برّية التجربة
الأرشمندريت توما بيطار
… وأُخرج يسوع إلى البرّية من الروح ليُجرَّب من إبليس. مَن الذي أخرجه؟ الروح! أيّ روح؟ روح الربّ طبعاً! الربّ الإله هو الذي يأخذ المبادرة دائماً. لا شيء يحدث إلاّ بإذنه ووفقاً لتدابيره لأنّه الضابط الكل.
أُخرج إلى البرّية. لماذا لم يبق في الناصرة؟ أما كان يمكن أن يُجرَّب في الناصرة؟ بلى! لكن المعنى، كما يبدو، هو أنّ يسوع أراد أن يواجه إبليس وجهاً لوجه في عقر داره، في البرّية، حيث لا حياة ولا تعزية. يسوع، بدخوله البرّية، دخل، إرادياً، في دائرة التخلّي الإلهي التدبيري. كان مُفرَغاً من كل عون إلهي، من كل تعزية من فوق. طبعاً حين يتوارى الربّ الإله، حين يتوارى روح الربّ تدبيراً، يُخلى المكان لإبليس. ليس بإمكان إبليس أن يملأ مكاناً يملأه الله. إبليس يهرب من حضرة الله لأنّ حضور الله حجيمُه. لهذا يعرف الربّ الإله جيِّداً كيف يُدخِلُ إبليسَ إلى المواضع التي لا يشاء إبليس أن يكون فيها. الموضوع هو موضوع حضور الله أو غيابه. حين يُغيِّبُ الربُّ الإله نفسَه إرادياً وتدبيرياً، ويبقى حضوره سرّياً، يُجبِر إبليس على دخول المكان الذي أخلاه له، وتالياً على تحقيق المقاصد الإلهية، من حيث لا يدري. أجل، يا إخوة، إبليس يتمِّم المقاصد الإلهية عن غير إرادة منه. الربّ الإله يعرف جيِّداً كيف يحرِّك الأبالسة ولكن لخير الذين يحبّونه.
وصام يسوع أربعين يوماً. الأربعون عدد كامل وصيام يسوع كان كاملاً. نحن لا نعرف، تماماً، حدود الإنسان في صيامه. الموضوع، هنا، ليس، بالضرورة، بلوغ البَشَرة حدَّها الأقصى من التحمّل، بل بلوغ الربّ يسوع الإنسان تمام القصد الإلهي.
أخيراً جاع. هل يعني هذا أنّه لم يَجُعْ خلال الأربعين يوماً؟ أغلب الظنّ أنّه جاع، لكنّه، هنا، بلغ حدّاً من الجوع صار بإمكان إبليس معه أن يتقدَّم منه مجرِّباً. هناك حدّ من الضعف البشري يكون حَرِجاً. هذا يبادر إبليس إلى استغلاله.
الربّ الإله، إذاً، يتركنا، تدبيراً، إلى الحدّ الذي يعرف أن الإنسان فيه يبلغ مفترق الطرق في مواقفه. لماذا؟ لأنّه، إذ ذاك، يستبين ما إذا كان إيمانُه بالله حقيقياً كاملاً أم لا. فإما يُسلِمُ نفسه لله، وهو في الضعف الكبير، أو يسقط في فخّ إبليس.
فدنا إليه المجرِّب وقال له: “إن كنتَ ابن الله فمُرْ أن تصير هذه الحجارة خبزاً”. أراد المجرِّب أن يُخرج الربّ يسوع من صمته. الربّ يسوع كان مستعداً لأن يُمسِكَ نفسَه عن طلب أي شيء لنفسه إلى المنتهى. كان يعرف جيِّداً أنّ الأمور، عند الله، تتمّ في أوانها. كان في التسليم الكامل. لو كان الربّ يسوع، هنا، ليأمر بأن تصير هذه الحجارة خبزاً، لكان سقط ولمّا يَعُدْ في التسليم الكامل لله. لهذا كان جوابه: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله”. هذا يدلّ على أنّ كلمة الله أُعطيت لتكون لنا سنداً في الوقت المناسب، لتكون لنا هدياً ونوراً، قُبْساً من حضور الله متى جُرِّبنا. هنا أَبْرَز الربُّ يسوع الكلام الإلهي وحقَّقه مثالاً لنا. كل الكلام الإلهي برسم التحقيق. لو لم يشأ الربّ الإله أن يتمثّل الإنسانُ الكلامَ الإلهي لما تفوَّه به أصلاً. والحدُّ هو أن تصير كلمةُ الله هي الخبزَ النازلَ من فوق. هذه صورة عن ابن الله المتجسِّد، وهو كلمة الله، الذي يُعطي جسدَه خبزاً جوهرياً حتى يأكل منه الإنسان ولا يجوع بعد. الكلمة، هنا، في الحقيقة، إشارة، في آن، إلى الوصيّة وإلى جسد الربّ يسوع. باتّباع الوصيّة نأتي إلى الإغتذاء بجسد الربّ يسوع. اتّباع الوصيّة يرسِّخ فينا الطاعة لله والطاعة لله تدخلنا في شركة معه.
