الأمم يدينونكم
الأرشمندريت توما (بيطار)
باسم الآب والابن والروح القدس
يا إخوة،
قائد المئة، الذي يتحدّث عنه إنجيل اليوم، كان أممياً، أي غير يهودي. وكان إنساناً له سلطان على مائة عسكري. ميزته أنّه كان أمميّاً صالحاً. اليهود أنفسهم شهدوا له. “يحبّ أمّتنا وقد بنى لنا المجمع”. قائد المئة هذا كان يسلك بأمانة وفق ناموس الطبيعة. ولعلّه، أيضاً، التقط بعض تقويّات الشعب العبري الذي عاش في وسطه. في كل حال، لأنّه كان مستقيماً من جهة ناموس الطبيعة – ونعني بناموس الطبيعة أنّه كان يعرف الخير من الشرّ، ويسلك في الخير، كما كان يعرف معنى محبّة الإنسان لقريبه – كان يعرف أمثال هذه الأمور ويتعاطاها. كل هذا كان مسجّلاً فيه. هذا، أيضاً، في المبدأ، مطبوع في كل الناس، عرفوا الله أم لم يعرفوه مباشرة. ولأنّه كان مستقيماً لم يظلم أحداً. كان عطوفاً على اليهود. يرأف بهم. يعينهم. وكان، في آن، حاضناً لإيمانهم، بدليل أنّه بنى لهم المجمع. كل ذلك جعل عليه نعمة إلهيّة خاصة.
كل إنسان، في الحقيقة، يا إخوة، إذا ما سلك باستقامة الطبيعة، مسيحياً كان أو غير مسيحي، إذا ما أحسن إلى الناس، إذا ما كان عطوفاً عليهم، إذا ما امتنع عن إيقاع الأذى بهم، فإنّه لا يكون بعيداً عن الله. الله يكون قريباً منه جداً. كل صالحة هي من الله. فمَن يصنع الصالحات يدخل في دائرة الله.
إذاً، لا نخافن على أي إنسان في الدنيا إذا لم يتسنّ له أن يعرف المسيح مباشرة، كما نعرفه، أو كما ينبغي أن نعرفه نحن. طبعاً لا شيء يساوي معرفة المسيح. هذه علينا أن نشرك كل الناس فيها، إذا أمكن. مع ذلك نقول من المهم أن يكون كل إنسان في الدنيا قويماً من جهة سلوكه في ناموس الطبيعة. حين يتشوّه عمل ناموس الطبيعة فيه، هذه تكون مأساة. ولكن إذا ما استمرّ يسلك بحسب ناموس الطبيعة فإنّه تكون له قصّة مختلفة مع الله. يمتدّ الله صوبه بطريقة ما. نعرفها أو لا نعرفها، سيّان. المهمّ أنّه لا يوجد متروكاً. لا يمكننا أن نتصوّر أن معظم سكّان الأرض سوف يهلكون. الله لا يعتمد فقط علينا لنبلِّغ الإنجيل حتى أقصى الأرض. يعتمد، بالدرجة الأولى، على محبّته. لأنّه صالح يُكمِل كل نقص بحيث لا يُترَك أحد من دون فرصة للخلاص. لا يمكن الله إلاّ أن يرحم الذين يمتدّون إليه، بطريقة أو بأخرى، من خلال سلوكهم باستقامة في ناموس الطبيعة. ليس الله أقلّ رحمة منّا ولا أقلّ غيرة على خلاص الناس. “الله يشاء أنّ جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون”. وإن لم يكن مكشوفاً لنا مَن الذي يخلص ومَن الذي لا يخلص، فإنّنا مطمئنّون إلى أنّ الربّ الإله لن يترك نفساً واحدة على الأرض قابلة للخلاص إلاّ يسعى إلى تخليصها هو العارف بكل شيء.
إذاً هذا الإنسان، قائد المئة هذا، لأنّه كان مستقيماً، لأنّه كان محبّاً لله، ولو بطريقة غير مباشرة، فإنّ نعمة الله كانت قريبة منه. الدليل على ذلك الكلام الذي تفوّه به. لا شكّ أنّه تكلّم بالروح، بمعنى. عندما كان يسوع غير بعيد عن بيته، وكان ذاهباً ليشفي عبده، أرسل قائد المئة إليه أصدقاء يقول له: “يا ربّ، لا تُتعِب نفسك فإنّي لا أستحقّ أن تدخل تحت سقفي”. الإنسان السالك باستقامة يعرف أنّه خاطئ لأنّه يعرف صعوبة السلوك في الاستقامة. يعرف أنّه لا يستحقّ أن يكون عشيراً للأطهار. لهذا قال قائد المئة ما قاله: “لا أستحقّ أن تدخل تحت سقفي”. كلّما استرسل وجاهد الواحد في إتمام عمل الله، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نما في معرفة نفسه. ينمو في معرفة حقيقة نفسه. ينمو في الاتضاع. وإذا ما نما الإنسان في الاتّضاع انفتح له باب على كل فضيلة لأنّ الاتّضاع هو القاعدة التي تقوم عليها كل فضائل الإنسان. أجل، يا إخوة، كل إنسان معطى، بحسب ناموس الطبيعة، أن يعرف الاتّضاع. ليس مفروضاً أن يكون الإنسان متكبِّراً. ولو كان كل إنسان مجرّباً بالكبرياء، وبشدّة، فإنّه يبقى أنّ الإنسان معطى أيضاً أن يسلك في تواضع القلب، لو أراد. طبعاً ليس هناك إنسان صالح في الدنيا بصورة كاملة، ولكنْ، الصحيح أيضاً، أنّ صورة الله في البشر لم تَفسُدْ بالكامل بسبب سقوط آدم. ناموس الطبيعة بقي قابلاً للفعل رغم الزغل الذي دخل قلب الإنسان. لذا بقي الإنسان قادراً على أن يأتي الصالحات.
