الإيمان والعلم في المعرفة والمنهجية الأرثوذكسية
الأب د. جورج ميتيلينوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
أ. مشكلة حقيقية أو زائفة؟
استناداً إلى المعطيات التاريخية، يشكّل التناقض بين الإيمان والعلم والصدام الناتج عنه مشكلة حقيقية عند الفكر الغربي فيما هو مشكلة زائفة في التقليد الأرثوذكسي الآبائي.
ظهر المأزق في فرَضية “الإيمان ضد العلم” في أوروبا الغربية في القرن السابع عشر مع تطور العلوم الوضعية ومتزامناً مع ظهور مواقف أرثوذكسية من هذا الأمر. مهم أن يُلاحظ أن حصول هذه التطورات في الغرب كان في غياب الأرثوذكسية، إذ إن في العصور الحديثة حصلت غربة روحية وتمايز بين الغرب (العقلاني) والشرق الأرثوذكسي. يُحدَّد هذا الواقع بنزع الأرثوذكسية (deorthodoxiation) ونزع الكنسية (de-ecclesiastication) عن أوروبا الغربية. وتحويل الإيمان فلسفة وقوننته وتكوينه بشكله النهائي ديناً. فبحسب الأب يوحنا رومانيدس، الدين هو رفض الأرثوذكسية ومرض في القلب. إذاً، تاريخياً، الأرثوذكسية لم تشترك في صنع الحضارة الأوروبية المعاصرة التي يختلف حجمها عن حجم حضارة الشرق الأرثوذكسي.
نقاط التحول المهمة في مسيرة تغيّر أوروبا الغربية هي: السكولاستيكية في القرن الثالث عشر، الإسمية (nominalism) في القرن الرابع عشر، الإنسانوية/النهضة في القرن الخامس عشر، الإصلاح في القرن السادس عشر والتنوير في القرن السابع عشر. إنها سلسلة من الثورات التي أحدثت صدعاً في بنية حضارة أوروبا الغربية المولودة في جدلية هذه الحركات.
تقوم السكولاستيكية على تبني الحقائق الأفلاطونية بحيث يُنظر إلى عالمنا كصورة عن الكون المتعالي. أداة المعرفة هي الفكر. والمعرفة، بما فيها معرفة الله، تتم من خلال تسلل المنطق في جوهر الكائنات. هذا هو أساس اللاهوت الماورائي، الذي يفترض علاقة الوحي الطبيعي (Analogia Entis) بين الله والعالم، والمقاربة بين المخلوق وغير المخلوق. السكولاستيكية هي صراع بين الفكرين الأفلاطوني والأرسطي في الفكر الأوروبي. على كل حال، تحولت الإسمية إلى أن تكون نوعاً من الحمض النووي بالنسبة للحضارة الأوروبية ذات العناصر الأساسية الثنائية فلسفياً والفردية اجتماعياً. بالاستناد إلى لاهوت القرون الوسطى السكولاستيكي، أصبحت الرفاهية مسعى الإنسان الغربي الأساسي. الإسمية (أو الثنائية) هي ركيزة التطور العلمي في العالم الغربي، أي تطور العلوم الإيجابية.
أما الشرق الأرثوذكسي فقد عرف تطوراً لاهوتياً مختلفاً، بإرشاد من زعمائه الروحيين، أي القديسين ومَن تبعهم من المؤمنين الحقيقيين الذين بقوا مخلصين للتقليد النبوي-الرسولي-الآبائي الذي يقف على الطرف النقيض للسكولاستيكية وكل تطوراتها في العالم الأوروبي. في الشرق، سيطرت الهدوئية أو الصلاة القلبية وهي العمود الفقري للتقليد الآبائي، ويعبّر عنها بالمشاركة النسكية التي تُختبر في الحقائق كشركة مع غير المخلوق. تاريخياً، الإيمان بإمكانية الانضمام إلى الله والعالم (المخلوق وغير المخلوق) محفوظ في الشرق الأرثوذكسي. وهذا طبعاً يعني رفض كل أشكال الثنائية. وقد كان تطور العلم في بيزنطية ضمن هذا الإطار.
