الشهادة للحق خلاص مصلوب
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
… أخيراً قطعوا رأس يوحنا المعمدان. ذَنْبُه أنّه قال الحقّ! كان مزعجاً. كان مقلِقاً. الحقّ دائماً مزعج، الحقّ دائماً مقلِق لمَن يحبّون الباطل.
قرَّع يوحنا الملك. قال له: لا يحقّ أن تكون لكَ امرأة أخيك! كان هيرودس قد انتزع من أخيه فيليبس امرأته برضاها. شعر الملك بالمهانة. رغب في أن يفتك بيوحنا، ولكنْ كانت له حياله مشاعر متضاربة. رأى فيه إنساناً نبيّاً مقتدراً. خاف من الناس. لهذا اكتفى بحلّ وسط. ألقى القبض عليه. ضبطه في السجن. أراد أن يُسكت الصوت الذي قرّعه لأنّه لم يكن مستعداً أن يتوب.
ما يهمّ الناس الذين تتحكّم بهم شهواتهم أن يظهروا بمظهر لائق. كلام الناس يزعجهم. ولأنّهم لا يشاؤون أن يتغيّروا يُرهبون الناس بما أوتوا من سلطان.
الأسباب التي أدّت إلى قطع رأس يوحنا المعمدان تعدّدت.
أوّل الأسباب، كما أبنّا، أنّه قال الحقّ. الحقّ في هذا العالم ثقيل. أكثر الناس لا يَقبلون. لذلك الحقّ في هذا الدهر دائماً مضطهَد. لهذا صُلب يسوع. ولهذا نبّه يسوع: “إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضاً”. على كل مَن أراد أن يتمسّك بالحقّ أن يُعدّ نفسه للاضطهاد. والمفارقة أنّه رغم كل الاضطهادات التي يتعرّض لها محبّو الحقّ فإنّ الحقّ لا زال إلى الآن موجوداً. لا زال إلى الآن هاجساً. الخراف تُنحَر كل يوم. الذئاب تفتك بالخراف. ومع ذلك لا زالت هناك خراف. المسيح هو حَمَل الله ونحن قطيع المسيح. والمسيح قام.
مشكلة يوحنا أنّه رفض أمرَين في شأن الحقّ: أن يسكت وأن يساوم. لم يشأ أن يكون سياسياً، كما يشتغل السياسيون في هذا الدهر. ولم تكن له لباقة الدبلوماسيّين. تكلّم وتكلّم ببساطة ووضوح نفّاذ وحدّة جارحة.
القدّيس يوحنا الحبيب في رسالته الأولى قال إنّ العالم كلّه قد وُضع في الشرّير. هذا لا يعني أبداً أنّه لم يعد هناك مكان للحقّ في هذا الدهر، بل أن الشيطان هو أمير هذا الدهر، وهو يستعمل كل سلطة وكل قوّة وكل حيلة ليتخلّص من الحقّ ومن شهود الحقّ. رغم ذلك، الله حاضر، الله فاعل. لذلك لا يقوى الشرّير على الحقّ بالمطلق ولا على شهود الحقّ. لا يحسب شهود الحقّ حساباً لما يمكن أن يلحقهم من أذى لتمسّكهم بالحقّ لأنّهم يعرفون سلفاً أنّهم لا يدخلون ملكوت السموات إلاّ بضيقات كثيرة. يعرفون أيضاً أنّ صليبهم في الحقّ هو مؤشّر خلاصهم، وشعرة من رؤوسهم لا تسقط إلاّ بإذن أبيهم السماوي.
ظاهرياً، الربّ يسوع المسيح ومَن له مطروحون في هذا العالم. ولكنْ، لأنّ الربّ يسوع قام من بين الأموات، ولأننا نحن نغتذي، كل يوم، بروح الربّ، من قيامة يسوع، يتجدّد شبابُنا في المسيح. آلامنا هي منبت الشهادة في هذا الدهر. كلّما سقط شاهدٌ للحقّ في هذا العالم أنبتت شهادته، بصورة سرّية، شهوداً يكثرون ويتضاعفون. السماء والأرض تزولان، أما كلامي فلا يزول. كنيسة المسيح لا تقوى عليها أبواب الجحيم. وكنيسة المسيح هي فيضُ دمِ المسيح في دماء مَن يشهدون له.
