآلاف، سنة ۱٩٢٣، بموت الرائي شيخ موسيو المتقدم في الكهنة ألكسي ميشيك. لكنه لم يترك أبنائه يتامى. فالعديد قد اكتشفوا في ابنه وريثاً كاملاً له.
كانت رعية القدّيس نيقولاوس في ماروسايكا Maroseyka، التي يخدمها راعيهم الأب اليكس، ما تزال صغيرة عندما وُلد كاهن المستقبل سرجيوس الشهيد الجديد، في السابع عشر من أيلول سنة ۱٨٩٢. لقد كان الولد الرابع في بيت فقير الحال ضاق بمن فيه. وقد أثّر نقص الطعام المستمر على نمو الولد الضعيف. لكنه كان ذا شخصية وإرادة قويّتين ورثهما عن والدته آنّا باتروفنا. كان موتها، سنة ۱٩۰۱، قاسياً عليه، لكن علاقته الوثيقة بوالده عوضت عنه، وقد أثّر فيه والده بحنانه. فقد استمر بمخاطبة ولده في رسائله، إلى سنين خلت، مشدّداً إياه وموقّعاً تلك الرسائل بـ”قبلات عديدة من أبيك “البابا” الذي يحبك”. رأى الأب ألكسي في ابنه خليفة له، لكنه شعر أن على الصبي أن يختار طريقه بنفسه. ولهذا السبب استنكف عن إرساله إلى مدرسة إكليريكية تابعة للأبرشية، حيث يُتوقّع من الطلاب أن يصبحوا كهنة. عوضاً عن ذلك، تلقى سرجيوس دراسته في مدرسة عادية وتلقى تهيئته الإكليريكية في البيت والكنيسة، وبشكل أساسي من خلال ملاحظة والده في الهيكل. عند التخرّج، حقق حلماً بقيامته برحلة إلى الخارج، إلى سويسرا وإيطاليا، عاد منها وانضم إلى الجسم الطبي في جامعة موسكو. رغم انتقاله، لاحقاً، إلى قسم الفلسفة، فإنه اكتسب معرفة كافية ليعمل ممرضاً في الخطوط الأمامية خلال الحرب. هناك التقى بزوجته المستقبلية إفروسينيا نيكولايفا وتزوجا سنة ۱٩۱٨. لم يكن الأب سرجيوس قد قرّر حينها الدخول في سلك الكهنوت، إنّما كان ناشطاً في الكنيسة. شارك في حلقة دراسة لاهوتية ودرس الآبائيات بشغف. ثم عمل كعضو في هيئة تألفت للتفاوض حول العلاقات مع الحكومة الجديدة، ما أدخله في احتكاك مع البطريرك تيخن الذي كان مولعاً به، وقد حثّه البطريرك على أن يصبح كاهناً. لكن قراره أن يصبح كاهناً استوحاه من نقاش مع الشيخ أناتولي الذي في أوبتينا في خريف سنة ۱٩۱٨. في نيسان اللاحق، يوم الخميس العظيم، سامه الأسقف ثيودور بوزديف في دير القديس دانيال.
خدم الأب سرجيوس في كنيسة ماروسايكا Maroseyka إلى حين اعتقاله في تشرين الثاني سنة ۱٩٢٩. مثل العديد من الكهنة، لم يعلم بتصريح الميتروبوليت سرجيوس سنة ۱٩٢٧، الذي جعل الكنيسة بشكل جوهري تحت سيطرة الحكومة. اتُّهم بترؤسه كنيسة سرّية مناهضة للثورة، وحُكم عليه بالنفي ثلاثة أعوام إلى أقصى الشمال قرب أركانجلسك. أفلحت خوريّته بالقيام بزيارة له بمعية اولادها الثلاثة. وقد بقي على اتصال مع أبنائه الروحيين، مراسلاً إياهم شخصياً وموجّهاً خمس رسائل لهم مجتمعين وقد حافظوا عليها.
تلا ذلك توقيف آخر في آذار سنة ۱٩٣٤ مع حكم بالسجن لخمس سنوات. أمضى بضعة سنوات مختبئاً، متنقلاً من مكان لآخر قبل أن يوقَّف أيضاً. أفادت ابنته الروحية التي سجن معها بأنه من المؤكد تمّ تصفيته في أوائل تشرين الثاني تقريباً سنة ۱٩٤۱. يتم الاحتفال بذكرى استشهاده في التاسع من كانون الأول. لقد انضم الأب سرجيوس إلى مصافَ الشهداء الروس الجدد بسبب ثباته في أمور الكنيسة. على أي حال، تبقى شهرته الأساسية بسبب مهارته الرعائية. رعية ماروسايكا هي الوحيدة في موسكو التي نشأت في توجه ديري داخلي. غالباً ما كان الأب ألكسي يقول بأن مهمَّته تكوين “دير في العالم”، ويعني به رعيّة أو عائلة موجهّة نحو الهدف نفسه الذي للدير أي القداسة والتألّه. حافظ ابنه الأب سرجيوس على المبدأ نفسه رغم أنه، لاحقاً، توقّف عن التكلّم عن الرعية كـ”دير في العالم”. عوضاً عن ذلك، أخذ الأب سرجيوس من الكنيسة الروسية القديمة تعبير “العائلة التائبة”، فكان يسمّي رعيته “العائلة الليتورجية التائبة”، وكانت تستحق هذا الاسم. كونه مسؤولاً روحياً، جاهد ليرعى قطيعه زارعاً فيه روح التوبة، مشجعاً على الاستمرار في حضور الخِدم الكنسية التي اعتبرها أفضل مدرسة للتقدم في الحياة الروحيّة. الاقتباسات التالية تشهد على مقاربته تلك.
