الميلاد والضعف واليقين
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين
يا إخوة،
إذ نعيّد اليوم لوالدة الإله عيداً جامعاً بعدما كنّا البارحة قد احتفلنا احتفالاً مهيباً بميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد، نلاحظ كيف أنّ الربّ، في إنجيل اليوم، لم يشأ أن يعمل إلاّ في ضعف الناس. أولاً، الأقنوم الثاني للثالوث القدّوس ارتضى أن يُفرغ نفسه حتى إلى أوهى حال يمكن أن نتصوّرها إذ ارتضى أن يُولد من امرأة هي والدة الإله القدّيسة. الطفل عرضة لكل الضعفات يكون، لكل الأمراض، لكل السلبيات. وههنا خالق السماوات والأرض يؤخذ هرباً من مكان إلى آخر كمَن لا حَوْل له ولا قوّة. هذا خبِرَه الصبي وخبِرَتْه أمّه ويوسف: “قمْ فخُذ الصبيّ وأمّه واهرب إلى مصر”. ملاك الربّ لم يشأ أن يوفّر على الصبيّ وأمّه ويوسف هذا التعب. كان لا بدّ لهم أن يكابدوا الهرب. الألوهة لا تلغي الضعف البشري. نعمة الله تعمل في ضعف الناس دون أن تلغيه. هذا يعني أن الإنسان يختبر وهن الطبيعة البشرية في كل حال. الربّ يسوع طفلاً لم يظهر كإنسان بحسب الظاهر بل اتّخذ الإنسان. تمثَّله ولم يمثِّله. خبِرَه. خبِرَ الطبيعة البشرية بكل أوهانها. كان لا بدّ للصبيّ ومريم ويوسف أن يهربوا إلى مصر وإلا لا يكون الله قد صار إنساناً بالفعل.
نحن نعلم من مناسبات أخرى في العهد القديم وفي العهد الجديد وفي سِيَر الآباء القدّيسين أن الربّ يتدخّل أحياناً ويغيِّر المسار الطبيعي للأمور بين الناس. روح الربّ مثلاً خطف فيليبس بعدما كلّم الحبشي، في سفر أعمال الرسل، فوُجد في أشدود (8: 39 – 40). كان بإمكان ملاك الربّ أن ينقل الطفل يسوع ومَن معه إلى مصر بسهولة، في طرفة عين ولكنّه لم يفعل. لماذا؟ لأنّ الربّ الإله يشاء أن يبقى الإنسان في الضعف إلى المنتهى. نحن لا نختبر الضعف وحسب بل نبقى معلَّقين عليه إلى المنتهى. هذا، في التدبير الإلهي، جانب أساسي من جوانب عمل الله في البشريّة. الربّ الإله يصون الإنسان ويحفظه إذا ما كان مؤمناً به، لكنّه، في الحقيقة، لا يأتي إليه ولا يعينه إلاّ بعد أن يكون قد استنفد خبرة ضعفه إلى المنتهى. أحد النسّاك القدّيسين كان، مرّة، عائداً إلى منسكه. فلما بلغ في رحلته محطة شعر فيها بالوهن والعجز عن متابعة المسير، التفت إلى فوق ونادى: اللهمّ أنت ترى أني لا أستطيع أكثر من ذلك فأعنّي. للحال وجَد نفسه أمام باب قلاّيته. على هذا إذا ما اختبرنا، نحن الذين آمنّا وأردنا أن نتبع المعلّم، الأوهان والعجز فلا نتعثّرنّ. بالعكس، في تلك الأوقات بالذات يكون الله أدنى إلينا من أي وقت آخر. هذا لا بدّ منه لمَن أراد أن يكون مع المسيح. وهذه بركة عظيمة عند الله أن نبلغ نحن ذروة الوهن ولا نيأس. ما لم يختبر الإنسان ضعفه كاملاً لا يمكنه أن يتبيّن قوّة الله، وإلاّ يحسبها قوّته هو. قوّة الله في ضعفنا تُكمل. قوّته لا تعمل بقوّة فينا إلاّ في ضعفنا.