حينئذ أخذه إبليس إلى المدينة المقدّسة وأقامه على جناح الهيكل. هناك قال له: إن كنتَ ابن الله فأَلْقِ بنفسك إلى أسفل لأنّه مكتوب أنّه يوصي ملائكته بك فتحملك على أيديها لئلا تصدمَ بحجرٍ رِجْلَكَ. هنا يحاول إبليس أن يوقع الربَّ يسوع بكلمة الله عينها. يحاول أن يستعمل سلاحه ضدّه بالحيلة. الشيطان يحاربنا بما عندنا. الذين لا يعرفون كلام الله يسعى إلى الإيقاع بهم من دون كلام الله. والذين يعرفون كلام الله يسعى إلى إيقاعهم به وهو الخبير بِلَيّ الأمور وإفسادِها.
أراده إبليسُ أن يُلقي بنفسه إلى أسفل. لماذا؟ لأنّه يعرف أنّ عند الإنسان ضعفاً وأنّه معرَّض، في سعيه إلى ربّه، لأن يُجرِّب ربّه ليتأكّد من أنّ سعيه في محلّه وأنّ الله معه فعلاً. كأنّنا بالشيطان يحاول أن يجعل علاقة الإنسان بالله أدنى إلى السِحر. حين يتعاطى الإنسان السِّحر، يطلب أن يكون الشيطان في خدمته. والشيطان يسهِّل له الأمر خداعاً. السبب أنّه بإيهامه الإنسان أنّه في خدمته يرسِّخ علاقة هذا الأخير به واعتماده عليه. وإذ يفتح الإنسان كيانه للشيطان يسيطر الشيطان عليه. إذاً الشيطان، هنا، في الحقيقة، يعبِّر عن فهمه للأمور ويعمل على تحويل علاقة الإنسان بالله إلى علاقة إبليسيّة. لا، ليس الله رهن إشارة أحد وليس خادماً لأهواء الناس. ليس بين أيدينا. نحن بين يديه!
لهذا ردّ الربّ يسوع على محاولة إبليس دعم موقفِه الموارب بكلام من الكتاب المقدّس، أقول ردّ الربّ يسوع بكلام واضح صريح: “لا تجرِّب الربّ إلهك”، أي ليس الله مَن تتعامل معه وكأنه سلعة بين يديك. نحن لا نطلب من الربّ الإله، في الحقيقة، إلاّ ما هو من ضمن إرادته في خطّ ما قاله الحبيب يوحنا في رسالته الأولى: “وهذه هي الثقة التي لنا عنده أنّه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا” (5: 14).
إذ ذاك أخذ إبليسُ الربّ يسوع إلى جبل عالٍ جداً وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له: أُعطيك هذه كلّها إن خررتَ وسجدتَ لي.
طبعاً هذا الجبل العالي جداً لا وجود مادي له. وجوده، بالأحرى، رؤيوي. بجعل الشيطان يسوعَ يرى جميع ممالك العالم ومجدها استبان هاجس الشيطان على حقيقته. فبالنسبة للشيطان الموضوع هو موضوع سلطان ومجد وسيطرة على العالم. هكذا يحقِّق الشيطان ألوهيّته، بمعنًى، في تعاطيه مع العالم. يحاول أن يُغري يسوع بما يعتبره هو أعظم القيم. يحاول أن يغريه، في الحقيقة، كإنسان. الإنسان، بعدما سقط، دخل في دائرة الاهتمام بالسلطة، كأداة للسيطرة، على غرار إبليس. لهذا يدفعه إبليس إلى طلب السلطة والسيادة لأنّه يعرف أنّه لا بدّ للإنسان، في نهاية المطاف، من أن يخرّ للشيطان ساجداً، إذا ما طلب سلطة لنفسه لأنّ الشيطان أمير هذا الدهر.
كل إنسان، في الحقيقة، إذا كان يطلب السيادة لنفسه في هذا الدهر، لا بدّ أن يجد ذاته، من حيث يدري ولا يدري، خادماً لإبليس. لا بدّ له أن يوجد خادماً لمرامي إبليس. لهذا لم يشأ الربّ الإله لنا أن نكون، كمؤمنين، أسياداً في هذا العالم. يريدنا أن نكون خدّاماً. “أنتم تعلمون أنّ الذين يُحسَبون رؤساء الأمم يسودونهم وأنّ عظماءهم يتسلّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل مَن أراد أن يصير فيكم عظيماً يكون لكم خادماً…” (مر 10: 42 – 45). الربّ يسوع نفسه أتى خادماً لا مخدوماً. أتى عبداً لله لا سيِّداً. “لا تدعوا لكم سيِّداً على الأرض”. فقط بروح الخدمة ينجو الإنسان من تجربة إبليس الكبرى، أي تجربة السلطة. إذا كان الناس يتهافتون، في العالم، على تبوّء المناصب والسلطات فما ذلك إلاّ لأنّ نفوسهم مشبعة بالأهواء النكرة. ولأنّ الأمر كذلك، ولو حاولوا أن يتظاهروا بمظهر الخدّام وأن يوهموا سواهم بأنّ غرضَهم خدمتُهم، فهم، في نهاية المطاف، يقدِّمون للناس خدماتٍ مغروضةً وقصدُهم، في الحقيقة، أن يكونوا في موقع السلطة والسيطرة على الآخرين. هم يستعبِدون، في العمق، سواهم لأنّ خدماتهم ليست قائمة على أساس محبّتهم المجّانية لهم بل على أساس مصالحهم الخاصة. الساعون وراء السلطة، في هذا الدهر، يريدون الناس أن يخرّوا ساجدين لهم لأنّهم، هم أنفسهم، يخرّون ساجدين للشيطان. وهم يخرّون ساجدين له حين يتخلّقون بأخلاقه فيتظاهرون بأنّهم خدّام فيما يلتمسون، في العمق، نشوة الخطيئة التي ما بعدها نشوة، أي نشوة السلطة.