ساهمت ثورة القرن السابع عشر العلمية في أوروبا الغربية في فصل حقلي الإيمان والمعرفة، وتسببت بالمبدأ الفلسفي الأكسيومي التالي: لا تقبل الفلسفة الجديدة (الإيجابية) سوى الحقائق التي يؤكدها الفكر العقلاني. هذه الفلسفة هي السلطة المطلقة في التفكير الغربي. حقائق هذه الفلسفة الجديدة هي وجود الله والنفس والبرارة والفضيلة والخلود والدينونة. بالطبع لا يتم قبولها إلا بتنوير إلهي، لهذا نجد الإلحاد أيضاً كعنصر في الفكر المعاصر. العقائد الكنسية المرفوضة بالمنطق هي: طبيعة الله الثالوثية، التجسد، التمجيد، الخلاص، وغيرها. من وجهة النظر الأرثوذكسية، لا يختلف هذا الدين الطبيعي والمنطقي عن الإلحاد، لا بل هو أسوا. فالإلحاد أقل خطراً من صورته المشوهة!
ب. العرفانية الأرثوذكسية
لقد قلنا أن التناقض بين الإيمان والعلم هو في الشرق مشكلة زائفة، لماذا؟ لأن العرفانية (gnosiology) في الشرق تُحدد بموضوع المعرفة المزدوجة: معرفة غير المخلوق ومعرفة المخلوق. وحده الثالوث القدوس غير مخلوق. الكون الذي يتحقق فيه وجودنا مخلوق. الإيمان هو معرفة غير المخلوق، والعلم هو معرفة المخلوق. إذاً هما نوعان مختلفان من المعرفة لكل منهما طريقته وسبل بحثه.
المؤمن، في حركته فوق أرض “الفائق الطبيعة”، أو معرفة غير المخلوق، ليس مدعواً إلى تعلم شيء ميتافيزيكياً أو لقبول شيء ما منطقياً، إنما إلى اختبار الله من خلال الشركة معه. هذا يتحقق بطريقة حياة أو أسلوب حياة يقود إلى المعرفة الإلهية.
لو ظهرت المسيحية لأول مرة في زمننا، لكانت أخذت شكل مؤسسة علاجية، مستشفى لاسترجاع واستعادة عمل الإنسان ككائن مؤلف من نفس وجسد. لهذا السبب يدعو القديس يوحنا الذهبي الفم الكنيسة مستشفى روحياً. تُفهَم المعرفة اللاهوتية الفائقة الطبيعة في الأرثوذكسية كخبرة حياة (pathos) وكمشاركة وشركة مع الحقيقة الشخصية المتعالية وغير المدرَكة لغير المخلوق. بالتأكيد هذه المعرفة ليست أبداً عملية تعلُّم. إذاً، الإيمان المسيحي ليس تبنياً تأملياً مجرداً لحقائق ماورائية، بالأحرى هو خبرة امتلاك beholding الكائن الحقيقي: خبرة الثالوث الفائق الجوهر.
إن هذا يعبّر بوضوح عن أن السلطة في الأرثوذكسية هي في الخبرة: خبرة المشاركة في غير المخلوق، معاينة غير المخلوق (كما يُعبر عنها بعبارة التمجيد أو theosis)، وهي لا تستند إلى نصوص ولا حتى إلى الكتاب المقدس. لا يُحفظ تقليد الكنيسة في النصوص بل في البشر. النصوص تساعد، لكنها ليست مَن يحمل التقليد المقدس. القديسون يحفَظون التقليد والكائنات البشرية هم حملة الإنجيل. وضع النصوص فوق الخبرة الفعلية لغير المخلوق هو دليل على تديين الإيمان، أي على جعله ديناً. هذا التديين يحوِّل هذه النصوص إلى إيديولوجيات وبالواقع إلى تأليهها. هذا بدوره يقود إلى سلطة النصوص المطلَقة (fundamentalism) وكل ما هو معروف كنتيجة لها.
الافتراض المسبَق لوظيفة معرفة غير المخلوق، بالنسبة للأرثوذكسية، هو رفض كل تشابه سواء طبيعي أو فوق الطبيعي في هذه العلاقة بين غير المخلوق والمخلوق. يلخّص القديس يوحنا الدمشقي هذا التقليد الآبائي بالطريقة التالية: من المستحيل إيجاد، في الخليقة، إيقونة تظهر طريقة وجود الثالوث. لأنه كيف يستطيع المخلوق، المركب والمتغيّر والموصوف، الذي له شكل ويفنى، أن يُظهِر بوضوح الجوهر الإلهي الفائق الجوهر الخالي من كل هذه الصفات؟ (P.G. 94,821/21).