لما أزمع هيرودوس أن يطلب الصبيّ ليُهلكه أطلع ملاك الربّ يوسف على ذلك. هذه معلومة كان يوسف بحاجة إليها فأنبأه ملاك الربّ بها. الربّ الإله لا ينبئنا بالكثير. فقط ما نحتاج إليه يوحي لنا به. كأنه خير للإنسان أن يبقى في شيء من الخوف والتسآل. يختبر، في آن، حضور الله وعنايته به، ويختبر كذلك أنه لا بدّ له أن يسلك على كلمة الله وكأنه أعمى منتظراً إشارة من فوق. عليه أن يرضى بتسليم نفسه، بإعطاء يده لملاك الربّ ليقوده إلى حيث يريد الله وكما يشاء. إنسان الخطيئة فينا، كبرياؤنا لا يحتمل أمراً كهذا. هنا بالذات يتجلّى الإيمان الحقّ. “إني ولو سلكت في وسط ظلال الموت لا أخاف سوءاً لأنك أنتَ معي. عصاك وعكازك هما قد عزّياني” (مزمور). أما إنسان الخطيئة فيريد أن يفهم ويطلب تفسيراً لما يحدث. يهمّه دائماً أن يكون هو صاحب المبادرة.
الهداية الكبرى هي أن يتعلّم الإنسان كيف يطيع الله ويرضى بما يقسمه الله ويسلك مع الله ويقبل، في آن، أن لا يفهم ما يجري. الطاعة أعظم من الفهم. الفهم يطال أموراً تحت إدراك الناس، أما الله وعمل الله فيفوق كل إدراك. طرقي ليست طرقكم، قال الربّ. فقط ما يريد الله أن يكشفه وساعة يشاء لخير العباد هذا ندركه. والله لا يكشف أمراً إلاّ بالطاعة. الذين لا يطيعون يقيمون في الظلام. نصيبهم أن يتكهّنوا لا أن يعرفوا. أما المطيعون فيتكوّن فيهم وعي جديد وإدراك جديد وفهم جديد. يشملهم الربّ الإله بنوره فيعرفون، في حسّهم الداخلي، أن ما يشاؤه الله ويعطيه أعظم بكثير مما يمكن للطبيعة البشرية الساقطة أن تعطيه.
لهذا قال الملاك كلمته. كان على يوسف أن يأخذ الصبيّ وأمّه على كلمة الملاك. “على كلمتك أُلقي شبكتي”. أنا سائر في صحراء. الربّ هاديّ وراعيّ. أقبل المشقّات. أُصابر الأتعاب. فقط على كلمتك أنتَ. هذا إيمان بحت ولا شيء إلاّ إيمان.
والسفر، في ذلك الزمان، كان صعباً وقاسياً. لا يتصوّرن أحد منّا أنّ الرحّالة الثلاثة كانوا في الراحة في سفرهم إلى مصر. كلا! بل كانوا في التعب والخوف والجهل من جهة ما يشاء العقل أن يبصره ليطمئن. لم يبلغوا مصر إلاّ بمشقّات كثيرة. لا يتصوّرن أحد أن ملاك الربّ كان حاضراً ليقيم لهم مائدة في البرّية، ليقدّم لهم ما يحتاجون إليه من أسباب الراحة. كان على يوسف أن يتعب ليحفظ الصبيّ وأمّه. كان عليه أن يأتي بالماء، أن يدبّر الطعام، أن يكون يقظاً منتبهاً. هذا كلّه جزء من عمله، من خدمته، من مسؤوليته، من مساهمته، من خبرته، من واقعه كإنسان.
وبقيت مريم والطفل ويوسف في مصر زمناً إلى أن مات هيرودوس. طبعاً كان بإمكان ملاك الرب أن يضرب هيرودوس حالما جعل في قلبه الأمر الشنيع من جهة الصبيّ، لكنه لم يفعل. هيرودوس كان له زمانه وكان عليه أن يكمله. لكل واحد منّا في هذه الدنيا زمانه وعليه أن يُكمله صالحاً أو شرّيراً. لا أحد ينطلق من ههنا قبل أوانه. الشرّير يزداد شرّاً والتائب توبة والصالح صلاحاً إلى أن تأتي الساعة التي جعلها الله في خلقه. الأوقات لا تُستَبق. ربّنا جاء في ملء الزمان. وفي ملء الزمان يضرب الربّ الإله عدوّ الخير بنفخة فمه ويسقطه. قد يتعب الواحد منّا تعباً جزيلاً ليحصّل فضيلة واحدة ولا يحصّلها. ليس الأمر منوطاً بنا وبما نرغب وبما نشاء وبما نتصوّر. ليست الفضائل ثمرة أتعابنا وإن كان التعب لازماً لاقتبال الفضائل. الفضائل نِعَم من عند الله يعطيها في أوانها. متى اكتمل إعداد الآنية جعل فيها الله مواهبه. هو المبادر ووحده الوهّاب العارف بكل شيء. نحن فقط نعدّ أنفسنا وننتظر بصمت خلاص إلهنا مهما طال الانتظار. حتى الصبر من عنده. حتى إعدادنا لأنفسنا لا يكون من دون نعمة منه. بنعمة منه نتهيّأ لاقتبال أنعامه.
