لاهوت الكنيسة واللاهوت المسبيّ إلى بابل
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
محاضرة أُلقيت في معهد البلمند في موسم الصوم الكبير، 17 / 3 / 2003
العنوان في الأساس كان: “اللاهوت والصوم”، هذا غيّرناه لدلالة أوفى على المضمون
مدخل
كثيراً ما نسهو عن أن اللاهوت ليس علم اللاهوت وحسب بل هو، بالدرجة الأولى، الألوهة عينها. بهذا المعنى ورد عن الرب يسوع المسيح له المجد أن فيه “يحلّ كل ملء اللاهوت جسدياً” (كو 2: 9). إذا كان مقابل عبارة “علم اللاهوت” في اليونانية هو Theologia فمقابل لفظة الألوهة في الرسالة إلى أهل كولوسي هو Theόtitos. أن تجمع اللغة العربية المعنيين في لفظة واحدة غنى جميل معَبِّر. اللفظة العربية، فيما يظنّ، سريانية الأصل. اللفظة المقابلة في السريانية هي alohoûto.
والحقّ إن طبيعة العلاقة العضوية بين الألوهة وعلم اللاهوت، أي بين اللاهوت وعلم اللاهوت، تجعل جمعهما في لفظة واحدة أسلمَ وأوفق وأدنى إلى الدلالة العميقة لكليهما معاً. فثمّة رباط بينهما إذا ما انفكّ وجدنا أنفسنا في مواجهة خطر التعاطي مع علم اللاهوت كمجموعة أو كمجموعات من التأمّلات والتفكّرات والتجريدات والتصوّرات البشرية البحتة لهذا وذاك من الكتّاب. نحن، والحال هذه، بإزاء علم بشري، كسائر العلوم التي ابتدعها الإنسان كالهندسة والطبّ والقانون، مع فارق في الموضوع وحسب، اننا نتعاطى في علم اللاهوت أفكاراً عن الله هي أدنى إلى الاستنسابات. وحيث الاستنساب يُفتقد اليقين. ومع أن هناك، إلى اليوم، أنظمة لاهوتية، في هذه الكنيسة أو تلك، هي أدنى إلى الفلسفة المطبّقة على الإلهيات، لا سيما في مجال ما يسمّونه “ما ورائيّات”، فإننا لا نعرف اللاهوت في تراثنا على هذا النحو. اللاهوت، عندنا، يتعاطى العقائد ولكن من حيث هي التعبير الحيّ الذي صاغته الكنيسة وحفظته، عن الحقائق الفائقة التي تتخطّى الاستدلال العقلي، والتي اختبرها الأنبياء وكذا الرسلُ والقدّيسون. هؤلاء لم يتسنّ لهم أن يتكلّموا على الله إلاّ لأنهم تنقّوا لله واستناروا وعاينوه في مجده، وقد اتّحدوا به نظير كرة الحديد تلقى في النار فتصير ناراً وتحافظ على طبيعتها كحديد في آن. هذا التحديد يفترض وجود علاقة مميَّزة بين دارس الإلهيات واللاهوت الحيّ. يُخبر عمّا خبِر. لكننا، بإزاء واقعنا الراهن، نجد أنفسنا، في إطار العقلانية الكاسحة التي تعتور مقاربتنا لكل موضوع إلهي، نتعاطى الإلهيات، إلى حدّ بعيد، وكأنها قائمةٌ في ذاتها من دون الله، مستقلّةٌ عن الله، ضرب من الإيديولوجيّة. نتعاطاها كفكر بشري عن الله، ولكن بمعزل عن فكر الله أو بنسبة هذا الفكر البشري إلى الله مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
بتر علم اللاهوت اليوم عن الإلهيات الحيّة واللاهوتي عن القداسة وغض الطرف عن تلازم المسارَين أمر يدعو إلى القلق وإلى التقويم. ما سنفعله، في هذا المقام، هو أننا سنسلِّط بعض الضوء على ما نسمّيه “السبيَ اللاهوتي” وضرورةِ تقويم الإعوجاجات الحاصلة التي باتت مطبَّعة وصارت معتبرة تحصيل حاصل إلى حدّ بعيد، ربما أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الكنيسة.