إذاً، يصبح الآن ظاهراً سبب عدم اشتراط التقليد الآبائي لوجود مدارس التربية والفلسفة، على وجه التحديد، كفرض مسبق لمعرفة الله theognosia. فنحن نوقّر القديس أنطونيوس (+350) الذي لم يكن حكيماً بحسب المعايير الدنيوية، إلى جانب الأكاديمي العظيم القديس باسيليوس الكبير (+379). كلاهما شهدا لمعرفة الله، القديس أنطونيوس كشخص غير متعلم والقديس باسيليوس كشخص أكثر علماً من أرسطو. يختلف القديس اوغسطينوس (+430)، ما يجده الغربيّون مؤلماً جداً عندما يعرفوه، عن التقليد الآبائي عند هذه النقطة عندما يهمِل المعرفة الكتابية والآبائية ويكون بالجوهر أفلاطونياً محدِثاً Neo-platonist. ***مع هذا ال axiom credo ut intelligam (أنا أؤمن كي أفهم) إنه يُدخِل مبدأ أن الإنسان يصل إلى إلى فهم منطقي للوحي من خلال الإيمان. هذا يعطي أفضلية للعقل (الفكر) يعتبرها هذا النوع من المعرفة أداة أو وسيلة لمعرفة الطبيعي والفائق الطبيعة. يُعتَبَر الله موضوعاً ممكن المعرفة وممكن استيعابه بالفكر البشري مثل أي موضوع طبيعي آخر. بعد القديس أوغسطينوس، وبمساهمة سكولاستيكية توما الأكويني +1274، ديكارت بالخطوة التالية من خلال axiom cogito, ergo sum، أنا أفكر إذاً أنا موجود، قام بإعلان العقل أو الفكر الأساس الرئيسي للوجود.
ج) نوعا المعرفة
التقايد الأرثوذكسي هو مَن يضع نهاية لهذا التضارب النظري في حقل المعرفة، وهذا بالتمييز بين نوعي من المعرفة والحكمة.
1. الإلهية أو التي من فوق
2. الدنيوية (thyrathen) أو الدنيا.
المعرفة الأولى هي فائقة الطبيعة بينما الثانية طبيعية. هذا يتطابق مع التمييز الواضح بين غير المخلوق والمخلوق، بين الله والخليقة. هذان النوعان من المعرفة يتطلبان طريقتين للتعلّم. طريقة الحكمة-المعرفة الإلهية هي شركة الإنسان مع غير المخلوق من خلال القلب. إنها تتم من خلال وجود قوة الله غير المخلوقة في قلب الإنسان. طريقة الحكمة-المعرفة الدنيوية هي العلم وهي تتم بممارسة القدرة الفكرية-المنطقية عند الإنسان. الأرثوذكسية تضع تراتبية واضحة في هذين النوعين من المعرفة وطرقهما.
طريقة المعرفة الفائقة الطبيعة، في التقليد الأرثوذكسي، تُدعى الهدوئية وتتماهى مع اليقظة (nepsis) وتطهر القلب (katharsis). الهدؤئية تتماهى مع الأرثوذكسية. الأرثوذكسية، آبائياً، لا يمكن استيعابها خارج الممارسة الهدوئية. الهدوئية في جوهرها هي الممارسة النسكية الشفائية بتطهير القلب من الأهواء لإعادة إنارة القدرة النوسية في القلب. يجب الإشارة عند هذه النقطة، إلى أن طريقة الهدوئية كممارسة شفائية هي أيضاً علمية وعملية. إذاً، اللاهوت تحت الشروط المناسبة ينتمي إلى العلوم التطبيقية. التصنيف الأكاديمي للاهوت بين العلوم النظرية أو الفنون بدأ في الغرب في القرن الثاني عشر بسبب تحول اللاهوت إلى الماورائيات metaphysics. وعليه، الشرقيون الذين يدينون لاهوتنا يثبتون غربنتهم Westernization، لأنهم بالواقع يدينون ويرفضون كاريكاتوراً مشوهاً لما يعتقدونه لاهوتاً. ولكن ما هي القدرة النوسية؟ في الكتاب المقدس، يوجد تمييزاً بين روح الإنسان (نوسه) وعقله (الوغوس أو الفكر). روح الإنسان عند الآباء تُدعى نوساً لتمييزها عن الروح القدس. الروح، النوس، هي عين النفس (أنظر متى 22:6).
