التقليد والكتاب المُقَدَّس
الأب ميشال عزقول
نقلها إلى العربية بتصرّف الشماس الياس بركات
الكنيسة هي “جسد المسيح” ولذلك فهي عضو مهم. الأرثوذكسية جسدٌ ينمو وهي “امتداد للتجسُّد” كما قال الآباء.
هناك مسيحٌ واحد ولذلك توجَد كنيسةٌ واحدة هو مقدَّس ولذلك هي مقدَّسّة المسيح جامع catholic)) والكنيسة كذلك المسيح رسولي والكنيسة كذلك الكنيسة تُفهَم في ما يتعلق بشخص المسيح.
التقليد كذلك هو “واحد” موجود في كنيسة الله “الواحدة” التقليد مقدس لأن الكنيسة مقدسة التقليد جامع مثل الكنيسة التقليد كامل وغير محدود في المكان والزمان. وهو رسولي أو “مُرسَل” مع الكنيسة التي أساسها المسيح والرسُل. فما هو التقليد؟
أولا يجب تفريقه عن العادة أو العرف. العادة ممارسة أصبحت مألوفة (معتادة) في زمان ومكان مُعَيَّنَين، وأحيانا في كل الكنيسة ـ مثل قرع الأجراس عند ابتداء المجدلة الكبرى، أو تقديم خمسة أرغفة للتقدمة. العادات وُضِعَت لحاجات زمنية وتبقى ما دامت لها حاجة. والعادات تتغير. الأسقف يمكنه إعطاء حلِّ لأي عادة (له السلطان لإلغائها أو تعديلها). فهي ممارسات لنظام معين أو وسائل أو طُرُق عملية. البعض منها مهم كالصوم قبل المناولة. وبعضها جميل ومُبهِج كتقديم العنب في عيد التجلي. والبعض منها خاطئ ويجب عدم ممارسته كالمناولة مرة في السنة.
التقليد في اليونانية paradosis وهو مشتق من paradidomi وتعني أن يُسَلِّم، أن يعهد، أن يودِع. وهو يحتوي كامل مستودَع الإيمان المسيحي. تسلمته الكنيسة من الله الي ائتَمَنَها على رعايته. التقليد يشمل “العقيدة” و “التعليم”.
العقيدة هي حقيقة كشَفها (جاهر بها) مجمع مقبول من كامل الكنيسة. التعليم مُلزِم كالعقيدة ولازِم للخلاص وليس له شكل معين.
إن قلنا أن المسيح إله وإنسان ـ فهذه عقيدة. بينما عدد الأسرار يندرج تحت التعليم.
عادةً ما نخلط بين التقليد والعادة. أو ما بينه وبين ما نكرر عمله. إن قرأنا أو سمعنا شيئاً يتردد نقول عنه ـ تقليد. وإن قرأنا عنه أكثر، نظن أنه إيمان أو اعتقاد منقول شفهياً ونقارنه مع ما هو مكتوب ـ الكتاب المقدس.
كلا الأمرين غير صحيحين.
التقليد شفهي ومكتوب، إن بالكلام أو برسالة: “حافظوا على السُنُن التي أخذتموها عنا، إما مُشافهةً وإما مُكاتبةً”. (2 تس 2: 15).
التقليد تاريخي ويعطي الحقائق. يمكنه أن ينمو هو كذلك: باستمرار، بثبات، إلى أعلى، إلى أعمق، إلى أوسع ولكنه هو دائماً نفسه. فالإنسان ينمو ولكنه لا يزال نفس الإنسان، عند الولادة، في العشرين أو الخمسين من عمره. فِهمُنا للمستودَع الأساسي للإيمان يزداد.
الكلام الشفهي ـ بالفم ـ يدعوه بولغاكوف “ذاكرة الكنيسة”. تماما مثل الذاكرة البشرية التي تخزن الخبرات والأفكار. ذاكرة الكنيسة تشكل سلوك (موقف أو اتجاه) الكنيسة. تتذكر بأن الله تجسد، وأنه علّم قِيَمَ روحية وأخلاقية حقّة، وأن يهوذا خانه، وأنه صُلِب ومات ودُفن وقام وصعد إلى السماء وأن عمل المسيح أكمَلَه الرُسُل ومَن خَلَفَهم. وبأن لها أعداء كآريوس، وأنها قاومت محاربي الأيقونات وأنه حصل فيها انقسام.
كل خبرة جعلت المستودع ينمو، التقليد ـ الشفهي والمكتوب ـ ليس رأياً بشرياً بل حقيقة “مُستَلَمَة” من الرسل الذين المسيح علَّمهم. وهم سلموا، أعطوا، أودعوا تلك الحقائق إلى خلفائهم الذين هم علَّموهم وقد حُفِظَت في قلوب وضمائر المؤمنين. الخزان أو المستودع أو الوديعة الأصلية للتقليد كُتِبَت في عدة كُتُب، بعضها 30 سنة بعد الصعود. هذه الكتب تشكل العهد الجديد. وقد ضُمَّت إلى العهد القديم وسُميت Biblos أي الكتاب the Book وما نعرفه شعبياً بالكتاب المقدس.
