عيد القدّيسَين هامتَي الرسل بطرس وبولس
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس
يا إخوة،
إذ نعيِّد اليوم لهامتَي الرسل القدّيسين بطرس وبولس نجدنا بإزاء السرّ العظيم، سرّ عمل الله في الناس، السرّ الذي يكشف قوّة الله في ضعف الناس.
كان بطرس وبولس بشريَّين مثلنا، بكل ما في الكلمة من معنى، من معدننا ومن أوهاننا، عرضةً لكل ما نحن عرضةٌ له. كانت لكل منهما معطوبيته. كلاهما، في وقت من الأوقات، تنكّر لله الحيّ. بطرس أنكره أمام الناس بعلن وقَسَم. وبولس قاومه واضطهده باسم الله حين كان، بعد، شاول. كل إنسان، في الحقيقة، وبلا استثناء، إذا ما تُرك لنفسه لا يكون له سبيل إلى ربّه. يسقط في ظلمة نفسه. كان بطرس وبولس يعرفان جيّداً من أين أتيا. أنّى لبطرس أن ينسى كيف التفت إليه الربّ ونظر إليه بعدما أنكره ثلاثاً فخرج إلى خارج وبكى بكاء مرّاً. ولا بولس أخفى أن السيّد ظهر له آخر الكل كأنه السقط لأنه أصغر الرسل وليس أهلاً لأن يُدعى رسولاً لأنه اضطهد كنيسة الله. لذلك لم يكن لأحد منهما ما يفتخر به أمام الله غير ضعفه. قولة الرسول المصطفى صريحة: “إن كان يجب الإفتخار فسأفتخر بالحري بأمور ضعفي”. ما لهما صار لهما بنعمة من فوق. حتى لمّا قال الرسول بولس إنه تعِب أكثر من الرسل الباقين جميعاً أتبع كلامه بالقول: “ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي”. ليس لأحد، فيما لله، فضل. يكفي الواحد أن “يأخذ أجرته بحسب تعبه”.
ولكن كيف يتكشّف سرّ عمل الله في الناس؟ كيف تستبين قوّة الله في الضعف؟ هذا السرّ عظيم يسمو على مدارك الناس. والعظمة فيه أنّ قوّة الله تقيم في ضعف الناس ولا تُلغيه. ينضح الضعف جلالاً. وأيضاً قوّة الله في الناس تجعل شعورهم بالضعف أقوى. تجعله حاداً ولا أحدّ. تجعلهم يعون، كيانياً، معنى أنّهم تراب ورماد. جوهر السرّ أنّ الربّ الإله قد بتنّى الخزف، اتّخذه، وهو حاضر، أبداً، في الناس بجسده، في الروح القدس، في كنيسته. المسيح معنا وفيما بيننا: كان وكائن ويكون. لذلك ولا أبواب الجحيم تقوى على كنيسة المسيح مهما استبانت، في بشريّتها، واهية ومهما ضؤلت في المدى المنظور. وعلى حدّ تعبير إشعياء النبيّ هي “كالبطمة والبلّوطة التي وإن قُطعت فلها ساق يكون ساقها زرعاً مقدّساً”.
الربّ يسوع المسيح هو الإله الإنسان وكنيسته/ جسده هي من طبيعته الإلهية الإنسانية. كل ما فيها ذات طبيعة إلهية إنسانية. ما ليس كذلك لا ينتمي إليها. لا تستقيم النظرة فيها إلاّ على هذا الأساس.
هناك تجربتان أساسيتان تعرّضت لهما كنيسة المسيح وتتعرّض من المعتبَرين أبناء الإيمان.
التجربة الأولى أن يُنظر إليها، في المبدأ، كجماعة أو جماعات مؤمنين لهم ضعفاتهم وآراؤهم ولهم أفكارهم ومساعيهم. الكنيسة، إذ ذاك، أدنى إلى المؤسّسة أو المؤسّسات البشريّة لكل فئة وحتى لكل فرد في كل فئة فيها، بالله، صلته الخاصة وخبرته الخاصة وموقفه الخاص. أنا لي رأيي وأنت لك رأيك. أنا أعرفه على طريقتي وأنت تعرفه على طريقتك. يسوع في قلبي. لا أنت على حقّ بالمطلق ولا أنا في الباطل بالمطلق. كل، من زاويته الخاصة على حقّ ويختبر وجهاً من وجوه الحقّ. ربما يعرف الواحد أكثر من الآخرين أو ما لا يعرفه الآخرون. على هذا يقوم بالدعاية لنفسه. كلٌ يختار ما يناسبه والطريقة التي توافقه. قد يعجبك هذا الأمر عند فلان وقد لا يعجبك. قد تتصدّى له وقد تكتفي بما لديك. الأمور نسبية. لا حقّ لأحد في اقتحام وجدان الآخرين ولا في مصادرة الحقّ. الميل إلى التعايش. حقوق الإنسان هي القاعدة المقدّسة. أنا أقبلك وأنت تقبلني. أنا أعترف بك وبما لديك وأنت تعترف بي وبما لديّ. لا أنا أُلغيك ولا أنت تُلغيني. لكل إنسان، في نهاية المطاف، الحقّ في أن يكون على حقّ على طريقته. كلّنا آلهة بالقوّة نحقّق ذواتنا كما نرتئي، وليس أحد منا مقياساً للحقّ. مجموعنا هو الحقّ.