الأب سرجيوس كأب معرّف
ذَكَر الأب سرجيوس: “لم أنوِ أن أصبح أباً روحيّاً. أردت أن أصبح واعظاً”. مع ذلك، ومن أول أسبوع في كهنوته، أصبح لديه أبناء روحيون.
فالذين عرفوا أباه الأب ألكسي، كانوا دائماً متفاجئين من أبناء كنيسة ماروسايكا الذين شاؤوا أن يعترفوا ويستشيروا الاب سرجيوس بدلاً من والده الأب ألكسي الذي امتلك فيضاً من نعمة الرؤيا. بعض الناس كانوا يخافون من قداسة الأب ألكسي وبصيرته إذ كانوا يعتبرون أنفسهم غير مستحقين لأن يكونوا أبناءه الروحيين ويضيّعوا وقته، كونه كان دائماً محاطاً بالناس. على أن الأب سرجيوس لم يكن، في ذلك الوقت، مشغولاً كثيراً، وفي بداية خدمته الرعائية كان بمستطاعه إعطاء كثير من الوقت والانتباه لأبنائه الروحيين. كان يُعرِّفهم باستمرار ويتابع نموّهم بمساعدة يوميات يكتبها ناصحاً إياهم بالالتزام بها مما يبني مميزات شخصياتهم ويوقف خطاياهم “المفضلة” وأهواءهم التي يجب أن يُجاهدوا ضدّها بشكل خاص.
لكن، إلى هذا، من الواضح أن الناس انجذبوا إلى الاب سرجيوس بسبب ما كان عليه من إيمان قوي ومحبّة للكنيسة كما وبسبب خِدَمِه الإلهيّة العميقة والمؤثّرة. امتلك الأب سرجيوس صفات أب روحي قَيِّمة. كان له ضمير صحيح صارم لا يُرتشى، وصدق نادر بعيد عن كل اصطناع، ذهنه عميق وقلبه حسّاس لكل ما هو جميل. كان دائماً متحمساً لمعرفة تعاليم الآباء بخصوص المسلك الروحي، وراغباً بكل ما هو حسن. كما كان ذا مقدرة – ورثها عن والده- على تمييز، ليس فقط الأمور الروحيّة، ولكن الأمور الدنيويّة أيضاً. أخيراً، كان رفيقاً سريع التجاوب مع عذابات الآخرين. لقد اكتسب بكل بساطة بسب…
كونه كاهناً شاباً، كان الأب سرجيوس بشوشاً. كان يحب المزاح ويمرح جيّداً مع أولاده الروحيّين. أحياناً كان يشاكسهم ممازحاً ومطلقاً عليهم ألقاباً طريفة. لكنه حافظ دائماً على مسافة معيّنة. كان مميزاً بأنه لم يسمح لنفسه بمخاطبة الفتيات بالعبارة المألوفة “أنتِ”.
لم يكن الأب سرجيوس يسمح بأي رياء أو تنازل عن الحقيقة، وكان يطلب الشيء نفسه من أبنائه الروحيين، ملقّناً إياهم درسه هذا عن طريق الكلام أو المثال. لم يحبْ إظهار التواضع سواءً بالكلام أو التصرّف. كما لم يكن يحب أن يظهر أولاده الروحيون بمظهر الرهبان. لقد أرادهم أن يُجاهدوا روحيّاً للوصول إلى المثال الديري، أي المثال المسيحي: توبة حقيقيّة، صلاة مستمرّة، ويقظة في الذهن والضمير. أيضاً كان يعلمهم ألاّ يكون الخوف محركهم للعمل بل الضمير، وأن يكونوا في البيت والعمل مستقيمين أمام الرب.
لم يكن الأب سرجيوس ينصح أبناءه الروحيين بالممارسات الجسديّة الصعبة في الصلاة، كما لم يكن يفضّل قوانين الصلاة الطويلة للضعفاء أو المرضى أو الذين أصحاب الحماس الأعمى بدون تمييز.على أي حال، كان يطلب من كل شخص أن يُتمَّم النظام المعتدل الذي كان يعطيه في الصوم والصلاة بدون كسل، وذلك استناداً إلى أقوال الآباء بأنَّ النظام المعتدل الذي يُتمَّم بثبات له قيمة كبيرة.