المنطق يقول بأن الإنسان لا يكتب كل ما يعرفه وفي ذات الوقت لا يتركه بدون كتابة! (ولذلك نراه يشرح ويزيد إذ يُدعى إلى الندوات ليتحدث عن كتابه وأفكاره التي سكب جزءاً منها في ذلك الكتاب….المترجم) وكذلك الكنيسة.
العهد االجديد يُشكِّل يوميات خبرتها الأولى. كان أول كتاباتها، وكل ما كُتِب لاحقا يعتمد عليه. الكتاب المقدس أهم كُتُبها. العهد القديم ضُمَّ إلى الجديد لأنه موحى به من الله بسبب تنبّوئه عن المسيا. العهد الجديد هو تاريخ حياته وعمله واستمراره وتتمته في الكنيسة الأولية.
يقول خومياكوف: “العهدان اللذان تعتبرهما الكنيسة خاصتها يُدعيان الكتاب المقدس. ولكن لا حدود للكتاب: فكل ما تعتبره الكنيسة من كتاباتها هو مقدس. من هذا المنطلَق فالكتاب المقدس وكتابات الآباء وعقائد المجامع المسكونية والمحلية هي مقدسة بمقدار ما تعبِّر عن إيمان الكنيسة.”
تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بتقليد شفهي الذي، مع الكتاب المقدس يؤلفان الإيمان المسيحي. والإنجيل لا يدّعي أنه وحده مصدر الإيمان. “وهناك أمور أخرى كثيرة أتى بها يسوع، لو كُتِبَت واحداً واحداً، لحسبت أن الدنيا نفسها لا تسع الأسفار التي تُدوَّن فيها.” (يو 21: 25). وهذا ما صرح به مارتن لوثر في القرن 16.
بدون تقليد شفهي يكون الكتاب المقدس رسالة ميتة. فهو غامض وصعب الفهم!
t “فبادَر فيلبس إلى المركَبَة فسمِع الخصي يقرأ النبي أَشَعْيا، فقال له: هل تفهم ما تقرأ؟ قال: كيف لي ذلك إن لم يُرشدني أحد؟” (إع 8: 30 ـ31).[وكم من معارفي ذكروا لي أنهم يجدون صعوبةً في فهم العهد الجديدالمترجم]. وهو يذكر التقليد الشفهي:
t “امتَثِل الأقوال السليمة التي سمعتَها مني، امتثِلها في الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع. إحفظ الوديعة الكريمة بالروح القدس الذي يُقيم فينا.” (2 تي 1: 13 ـ 14).
t “واستودِع ما سمعتَه مني بمحضر كثيرٍ من الشهود أُناساً أُمناء جديرين بأن يعلِّموا غيرهم.” (2 تي 2: 2).
t “فاثبتوا إذن أيها الإخوة، وحافِظوا على السُنن التي أخذتموها عنا، إما مشافَهَةً وإما مُكاتَبَةً.” (2 تس 2: 15).
وفي مقاطع عديدة يخبرنا الكتاب المقدس بأن تعاليم المسيح نقلها معلمون مقامون من الله:
t “فدنا يسوع وكلمهم قال: إني أُوليت كل سلطانٍ في السماء والأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم…” (مت 28: 18).
t “وقال لهم: اذهبوا في العالم كله وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين.” (مر 16: 15).
t “مَن سمع إليكم سمع إليّ. ومن أعرض عنكم أعرض عنّي، ومن أعرض عنّي أعرض عن الذي أرسلني.” (لو10: 16).
t “فبدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما في جميع الكتب ما يختصُّ به.” وأيضا “وأنتم شهودٌ على هذه الأمور.” (لو 24: 27 و48).
t “وأنا سأسأل الآب فَيَهَب لكم مؤيداً آخَر يكون معكم للأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يتلقاه لأنه لا يراه ولا يعرفه أما أنتم فتعلمون أنه يُقيم عندكم ويكون فيكم.” (يو 14: 16 ـ 17).
t “قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيمٌ عندكم ولكن المؤيِّد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلِّمكم جميع الأشياء ويُذكِّركم جميع ما قلته لكم.” (يو14: 25 ـ 26).
t “ومتى جاء المؤيد الذي أُرسِلُه إليكم من لدُنِ الآب روح الحق المنبثق من الآب فهو يشهد لي وأنتم أيضا تشهدون لأنكم معي منذ الَبدء.” (يو 15: 26 ـ 27). t “فمتى جاء هو ، أي روحُ الحقّ، أرشَدَكم إلى الحقّ كلِّه لأنه لن يتكلّم من عندِه بل يتكلَّم بما يسمع ويُخبرُكُم بما سيحدُث.” (يو 16: 13).