هذه تجربة أولى. الكنيسة أو الكنائس مؤسّسات بشريّة أساسها العلم والأخلاق والطقوس. تؤمّن لك الأطر الفكرية والإجتماعية والتمثيلية التي تساعدك على الدخول في خبرة خاصة مع الله.
والتجربة الثانية التي تشكّل تعرّضاً لا بل فتكاً بالطبيعة الإلهية الإنسانية لكنيسة المسيح هي أن تعتبر الكنيسة لا مؤسّسة بشريّة بل مؤسّسة إلهية على الأرض. إذن الحقّ فيها مطلق. فلكي تؤمّن الإطلاقية في الحقّ، في الكنيسة، وتحميها وتعبِّر عنها بصورة أكيدة موثوق بها تدّعي أن روح الربّ يعيِّن راعياً له مساعدون يتولّون رعاية الناس على الحقّ. هؤلاء يزعمون أنّ روح الربّ يعطيهم موهبة خاصة، بحكم الوظيفة التي يؤدّونها، والموقع الذي يجعلهم فيه (Ex Cathedra). هذه الموهبة هي موهبة العصمة في شؤون العقيدة والأخلاق لئلا يضيع الحقّ والصلاح في متّاهات الآراء والآراء المضادة، وتالياً في أروقة النسبيات البشريّة. لهذا، كما يدّعون، أُعطيت العصمة لبطرس الرسول: “أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي”. ومن بطرس انتقلت العصمة إلى خلفاء بطرس، إلى بابا رومية شخصياً وإلى مجمع الأساقفة بمقدار ما يعملون متعاونين معه. هذا ما تمخّضت عنه عقيدة عصمة البابا التي تلفّظ بها المجمع الفاتيكاني الأول في السنة 1870م. بإقرارعقيدة العصمة هذه لم تعد هناك حاجة للمسيح لأن يعمل مباشرة. راعي الرعاة وخادم خدّام المسيح ونائبه، أي البابا، هو الذي تولّى شؤون رعاية الخراف. “إرع خرافي”. المؤسّسة/الكنيسة، وعلى رأسها البابا، هي التي نيطت بها المهمّة. في هذا الإطار وعلى هذا الأساس، صار الروح القدس يعمل في الكنيسة كما يزعمون.
لهذه التجربة مظهر إلهي يطمئن النفوس القلقة لكن مضمونها بشري بحت. ما تقول به هو غير ما هو حاصل لأصحابها. تقول الغيرة على ما لله، وربما عن حسن نيّة، لكنها تجيِّر للناس ما هو لسيّد الناس وكأنها تقدِّم خدمة لله. أن تكون العصمة للسيّد الربّ، هذا أمر طبيعي. وأن تكون العصمة صفة من صفات الكنيسة فهذه أيضاً بديهية لأن الكنيسة جسد المسيح وطبيعتها من طبيعته، إلهية إنسانية. ولكن أن تُركَّز العصمة في وظيفة يؤدّيها فرد أو جماعة بصورة آلية تلقائية فهذا معناه، حكماً، أن إنسانيتهم لا يعود لها دور يُذكر ولا مساهمة يُعتدّ بها. تُعصم،رغماً عنها، بالإنزال. تعاون مَن يجلسون على الكرسي أم لم يتعاونوا مع الله فإنه لا يعود، في طاقتهم، في أمور العقيدة والأخلاق، أن يتفوّهوا بغير ما يجريه الله، زعماً، على ألسنتهم. إنسانيتهم، والحال هذه، تمسي معطّلة، أقلّه خلال تفعيل موهبة العصمة فيهم. هذا يتضمّن، بطبيعة الحال، القناعة أنّه حتى لو كان البابا فاسداً، في عمق نفسه، أو حتى محارِباً لله فإنّ واقعه الروحي السيّء لا يعطِّل موهبة العصمة لديه ولا يؤثّر فيها.