القدرة النوسية تدعى وظيفة النوس فس القلب وهي وظيفة القلب الروحية. الوظيفة الموازية لها هي القلب كعضو يضخ الدم في الأجساد. هذه القدرة النوسية هي جهاز mnemonic موجود مع خلايا العقل. هذه الإثنتان معروفتان وممكن للعلم البشري إيجادهما بينما لا يمكنه أن يستوعب النوس. عندما يبلغ الإنسان إلى الاستنارة بالروح القدس ويصبح هيكلاً لله، بتبدل حب الذات إلى حب غير مشروط ويصبح بالتالي ممكناً إقامة علاقات اجتماعية بشرية قائمة على مبادلة reciprocity غير مشروطة (إرادة بالتضحية من أجل أخينا الإنسان) أكثر منه مطالبة محبة للذات بحقوق شخصية بحسب روح المجتمع الأوروبي الغربي.
هكذا بعض النتائج المهمة تصبح واضحة. أولاً، أن المسيحية بأصالتها تتعالى على الدين ومفهوم الكنيسة كمجرد مؤسسة من القوانين والوظائف. بالإضافة، الأرثوذكسية لا يمكن أن تُفهَم كتبنٍ لبعض المبادئ أو الحقائق المفروضة علينا من فوق. هذه هي النسخة غير الأرثوذكسية عن العقائد (مبادئ مطلقة، حقائق مفروضة). في الأرثوذكسية، تُفحَص الأفكار والمعاني من خلال البرهان بالخبرة. نمط التفكير الجدلي-العقلي في اللاهوت، كما إصدار العقائد، غريبان عن التقليد الأرثوذكسي الأصيل.
في التقليد الأرثوذكسي، العالِم والأستاذ في معرفة غير المخلوق هو الشيخ (Geron/Starets/Elder/Spiritual Father)، إنه المرشِد أو “معلم الصحراء”. تسجيل نوعي المعرفة المذكورين يفترض معرفة الظاهرة اختبارياً.
الشيء نفسه صحيح في حقل العلم حيث يفهم الاختصاصي بحث غيره من علماء الحقل نفسه. تبني النتائج أو الاكتشافات في حقل علمي ما من قبَل غير المختصين (أي غير القادرين على فحص بحث الاختصاصيين اختبارياً)، مبني على الثقة بمصداقية الاختصاصي وإلا فلن يكون هناك تقدم علمي.
في علم الإيمان ينطبق الشيء نفسه. المعرفة الاختبارية عند القديسين، الأنبياء، الآباء والأمهات في كل العصور adopted ومؤسسة على الحقيقة نفسها. التقليد الآبائي ومجامع الكنيسة يقومون على هذه الخبرة الثابتة. ليس هناك مجمع مسكوني بغياب الممجدين/المتقدسين (theoumenoi) الذين يعونون الإلهيات (هذه مشكلة المجامع اليوم!). العقيدة الأرثوذكسية تنتج عن هذه العلاقة.
إذاً، الإيمان الأرثوذكسي هو عقائدي على نفس القدر الذي هو علم. الذين يتحدثون عن زغل في حقل الإيمان، يجب ألا ينسوا كلمات مرقس بلوخ أن كل بحث علمي مزغول منذ البداية وإلا لم يكن أي بحث ممكناً. المثل صحيح في الإيمان. الأرثوذكسية تميّز بين نوعين من المعرفة والحكمة وطرقهما ووسائلهما وبالتالي تتلافى أي خلط أو تضارب بين الإثنين. يبقى الطريق مفتوحاً للخلط والتضارب فقط حيث تُفتَقَد شروط المسيحية وجوهرها. على أي حال، يوجد في المناخ الأرثوذكسي بعض التشابهات غير المنطقية، كإمكانية وجود شخص متفوق في العلم بينما في المعرفة الإلهية هو طفل روحياً، وعلى العكس ممكن وجود شخص ما عظيم في المعرفة الروحية وجاهل كلياً في الحكمة البشرية، كمثل القديس أنطونيوس الكبير المذكور سابقاً. مع هذا، ليس هناك ما يمنع إمكانية امتلاك نوعي المعرفة/الحكمة كما الحالة عند الآباء والأمهات الكبار في الكنيسة. هذا هو بالضبط ما تنشده الكنيسة للقديسة كاترينا التي كانت عالمة في الرياضيات في القرن الثالث، فهي الحكيمة التي اكتلكت نوعين من المعرفة. فالشهيدة التي اكتسبت حكمة الله منذ الطفولية، تعلمت الحكمة الدنيوية أيضاً…
د. جدلية الإله-الإنسان
إذاً، المؤمن الأرثوذكسي يختبر في العلاقة المعرفتين/الحكمتين جدلية إليهية بشرية. وكي نستعمل التعابير الخريستولوجية، كل معرفة يجب أن تنحصر وتتحرك ضمن حدودها. هكذا يُعَبَّر عن مشكلة حدود كل معرفة: تخطي هذه الحدود يؤدي إلى خلط وظائفها وبالنهاية إلى تصادمها. بحسب ما سبق، دافع الآباء القديسون عن الاستعمال الصحيح للعلم والتربية. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “يجب ألا نقلل من قيمة التربية”. الأب نفسه في عظنه التعليمية الثانية يضع أيضاً حدود كل من الحكمتين. يقول القديس غرسغوريوس أن الحكيم القديم (أفلاطون) قال: “من الصعب معرفة الله ومن المستحيل التعبير عنه بالكلمات”. على أي حال، يوناني آخر ولكنه مسيحي، القديس غريغوريوس يفهم أنه من المستحيل التعبير عن الله، أي وصفه، بالكلمات، إلى هذا، من المستحيل جداً فهمه! هذا يعني أن أفلاطون أشار إلى حدود المنطق البشري ومن الضروري أن نضيف أنه لا يوجد أي rationalism في الفلسفة الإغريقية القديمة. يبرهن القديس غريغوريوس استحالة تخطي هذه الحدود واستيعاب غير المخلوق عن طريق معرفة المخلوق.