إذاً من جهة يوحنا قول الحقّ هو ما أدّى إلى قطع رأسه. أما من جهة الآخرين، من جهة هيرودس وهيروديّا، امرأة أخيه فيليبس، وابنتها، فإنّه كانت لهم أسبابهم. شهوة هيرودس قتلت يوحنا. روح الزنى في هيرودس قتل يوحنا. وحبّ الانتقام في هيروديا الزانية ساهم في المؤامرة على الحقّ. أرادت أن تثأر لأمرَين: لزناها ولكرامتها. محبّو الانتقام، الغيارى على شهواتهم وكراماتهم، ولو أُجلسوا في سُدّة الحقّ، لا يُبالون بالحقّ ولا بأصحاب الحقّ ولا بشهود الحقّ. أنانيّاتهم هي الحقّ لهم. ثم هيرودس ربط نفسه بكلام بطّال ألزمه. قال كلمته! مَن لا يحزم أمره لجهة الحقّ والاعتراف بالحقّ لا بدّ أن تأتيه سانحة تلقيه كلَّه في الباطل. شهوة الإنسان إما يقتلها أو تقتله. المتردّد تأتيه التجربة بسرعة خاطفة.
واستغلّ الشيطان الفرصة في ابنة هيروديا. نقلت كلمةَ هيرودس إلى أمّها ثمّ عادت لتقول له: “أريد الآن رأس يوحنا المعمدان على طبق”. صفعه سؤالها. صحا. انتبه أنّه قال كلاماً فاسداً. لذا استحوذ عليه حزن شديد. كانت في نفسه بقية صلاح. ولكنْ اضطرّه الظرف لأن يتغاضى عن الصلاح الذي فيه. لم يتب. كرامته كانت أكبر من توبته. “من أجل اليمين ومن أجل المتّكئين معه لم يُرد هيرودس أن يصدّها”. كرامته كانت في الميزان. سطوته، ملوكيّته كانت مهدّدة لأنّ كلام الملوك لا يُرَدّ.
كل إنسان مُعرَّض لأن يتفوّه بكلام ليس في محله، لأن يقطع على نفسه وعوداً لا توافقه. فمَن كان أصيلاً اعترف بأنه أخطأ. أعظم الفضائل أن يعرف الإنسان خطيئته وأن يُقرّ بها، لا أن يحاول تبريرها وتمويهها وتجميلها ومكيجتها حفاظاً على كرامته. كرامة الإنسان هي في الاعتراف بالخطأ والخطيئة. كرامة الإنسان هي في قول الحقّ. كرامة الربّ يسوع هي في أنّه قال الحقّ وبذل نفسه من أجل الحقّ. وكرامة يوحنا المعمدان في أنّه تمسّك بالحقّ حتى قَطْعِ رأسه. مَن لا يستكرم بالحقّ تكون الكرامة التي يسعى إليها خزياً له أمام ربّه وأمام الناس إذا ما بقي في نفوسهم مطرح للحقّ.
فقط مَن لا يسكت عن الحقّ ولا يساوم تسكن فيه نعمة الله، وتزيده نعمة فوق نعمة. الضمير أولاً. بأمانة! هذا لا تقوى عليه أبواب الجحيم. هذا يبثّ الحقّ. ولو مات شاهدُ الحقّ، شهادتُه لا تموت. تُقلِق وجدان الناس! تزلزل الأرض! مهما سعى المُفسِدون إلى إفساد الناس يبقى ما في الوجدان سرّ لا يعرفه غير الله. وحده الحقّ الزلال له قوّة النفاذ إلى عمق القلب البشري. الحقّ وما زرعه الربّ الإله في نفوس الناس من أميال من طبيعة واحدة. لذلك بقي يوحنا بقوّة في الوجدان وزال هيرودس من أفق الناس بزوال حكمه. ولو ساير الناسُ الظالمَ خوفاً منه فإنّ قلوبهم إلى المظلومين من أجل الحقّ. هؤلاء يسيِّدونهم على أنفسهم إذا لم يوجدوا معاندين في الإثم. لذلك سيادة الحقّ غير المنظورة باقية، إلى قيام الساعة، رغم كل الباطل!
عظة في عيد قطع رأس النبيّ السابق المجيد يوحنا المعمدان، 29 آب 2003