لم يكتب يسوع أي شئ ولم يأمر رُسُلَه بالكتابة. بالأحرى سيفسِّر تعاليمَه الرسُل وخُلفاؤهم
t “وكيف يَدعون مَن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمَن لم يسمعوه؟ وكيف يسمعونه من غير مُبَشِّر؟ وكيف يُبّشِّرون إن لم يُرسَلوا؟ وقد ورد في الكتاب: ما أحسن أقدام الذين يبشِّرون. ولكنهم لم يُذعِنوا كلّهم للبشارة، فقد قال أشَعيا: ياربّ، مَن آمَن بما سَمِعَ منّا؟ فالإيمان إذاً مِن السِماع، والسِماع يكون سَماعَ كلامٍِ على المسيح. على أني أقول: أتُراهم لم يسمعوا؟ بلى، لقد ذهبَ صوتُهم في الأرضِ كلِّها وأقوالهم في أقاصي المعمور.” (رو 10: 14 ـ 18) لقد عَرَّفوا عن أنفسهم كسفراءَ لله.
t “به نلنا النعمة بأن نكون رسولاً، فنهدي إلى طاعة الإيمان جميعَ الأمم الوثنية، إكراماً لاسمه.” (رو 1: 5).
t “لأني ما كنت لأجرؤ أن أذكر شيئاً، لو لم يُجرِهِ المسيح عن يدي لهداية الوثنيين إلى الطاعة بالقول والعمل.” (رو 15: 18).
t “فمَنِ الذي عرف فكر الرب ليعلِّمه؟ وأما نحن فلنا فكرالمسيح.” (1 كو 2: 16).
t “نحن عاملون معاً في عَمَلِ الله، وأنتم حقلُ الله وبنيان الله.” (1 كو 3: 9).
t “أما نحن فإننا من الله. فمَن عَرَفَ الله أصغى إلينا ومَن لم يكن من الله لم يُصغِ إلينا. بذلك نعرِف روحَ الحقِّ من روح الضلال.” (1 يو 4: 6).
من هذا نرى بأن حقائق الكنيسة ليست حكرا على الكتاب المقدَّس. فهو نِتاج الكنيسة وليس العكس.
فتقليد الكنيسة شفهي وكتابةً. فالمكتوب هو الكتاب المقدّس المعصوم عن الخَطأ كما كتابات الكنيسة الأخرى. العهد الجديد يتضمّن تعاليم أُعطيَت لشعب الله بواسطة كُتَاب مُلهَمين؛ العهد القديم يتضمّن تعاليم لأناس كانوا في وقتٍ ما شعب الله. العهد القديم معصوم كذلك عن الخطأ والعهد الجديد يكمِّلُه. لا نفهم العهد الجديد إلا على ضوء القديم. المسيح أُنبئ به في العهد القديم ونبؤآته تمَّت في شخص المسيح.
العهد الجديد يعتمد على التقليد الشفهي في كتابة حقائقه، إن كانوا شهودَ عيان كالقديس يوحنا أو بمَن سمِعوا عن الأحداث كالقديس لوقا. أما بالنسبة لسائر كتابات العهد الجديد فالتقليد كان ثمرة خبرة الذين كتبوها بما خصَّ الله والإنسان. الكتاب المقدس لا يُفهَم بدون التقليد الشفهي كما تبرهن الطوائف البروتستانتية بعدم وحدتها وانقساماتها المتوالية.
تقليد الكنيسة الشفهي والمكتوب هو مُلهَم من الروح القدس (كامل عقيدة الكنيسة وتعاليمها موحاة بالروح القدس). الكتاب المقدس نفسُه هو موحى به بالروح القدس لمنفعة شعب الله. الكتاب المقدس معصوم لأن الكنيسة تتبناه وتقبلُه ولأن أعضاءها كَتَبوه. فقد كَتَبَته الكنيسة وكُتِبَ من أجلها حيثما يحلُّ الروح القدس. الكتاب المقدّس يبرهن بأن ما تقوله الكنيسة هو ذاتُه منذ البَدءِ حتى الآن، وتبرهن بأن التقليد الشفهي ينمو باتِّجاهٍ واحد ولا يناقض نفسَه أبداً. الكنيسة تستلهم الكتاب المقدّس كوثيقة معاصِرَة لحقائق تاريخية.
فالتقليد إذاً، ليس شيئاً تكراراً، لكنه ينمو ونموّه محفوظ في كتاباتٍ مُثبَتَة بكلام شَفَهي. النمو يحدث في الكنيسة وخلال تاريخها. فهو يتراكم ويُكنَز بطريقة عضوية. فلا تقبل الكنيسة شيئاً من خارج ولا تطرح شيئاً إلى خارج. الكتاب المقدّس الذي هو جزء من التقليد، هو تجميعٌ للوثائق التي تشهد على إيمان الكنيسة. الكتاب المقدّس هو للكنيسة وليست الكنيسة للكتاب المقدّس وهو لا يناقض التقليد الشفوي لأنه أُعطيَ وسُلِّمَ للكنيسة من يسوع والرُسُل. لذلك فالتقليدان الشفهي والكتابي سيظلاّن ينموان حتى مجئ الرب الثاني.