القديس باسيليوس الكبير أشار إلى التمييز والتراتبية الموازية لنوعي المعرفة في قوله أن الإيمان يجب أن يتقدم على الكلمات المتعلقة بالله والبراهين التي يصنعها العقل. الإيمان ينشأ من عمل وقوة الروح القدس. الإيمان عند القديس باسيليوس هو إنارة الروح القدس في القلب (P.G. 30,104B-105B). وهو يعطس أيضاً مثالاً كلاسيكياً حول استعمال الأرثوذكس للمعرفة العلمية في كتابه عن الخلق Hexameron (P.G. 29, 3-208). إنه repudiates نظريات الفلاسفة الكونية والوقائع العلمية ومن خلالها يتخطى العلم. إلى هذا، برفضه التعاليم المادية والهرطوقية يصل إلى التفسير اللاهوتي، وليس الماورائي، لطبيعة الخليقة. الرسالة المركزية في هذا العمل هي أن الدعم المنطقي للعقيدة مستحيل استناداً إلى العلم. الفعقيدة تنتمي إلى جو sphere آخر. إنها فوق المنطق والعلم ولكنها ضمن حدود معرفة أخرى. استعمال العقائد مع المعرفة الدنيوية يقود إلى تحويل العلم إلى الماورائيات. بينما استعمال العقل في مجال الإيمان يثبت ضعفه ونسبيته. إذاً ليس هناك قناعة لا يتم البحث عنها في المعرفة الأرثوذكسية، ولكن كل حقل يُبحَث فيه بمواصفاته الخاصة: العلم بافتراضاته والمعرفة الإلهية بافتراضاتها.
أتعس تعبير عن تغرُّب الجسم المسيحي هو المقاربة الكنسية لغاليلو في الغرب حيث تحطت الحالة حدود القوانين. ولكن الأمر هو أكثر جدية حيث أنه خلط حدود المعرفة وتضاربها. إن فقدان الحكمة التي من فوق في الغرب وطريقة تحقيق هذا أدّى إلى استعمال العقل كوسيلة ليس فقط للحكمة البشرية بل أيضاً للإلهية. استعمال العقل في حقل العلم يؤدي، بشكل لا يمكن تلافيه، إلى رفض ما فوق الطبيعة وفوق الفهم، واستعماله في حقل الإيمان يؤدي إلى رفض العلم حين يتضارب مع الإيمان. طريقة التفكير نفسها وانعدام الأسس أيضاً ظهرت في رفض نظام كوبرنيكوس في الشرق. العلم بدوره انتقم من إدانة الكنيسة الرومانية لغاليلو في شخص داروين مع نظريته في التطور.