نحن لم نتعلّم المسيح هكذا. فقط المقيمون في الحقّ يشهدون للحقّ، لما يعلمون. فقط مَن يقيم روح الربّ فيهم بالتوبة يكون لهم فكر المسيح. لذلك وحده الروحي، ولا أحد سواه بين الناس، يحكم في كل شيء ولا يُحكَم فيه من أحد. مَن كانوا في سدّة الرعاية يُفترض بهم أن يكونوا قد صاروا روحانيّين، أن يكونوا قد اقتنوا فكر المسيح، أن يكونوا معلّمين للشعب بالروح والحقّ، نماذج تحتذى. لكنهم ليسوا كذلك بصورة آلية من دون مساهمتهم الطوعية. الوظيفة التي يقيمك الربّ الإله عليها تُلزمك أنت أن تسلك بلا لوم حتى تفعل فيك نعمته. أما إذا لم تحفظ الأمانة فلا يقيم روح الله فيك. وإذا لم يُقم روحه فيك فلا يكون هو المتكلِّم بفمك. لا شيء، إذ ذاك، يعصمك عن الشطط. أهواؤك تكون هي المتكلّم. العصمة تأتيك في مَن أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد على صورة معلّمه. هذا أنت لا تحدّه سلفاً في أحد من الناس لموقعه، ولو كان أسقف رومية، ولا في جماعة ولو كانت مجمع الأساقفة في أية كنيسة. روح الربّ لا يُستأثَر للحم والدم. ينفخ حيث يشاء. فإذا كانت لك أُذن للسمع فإنك تسمع صوته وتعرف أنه هو، لكنك لا تعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب. إذا كان فيك روح الربّ عاينت وسمعت وشهدت وإلاّ أقمت خارجاً. أيُحصَر الريح؟ أيُحبَس النور؟ أتُمسَك النار؟ الروح والحقّ وكلمة الحقّ لا يُحتجَز في مؤسّسات الناس ولا يخضع لترتيبات الناس. فقط بطاعة الناس لله يُطيع الله الناس. بخضوع الناس لله يخضع الله للناس. بالضعيف والمزدرى وغير الموجود يتكلّم الله ليُبطل الموجود ليكون فضل القوّة لله لا منّا.
لهذا كانت عقيدة العصمة اختراعاً خبيثاً أبدعته أهواء الناس، اختراعاً ولا أخطر، ذروة سقوط البشريّة. ثمّة إنسان/مؤسّسة يدّعون له ويدّعي لنفسه صفات إلهية ولمّا يقتن بالتوبة، لزوماً، روح الله. هذا يفعلونه باسم الله وحرصاً على حقّ الله وصَوناً لكنيسة المسيح. منذ الدهر والإنسان في صراع. لا يشاء أن يُقرّ بضعفه. يحاول أن يخفيه أبداً. يتمظهر بالقوّة. يستقوي بالذكاء، بالعنف، بالسلطة، بالخيال، بكل وسيلة. ينشد الألوهة في أوهان نفسه والجسد فلا يجد. السقوط طوّر فيه حِيلاً في النفس ولا أدهى ابتغاء ألوهة مزعومة فلم يُفلح. أخيراً وجد ضالته وبلغ منيته بالوهم فقال بالعصمة. ألّه الإنسان نفسه ونسب ألوهته لله. أقنع نفسه بأنّ العصمة عطيّة من عند الله. وفيما ادّعى أنّه يفعل ذلك إتماماً لمقاصد الله قدّم نفسه بصفته الناطق الأوحد باسم الله، مَن تؤخذ من فمه كلمة الله باليقين الكامل حتى فوق الرسل والأنبياء. وإذ فعل ذلك بلغت به البشريّة ذروة القناعة الوجدانية بتماهي الله والناس. أمْر من أمرَين كان محتّماً أن يحدث: الإنسان في تعاطي الإلهيات إمّا أن يملأه، بالتوبة، روح الربّ فيبلغ الاتّضاع الأقصى، وإمّا أن يمتلئ من نفسه لقرباه من الله، على غرار الشيطان، كوكب الصبح، فيبلغ الكبرياء الأقصى وتالياً ذروة العمى ويقتل الله في نفسه على طريقة الكرّامين الأردياء الذين أخرجوا الوارث، ابن ربّ البيت، خارجاً وقتلوه. ثم بعد ذلك يجعل مقام الله مقاماً لنفسه، عارفاً الخير والشرّ، مختاراً الشرّ، ولكن باسم الله وتحت شكل ما هو لله تأميناً لخَدَر ضميره بالكامل، مصدِّقاً الكذب.