ومات هيرودوس، أخيراً، فظهر ملاك الربّ، من جديد، ليوسف في الحلم في مصر وخاطبه بكلام الله. أجل الله يخاطب الناس أحياناً في الحلم. يخاطبهم بطرق عديدة، بكل الطرق التي يفهمونها. ليست لله لغة خاصة كما نعرف نحن اللغات. لكنّه يتجلّى بكل لغة نفهمها. مهما اختلفت لغات الناس وقبلوا بعضاً ورفضوا بعضاً فبها يمتدّ الله صوب الناس.
وقال الملاك ليوسف أن يأخذ الصبيّ وأمّه ويعود إلى أرض إسرائيل فقد مات طالبو نفس الصبيّ. لم يقل له أن يعود إلى مكان محدّد في إسرائيل. هذا يتكشّف فيما بعد. كرامة يوسف مردّها طاعته لله. بطاعته كان يوسف راهباً بكل معنى الكلمة. فلما بلغ أرض إسرائيل سمع أن أرخيلاوس ابن هيرودوس ملك على اليهودية. خاف. عند ذاك المفترق بالذات أوحي إليه في حلم، مرّة أخرى، ماذا عليه أن يفعل فانصرف إلى نواحي الجليل. قبل ذلك كان يوسف يريد أن يذهب إلى بيت لحم. ثمّ اكتشف أنّ هذا ليس هو المطلوب. كثيراً ما نظنّ الظنون في علاقتنا بالله. نكوّن قناعاتنا الخاصة ونعتبر أن هذا هو ما يريده الله منّا ولنا. ثمّ متى بلغنا الوقت الحرج اكتشفنا أنّ هذا ليس هو ما يريده الله فنُفاجأ ونرتبك ونقع في الخوف. ليس ما يخطر ببالنا في سيرنا مع الله موحى منه بالضرورة. فلا يتسرعنّ أحد وينسب أفكاره، ولو بدت مؤاتية، إلى الله. علينا أن نعدّ أنفسنا لنغيّر وجهة سيرنا ساعة يجعل الربّ الإله في قلوبنا يقيناً. فقط في تلك اللحظة نعرف إذا كنّا أمينين له. حتى الأخير تبقى أفكارنا الخاصة واردة وعلينا أن نكون مهيّئين للتخلّي عنها بإشارة من فوق وإلاّ نقع في البلبال والضلال. “غبيّ أنا ولا معرفة عندي” (مزمور).
وأتى الطفل مع أمّه ويوسف إلى مدينة يُقال لها ناصرة. هناك نشأ وترعرع إلى أن حان ميعاد كرازته بالإنجيل.
لاحظوا ما لاحظة متّى الإنجيلي في شأن إقامته في الناصرة: “لكي يتمّ ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصرياً”. الحقيقة أنّ كل ما كان لازماً للناس ليتبيّنوا أنّ هذا هو مسيح الربّ سبق فأشار إليه الله في الشريعة والأنبياء والمزامير. كل ما كان نافعاً لنا أُعطيناه ونُعطاه في كل حين. ما كُتِب فقد كُتب لفائدتنا. ليس الكتاب المقدّس كتاباً يتضمّن كل المعلومات عن الله بل فقط ما هو نافع لنا في علاقتنا مع الله. وما ينفعنا الله به لا نتبيّنه إلاّ إذا سلكنا في طاعته. فقط، إذ ذاك، نقرأ ما يريدنا وكما يريدنا أن نقرأ لتعزيتنا وفائدتنا لئلا نوجد قرّاء لأفكارنا نحن في الكتاب دون مقاصده.
فالمجد لله على ما أتانا وما لم يؤتنا لأن كل شيء كان به حسناً. المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة.
عظة في ثاني الميلاد، عيد حافل لوالدة الإله 26 – 12 – 2003