جواب الربّ يسوع على هذه التجربة الأخيرة، تجربة السلطة، كان، “إذهب خلفي يا شيطان، فإنّه قد كُتِب: للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد”. السيادة هي لله أوّلاً وأخيراً. حتى ما يظنّه إبليس مَوقِعاً سيادياً له يخدم، من حيث لا يدري، مقاصد الله وسيادته، لأنّ الله هو “الآخذ الحكماء بمكرهم”.
أن نسجد لله معناه أن نعبده. وأن نعبده معناه أن نستعبد أنفسنا له، عن إرادة. وأن نستعبد أنفسنا له معناه أن نحبّه. وأن نحبّه معناه أن نطيعه. وأن نطيعه معناه أن نسمع كلمته. وأن نسمع كلمته معناه أن نتمثَّل به. هو سلك كعبد يهوه، نحن، أيضاً، علينا أن نسلك كعبيد ليهوه. هو سلك باعتبار أنّه لا مطرح له يسند إليه رأسه على الأرض، نحن، أيضاً، علينا أن نسلك باعتبار أنّه ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية. هو لم يسلك كسيّد. نحن، أيضاً، لا يجوز لنا أن نسلك كأسياد. هو لم يستعبد أحداً بل جعل نفسه عبداً للجميع. هو جاء ليخلِّص ما قد هلك. جاء ليغسل أقدام الناس للخلاص. نحن، أيضاً، خليق بنا أن نتشبَّه به، أن نسلك كما سلك هو طالما أعطانا نفسه مثَلاً وقدوة. كل هذا وما ينتمي إليه، إذا ما فعلناه، نكون، عن حقّ، من الذين يسجدون للربّ الإله ويعبدونه، وإيّاه وحده. لا حقّ للإنسان المؤمن أن يكون سيِّداً أو متسلِّطاً، في هذا الدهر، بحجّة أنّه يريد أن يكون خادماً ليسوع في أمور العالم ويسمّي نفسه كذلك. محبّة السلطة تنفي خدمة الربّ يسوع. حتى لو بنينا مؤسّسات عظيمة على اسم الربّ يسوع، ولو استعملنا اسمه، في كل حال، لا نكون له خدّاماً طالما نحن نسعى إلى سلطة وقوّة ومجدٍ من هذا الدهر. نحن، والحال هذه، نستغِّل الاسم القدّوس لنبني لأنفسنا أمجاداً وسلاطين. نحن، والحال هذه، نكون خدّاماً لإبليس في مظهر خدّام يسوع. لهذا قال الربّ يسوع لليهود: “أنتم من أب هو إبليس وأعمال أبيكم تعملون”. هذا علماً بأنّ اليهود كانوا يتكلّمون باسم الله ويدّعون أنّ لهم أباً واحداً هو الله ويغارون على الناموس والأنبياء. لكن هذا كلّه كان، في الحقيقة، ادّعاء ورياء.
بعدما عبر يسوع بهذه التجارب، التي تختصر كل تجارب إبليس للإنسان، جاءت الملائكة وصارت تخدمه. لم تأتِ الملائكة عندما كان، بعدُ، في المواجهة، بل بعدما أسلم نفسه، بالكامل، لأبيه السماوي متمسِّكاً بالكلمة إلى المنتهى. فقط إذ ذاك انصرف عنه إبليس. لم يجد إبليس مكاناً لنفسه فيه. عندئذ جاءت الملائكة وصارت تخدمه. وهي ستخدمنا أيضاً، في كل حال، إذا ما عرفنا أن نستخدم أنفسنا لله وأحبّته في هذا العالم. الخدمة تستدعي الخدمة. البرّية طريقنا إلى الفردوس. هذا هو سبيلنا إلى سيادة حقّانية على مثال سيادة الله، آباً وابناً وروحاً قدُساً، تمجَّد اسمُه كل حين، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.
عظة أُلقيت يوم السبت بعد عيد الظهور الإلهي، في 10 كانون الثاني 2004