هكذا حلّ الإنسان محلّ الله. لم تعد هناك حاجة لله بين الناس. بات الإنسان يقوم بالمهمّة نيابة عنه Vicarius Christi. ولما تبلغ البشريّة، على هذا النحو، الألوهة، زعماً، وحسب، بل أقفلت على نفسها أيضاً إذ جعلت عقيدة العصمة، عملياً، الضامن لإيمانها بالربّ يسوع المسيح. بهذا انطلت على الناس حيلة حيل الحَيّال، عدوّ البشر. نجح في أطروحته أنّه لا حاجة للإله المتجسّد، بعد، بين الناس. التجسّد كان للا شيء. لقد بات بإمكان الإنسان أن يعبد نفسه باسم الله مرتاح البال دنيا وآخرة.
أمّا نحن فنبقى متمسّكين بالطابع الإلهي الإنساني لكنيسة المسيح. نعرف أننا تراب ورماد. نختبر عدميتنا في كل حين. لكننا نعرف بالإيمان أنّ يسوع يقيم فينا ضياء إذا سلكنا في وصاياه. أعرف أني غبي وأنه لا معرفة عندي. اختبر جهلي أبداً. لكنّي أعرف بالإيمان، في آن معاً، أني إذا ما أقمت في الأمانة وسلكت في النقاوة، أقام لاهوته في جهلي. أختبر ضعفي وأختبر قوّة الله معاً. كلّما ازددت وعياً لضعفي وإقراراً بأوهاني عملتْ فيّ قوّة الله بالأكثر. وكلّما خبرت قوّة الله بالأكثر ازددت معرفة بأوهاني وافتخاراً بضعفاتي. هذا لا أعرفه إلاّ قرين ذاك. كيف يتأتّى لي ذلك؟ لست أعلم! أعلم فقط أنّ لي كنزاً وأنّ هذا الكنز هو في آنية خزفية ليكون فضل القوّة لله لا منّا. مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين. متحيّرين لكن غير يائسين. مضطهَدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين. حاملين في الجسد كل حين إماتة الربّ يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا. أعلَمُ أنّ الروح القدس لا يقبل الحصر، لا في إنسان ولا في زمان ولا في مكان. هو المبادِر أبداً. أعرف أنّه فاعل لكنّي لا اعرف لا كيف ولا متى ولا أين. أقصى ما نفعله أن نهيّء أنفسنا له. “تمّموا خلاصكم بخوف ورعدة”. بالإيمان، بالتوبة، بالنقاوة، بالصوم، بالصلاة، بالسهر. الروح يأتينا دائماً جديداً. المؤمن في الكنيسة يسير على سلك مشدود فوق وادٍ سحيق. بالصحو والنعمة الإلهية يأمن وبالغفلة والهوى يهوي كائناً مَن يكون. لا ضمانة لأحد من نفسه. المسيح، في الروح القدس، هو الضمانة. هو الصخرة. أن نرضى أن نكون ممسَـكين من روح الربّ ولا نمسكه، هذا هو صليبنا وهذه، في آن معاً، قيامتنا. وحده الإيمان الحيّ بيسوع يجعل كل منّا صخرة من الصخرة، بطرس من بطرس، صخرة تحكي الصخرة لأننا بالإيمان الحيّ لا نعود، بعد، نحن نحيا، في عتاقتنا، بل المسيح يحيا فينا. لا، لا يهم أبداً بمَن يتكلّم روح الله. المهم أن يتكلّم. الغيرة الحقّ على بيت الله هي الفرح في معاينة كل أهل البيت أنبياء. المهم أنّكم إن سمعتم اليوم صوته في الكبير والصغير، سواء بسواء، فلا تُقسّوا قلوبكم. حقّ الربّ الإله علينا أن نقيم صاحين، أن تكون لنا يقظة الملائكة وعيون السيرافيم، أن ننظر في كل اتجاه مستطلعين وجه الحقّ في الغريب والقريب، في المغمور والمعروف. محبّ الحقّ يفرح بالحقّ كائناً مَن كان المتكلِّم لأنّ مَن تفوّه بالحقّ فقد تفوّه بالمسيح ليبقى المسيح معنا وفيما بيننا موحِّداً بالسلام من الآن وإلى الأبد آمين.
عظة في دير مار يوحنا – دوما في 29/ 6 / 2003