ه. الزرع الاصطناعي للمسألة الغربية في الشرق الأرثوذكسي
يتألف التنوير الأوروبي من صراع بين الاختبارية الفيزيائية وماورائيات أرسطو. التنويريون هو فلاسفة وهم مفكرون أيضاً. التنويريون اليونان مع أدمانتيوس كورياس كمتقدم عليهم، كانوا ماورائيين في لاهوتهم وهم مَن نقل الصراع بين الاختباريين والمورائيين إلى اليونان. في أي حال، رهبان الجبل المقدس الأرثوذكسيون، الكوليفاد وغيرهم من الآباء الهدوئيين، بقوا اختباريين في طريقتهم اللاهوتية. إدخال الماورائيات في لاهوتنا الشعبي والأكاديمي سببه، بشكل رئيسي كورياس. ولهذا السبب أصبح مرجعية لدى لاهوتيينا الأكاديميين كما لدى الحركات الأخلاقية الشعبية. هذا يعني أن تطهير القلب لم يعد يُعتَبَر شرطاً مسبَقاً للاهوت وأخذت التربية السكولاستيكية موضعه. الشيء نفسه جرى في روسيا على أيام بطرس الأكبر (القرنان 17-18). إذاً الآباء اعتُبِروا فلاسفة (أفلاطونيون جدد بشكل رئيسي كأوغسطين مثلاً)، وناشطين اجتماعيين. هذا أصبح المثال الأول للتقويين في اليونان بالإضافة إلى هذا، رُفضَت الهدوئية على أنها ظلامية. أفكار كورياس التقدمية تنشأ من أنه كان داعماً للكالفينية وليس لاستعمال الرومان الكاثوليك للماورائيات، وأعماله اللاهوتية محملة بهذه التقوية (الأخلاقية) الكالفينية.
في أي حال، بالنسبة للآباء، الأرثوذكسية هي ضد الماورائيات كونها تبحث باستمرار عن الواقع الاختباري بالطريقة الهدوئية. لهذا السبب هدوئية الكوليفذ هي اختبارية وعلمية. النسبة بحسب القديس نيقوديموس الأرثوسي هي اختبارية. هذا يظهر في طريقة قبول هدوئيي القرن الثامن عشر للتقدم العلمي في الغرب فهم اعترفوا بالنظريات العلمية كما فعل، على سبيل المثال، القديس نيقوديموس في عمله Symbouletikon حيث يقبل بآخر نظريات زمانه حول عمل القلب. القديس أثناسيوس باريوس لا يحارب العلم نفسه بل استعماله من قِبَل التنويريين المتغربنين في الأمة اليونانية. فهم رأوا العلم كعمل الله وكتقدمة لتحسين الحياة. لكن لاهوتيي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التقليديين قاوموا استعمال العلم في صراع ماورائي ضد الإيمان، كما كانت الممارسة في الغرب. تكمن الأخطاء من جانب التنويريين اليونان الذين ، بدون أي علاقة مع الآراء الآبائية حول المعرفة، مع أن بعضهم كان من الكهنة والرهبان، نقلوا الصراع الأوروبي بين الماورائيين والاختباريين إلى اليونان، متكلمين عن الدين غير العقلاني. في حبن أن آباء الأرثوذكسية في تمييزهم بين نوعي المعرفة يميزون في الوقت نفسه بين العقلي والفائق العقل.
مشكلة الصراع بين العلم والإيمان، بمعزل عن تضارب المعرفة، أدّى إلى تأليه نوعي المعرفة. وهكذا نشأ دفاع ضعيف ومَرَضي في المسيحية (مثلاً أحد أساتذة الدفاعيات كتب برهاناً حسابياً عن وجود الله!). في الأرثوذكسية في كل حال هذه الازدواجية ليس قائمة بذاتها. لا شيء يستثني تعايش الإيمان والعلم عندما لا يكون الإيمان ماورائيات خيالية ولا يشوه العلم وجهه الإيجابي باستعمال الماورائيات. التفاهم المتبادل بين العلم والإيمان يتقوى باللغة العلمية المعاصرة.
مبدأ اللاحتمية (انعدام السببية) هو نوع من apophatism في العلم. عليه، العودة إلى الآباء تساعد في تخطي الصراع. قبول محدودية نوعي المعرفة (غير المخلوقة والمخلوقة) واستعمال العضو المناسب أو الطريقة الملائمة لكل منهما، هو العنصر الأرثوذكسي والآبائي الذي يضع الحكمة الأرضية تحت المعرفة الإلهية.
على العكس، إن تضارب نوعي المعرفة في الفكر الغربي يعزز سوء التفسير المتبادل بينهما ويتابع ويقوي صراعهما. إن كنيسة متمسكة باللاهوت الماورائي سوف تبقى دائماً مضطرة لطلب السماح من غاليلو. كما أن علماً يهمل حدوده سوف يتقهقر إلى الماورائيات وسوف يعالج وجود الله، ما ليس من مسؤوليته، أو سوف ينكر الله كلياً.