علم اللاهوت إيقونة
علم اللاهوت، عندنا، في كنيسة المسيح، هو إيقونة المسيح صيغت بكلمات وبُثَّت وجرى اختبارها استناداً إلى الإعلان الإلهي والتراث الكنسي المعيوش. وكما نعرف، الإيقونة مرتبطة بالأصل الذي تشير إليه ولنا بها حضور إلهي. المسيح حاضر في إيقونته، في كلماته. إيقونته امتداد لجسده فيما بيننا. لهذا نحن لا نقرب الإيقونة إلاّ بتوقير. اخلع نعلَيك، أي ما هو ملتصق بترابيتك، فإن الأرض التي أنت واقف عليها أرض مقدّسة. لا تكون القدسات إلاّ للقدّيسين. لهذا نُقبِّل الإيقونة، نكرمها، نسجد أمامها لأنها حضور. علم اللاهوت أيضاً حضور. لا يجوز لنا أن نتعاطى الكتاب المقدّس، مثلاً، كمجرّد كتاب لأنه حضور لله. كما لا يجوز أن نتعاطى كلماته بالخفّة التي يُتعاطى فيها كلام الناس. دونكم بعض ما ورد على لسان القدّيس يوستينوس بوبوفيتش (+1979م)، إثباتاً لهذا الطابع الحيّ للكتاب المقدّس:
· الكتاب المقدّس هو، بمعنى، سيرة الله في هذا العالم. مَن هو غير قابل للوصف ارتضى، في الكتاب المقدّس، بمعنى، أن يصف نفسه… والكتاب المقدّس أيضاً هو سيرة كل إنسان، كائناً مَن كان… فيه تجد التاريخ الكامل للخطيئة والخطيئية Sinfulness والتاريخ الكامل للبرّ والأبرار.
· كيف نقرأ الكتاب المقدّس؟ صلاتياً وبتوقير لأن في كل كلمة من كلماته نقطةً من الحقيقة الأزلية، ومجموع الكلمات يكوّن المحيط الذي لا حدّ له للحقيقة الأزلية.
· ليس الكتاب المقدّس كتاباً بل حياة لأن كلماته “روح وحياة” (يو 6: 36). لذا لا يمكن لكلماته أن تُفهم إلاّ إذا درسناها بروح من روحها وحياة من حياتها. هو كتاب يُقرأ بطريقة حيّة أي بوضعه موضع التنفيذ. على المرء أن يحيا فيه أولاً ليبلغ إلى فهمه. على هذا تنطبق كلمات المخلّص لمّا قال: “إن شاء أحدٌ أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله” (يو 7: 17). إعملْ بحسب الكتاب المقدّس تفهمْه. هذه هي القاعدة الأساسية للتفسير الكتابي الأرثوذكسي.
· المهم أن يقرأ المرء الكتاب المقدّس ما وجد إلى ذلك سبيلاً. حين لا يفهم العقل ما يُقرأ فإن القلب سيشعر بقوّة الكلمات. وإذا لا العقل استوعب ولا القلب شعر إقرأه، في كل حال، وأعد قراءته لأنك إذ تفعل تبذر كلمات الله في نفسك. وهذه لن تفنى بل ستنفذ إلى طبيعة نفسك. إذ ذاك يحصل لك ما قاله المخلّص في شأن الإنسان الذي “يُلقي البذار على الأرض وينام ويقوم ليلاً ونهاراً والبذار يطلع وينمو وهو لا يعلم كيف” (مر 4: 26 – 27).