وعندما يتعلّق الأمر بمرض أو مشاكل شخصيّة عند أبنائه الروحيين، كان الأب سرجيوس، رغم صرامته، متعاطفاً بعمق. وكان يحاول تسوية كل شيء: إيجاد طبيب، دواء، وحتى مساعدة ماديّة صرفة عندما يكون الأمر متاحاً له، مع أن هذه الإمكانيّة كانت محدودة جداً في السنوات الأولى.
اعتبر الأب سرجيوس أن أساس حياة أبنائه الروحيين هو الخِدم الكنسية، وكما الأب ألكسي، شدّد بقوّة على تناول الأسرار الطاهرة باستمرار وعلى تنقية الذهن عبر الاعتراف المتأني والتام. إذا ما كانت التوبة الواجب الأول في المسيحيّة، فإن الاعتراف هو الخطوة الأولى على طريق التوبة.
تكلّم الأب سرجيوس باستمرار عن ذلك وأَوْلى انتباهاً لصلاة الكاهن على رأس المعترف: “أيها الرب الإله، يا مخلّص عبدك (فلان)، أظهر له رحمتك ووطده في طريق التوبة… ضمّه ووحده في الكنيسة المقدّسة…” كان الاب سرجيوس يعطي أهميّة كبيرة لهذه الكلمات عندما ينطق بها في سرّ الإعتراف.
بعض أفكار الأب سرجيوس بخصوص الاعتراف
“أين تكمن أهميّة سرّ الإعتراف؟ لقد أعطانا الله كلّ شيء. كلّ الأسرار، المعموديّة، الميرون، الإفخارستيّا، كلّ هذا أُعطي من قبَل الله، وليس لنا علاقة به. ولكن في سرّ الاعتراف لنا دور رئيسي، إنها هديّة نجلبها لله: “يا رب، تقبّل مني هذا الحمل الثقيل من الخطايا”. لا يستطيع الله مساعدتنا من دون مساهمتنا نحن”.
“يدعونا الله إلى التوبة. حينها يتعلّق الأمر بنا من أجل معرفة أنفسنا وخطايانا، قبل كل شيء”.
“كل شخص يكون متملّكاً من هوى ما، ما يعطي دفعاً للخطيئة. يجب علينا العمل لاقتلاع هذ الهوى من جذوره. الاعتراف هو قول ما يشكل حملاً ثقيلاً بالنسبة لنا، على أن التوبة يجب أن ترافقنا كل أيّام حياتنا”.
“لا يهم أن أعترف بالخطيئة نفسها في كلّ مرّة. إنه مجرّد أمر طبيعي. في النهاية، عندما يكون لأحدهم قلباً عليلاً، سوف يذهب إلى الطبيب باستمرار وهو في الحالة نفسها. ما يهم أنه يجب أن يكون هناك تقدّماً”.
“ليس ما يفرح الأب الروحي أكثر من كونه يستطيع مساعدة ابنه (أو ابنته) الروحي. لهذا السبب، من الهراء أن نكون خجلين من الاعتراف بخطيئتنا، إنه شعور خدّاع بالخجل. من المخجل أن نخطئ، لكنه ليس من المخجل بشيء أن نريد الشفاء من علّتنا. سوف ينشأ حينها رابط روحي حقيقي مع أبينا الروحي، عندما تنطرح روحنا عارية أمامه، وعندما يشعر بأن له دور للمساعدة”.
كان الأب ألكسي والأب سرجيوس كلاهما يناهضان الاعتراف الجماعي الذي اعتبراه مضرّاً، وكان يقول “كان الأب (القدّيس) يوحنّا كرونشتاوت قادراً على إقامة إعترافات عامة لأنه كان قادراً على رؤية نفس الإنسان مباشرة من الداخل، ولم يسمح لغير المعترفين من التقدّم إلى الكأس المقدّسة. لكننا نحن لا نستطيع فعل ذلك. في الاعتراف العام تبقى الخطيئة مع الإنسان. مرّة أتى أحدهم إليَّ قائلاً بأن خطيئة محدّدة قد عذّبته لستّ سنوات. “كم مرّة تتناول؟”. “كلّ أحد”. “وهل اعترفت؟”. “إعترافاً عامّاً”. عندما قام الرجل باعتراف حقيقي تخلّص من حمله الرهيب”.
“لماذا هو ضروري الاعتراف أمام الكاهن، وليس بكل بساطة أمام الله؟ لأن جوهر الإعتراف هو معاناة المعترف ومشاركته الكاهن بهذه المعاناة”.
“يأتي الكثيرون للاعتراف بقلوب باردة. يُحصون خطاياهم بهدوء، كما لو كانوا يتكلّمون عن أمر غريب عنهم. وهنا صبي يأتي ويبكي ثم يبكي لأنه أخذ قطعة الحلوى التي لشقيقه. أحبائي، هكذا يجب علينا أن نعترف.”
“التوبة، على أي حال، لا تقوم على الإحساس بالأسف وذرف الدموع أثناء الإعتراف ثم بالاستمرار في التصرّف نفسه. يجب أن نشعر بالأحرى أننا خطأة كبار أمام الله. يجب أن يكون لدينا نوح مستمرّ على خطايانا، وهذا النوح لا يحتاج بالضرورة إلى دموع منظورة”.