هذا الإنسان، قائد المئة، بلغ تواضع القلب بشكل جميل خصوصاً لأنّه احتضن واعتنى بشعب الله. كلامه يثير التعجّب. “لا أستحقّ أن تدخل تحت سقفي”. كثيرون منا، نحن الذين يُفترض بنا أن نكون عارفين بالربّ يسوع، لا نقول كلاماً كهذا من كل قلوبنا. أكثرنا لا يشعر بأنّه غير مستحقّ لأن يدخل بيت الله مثلاً. أكثرنا، متى دنا من إيقونة ليقبّلها، لا يشعر بعدم الاستحقاق. ولماذا لا يشعر بعدم الاستحقاق؟ لأنّه لا يقف، في القلب، بصدق، أمام الله وخطاياه ليست أمام عينيه. نحن، عندما نتطلّع في إيقونة الربّ يسوع، لو كانت فينا ذرّة إحساس، لما كنا نجرؤ على أن نتطلّع في وجهه من دون خجل، من دون حياء. ضمائرنا تبكِّتنا. ونحن، في الحقيقة، نتنكّر لله، كل يوم، بخطايا كثيرة، بالفكر وبالقول وبالفعل. إذاً، نحن الذين يُفترض بنا أن نكون أهل بيت الله لا نلتزم كلاماً كهذا الذي تفوّه به قائد المئة. أما هو فتلفّظ به عن قناعة ودراية عميقَين وأرسل رسلاً يقول للسيّد، بلا خوف على سمعته، إنّه، أي قائد المئة، غير أهل لاستقبال يسوع. “من أجل ذلك لم أحسب نفسي مستحقّاً أن آتي إليك”. بعث برسل لا لأنّه اعتبر نفسه فوق أن يأتي بل غير مستحقّ لأن يأتي إلى الربّ يسوع. هذا مدهش! مع ذلك، ولأنّه في الحقيقة كذلك، طلب من الربّ يسوع بالوساطة أن “قلْ كلمة فيبرأ فتاي”. كأنّه يقول: أنا مؤمن بك ولست مستأهلاً لأن أقف قدّامك. أنا على يقين أنّك إن قلتَ كلمة واحدة بشأن فتاي لكي يشفى فإنّ هذا سوف يُعطى لك”. ما تعلّمه هذا الإنسان من خبرته قاسه على الله. تعلّم من خبرته، من استقامته، من محبّته، وتالياً من نعمة الله التي حلّت عليه. تعلّم الكثير من روح الربّ يسوع دون أن يكون قد التقاه. بات يعرفه جيداً لأنّه عرف نفسه جيِّداً. باب يعرفه لأنّه سلك في استقامة. نحن لسنا بحاجة لأن نعرف الربّ يسوع بالجسد لنعرفه. نحن، بالأكثر، بحاجة لأن نعرفه بالروح، لأن نسلك في روحه. وشيء من روحه مزروع في ناموس الطبيعة إن كنّا ندري. لهذا “طوبى للذين آمنوا ولم يروا”. هذا إنسان آمن ولم يرَ لأنّه رأى بعين قلبه إذ سلك مستقيماً.
فلما سمع يسوع تعجّب والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال: “أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا”. هذه شهادة عظيمة لإنسان غريب عن إسرائيل!
على هذا، يا إخوة، كثيرون ممَن هم خارج الكنيسة المقدّسة، كما نعرفها، سوف يكونون لنا ديّانين!
فرجع المرسَلون إلى البيت فوجدوا العبد المريض قد تعافى. الله، في نهاية المطاف، يريد أن يعطي نفسه لمَن يريده. ليس الله بظالم ولا ينسى أحداً على الإطلاق. فسواء كنّا من أهل البيت أو من غير أهل البيت، المهم، أولاً وأخيراً، أن نسلك في استقامة، والاستقامة تأتي بنا إلى النور الذي يضيء في نفوسنا والذي يجعلنا نعرف ذواتنا جيِّداً، كما يجعلنا نعرف مقدار عظمة الله وعمق محبّته للخليقة كلّها. ثمّ مَن له كثيراً فإنّه يُطالَب بأكثر. فلنرعوِ قبل فوات الأوان! وليكن اسم الربّ مباركاً من الآن وإلى الدهر.
عظة في السبت الخامس من لوقا، لو 7: 1 – 10، ألقيت في دير مار يوحنا – دوما، في 22 / 10 / 2005