مصدر علم اللاهوت
نُخطئ إذا كنّا نظنّ أن علم اللاهوت نستمدده، قصراً، من التراث المدوّن، وبخاصة من الكتاب المقدّس. ما سبق أن دُوِّن دوِّن لدواع دعت إليه. ولكن هناك ما هو أرحب وأشمل من المدوّنات مع التنويه، طبعاً، بأهميتها وقيمتها القاعدية الأساسية. هذا الأرحب والأشمل هو حياة الكنيسة وعمل الروح القدس فيها أو قل هو التقليد المقدّس. علينا ألاّ ننسى كما يذكّرنا قدّيسون كالذهبي الفم وثيوفيلاكتوس البلغاري “أن رجال الله، في الأساس، لم يعرفوا الله من خلال الكتب والمدوّنات، ولكنْ لأن أذهانهم كانت نقيّة استناروا بالروح القدس. على هذا النحو حصلت لهم معرفة الله بالحوار المباشر معه. هذه كانت حال نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيّوب وموسى مثلاً. ولكن لمّا فسُد الناس وما عادوا أهلاً لأن ينيرهم الروح القدس ويعلِّمهم، يومذاك أعطاهم الإله المحبّ البشر، رأفة بهم، الكتاب المقدّس ليتمكّنوا به من أن يتذكّروا إرادة الله” (مقدمة تفسير إنجيل متّى). ثم إن أهمية التراث المدوّن والتراث الشفهي في آن باقية إياها، بحسب القدّيس يوستينوس الصربي، لأنه إذا كانت قد طرأت حاجة دعت إلى تدوين جزء من التقليد المقدّس، فيما سُمِّي بـ “كتب العهد الجديد”، بعد الزمن الأول للرسل القدّيسين، فإن القسم الأكبر من هذا التقليد المقدّس جرى نقله، في الكنيسة، بالصوت الحيّ، سواء بواسطة الرسل أنفسهم أو بواسطة تلاميذهم. من هنا أن التقليد المقدّس والكتاب المقدّس في الكنيسة متكاملان، ولا يقوم الواحد من دون الآخر. في ضوء هذا نفسِّر ذاك وفي ضوء ذاك يفسَّر هذا. بكلام القدّيس إيريناوس الليّوني: “مَن يجهلون التقليد لا يمكنهم أن يجدوا الحقيقة في الكتاب المقدّس” (ضد الهرطقات 3: 2 و 4: 6). “والذين يفسِّرون الكتاب المقدّس بخلاف تقليد الكنيسة قد أضاعوا قاعدة الحقّ” (القدّيس كليمنضوس الإسكندري. ستروماتا 1: 7).
على هذا فإن ما تسلّمته الكنيسة من الرسل وما اختبرته بالأمس وتختبره اليوم، في الروح القدس، ما دوّنته وما لم تدوّنه، هو المَعين الذي لا ينضب ولا يُحدّ لعلم اللاهوت على امتداد الأجيال. بالروح القدس الواحد وفكر المسيح الواحد تبقى الكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية، أمساً واليوم وغداً، وأبواب الجحيم لا تقوى عليها. الكنيسة الحيّة بالروح القدس لا المدوّنات وحسب هي الأساس والضمانة.
ممَن نأخذ اللاهوت في الكنيسة؟
أولاً وأخيراً من الرب يسوع المسيح لأن فيه حلّ ملء اللاهوت جسدياً. الحقيقة أن نور ثابور، نور التجلّي، النور المتدفّق من الرب يسوع المسيح، كما أشار القدّيس غريغوريوس بالاماس، يجعل الأرض موضعاً إلهياً جماله يكاد لا يُحتمل. يكفي أن ينعم المرء بنفس قويمة ومقاصد صالحة، على حدّ تعبير الشيخ يوسف الهدوئي، حتى يضفي عليه الربّ الإله نوراً بطرق شتّى (الرسالة الأربعون). كلٌّ معطى أن يعرف الله. هذا ما شاءه الربّ الإله: أن يُقبل الجميع إلى معرفة الحقّ أي معرفته هو لأنه هو الحقّ. هُداتنا أو قل معلِّمونا أو قدواتنا، في هذا السياق، هم القدّيسون. “خارج حدود القدّيسين”، على حدّ تعبير القدّيس يوستينوس الصربي، “ليس هناك معلّمون حقيقيون ولا مربّون. من دون القداسة ليس هناك تعليم حقيقي”. هؤلاء يقودوننا على الدرب لأنهم ألِفوها. بهم يعلّمنا الروح القدس لأنهم للمسيح، إيقونات للمعلّم. عرفوا الله، لذا بإمكانهم أن يقودونا إلى معرفته. إلى مثل هؤلاء المعلّمين كانت الحاجة في كنيسة المسيح أبداً. إذا لم تسِرْ مطالعاتنا في اتجاه القداسة فأية فائدة منها ترتجى؟ “قدني على درب القداسة” هذا همّي! “وجهك يا رب أنا ألتمس!”. مأساة علم اللاهوت اليوم أنه معلوماتي الطابع، تثقيفي النزعة بالمعنى الإطّلاعي للكلمة، قلّما يحرّك فيك الشوق إلى الله وقلّما يدلّك على الطريق ويبيّن لك تعاريج المسرى ويقتادك إلى منابع الحياة الأبدية. معلّمك المرجوّ، بهذا المعنى، قد يكون إنساناً بسيطاً لا يعرف من علوم الدنيا إلاّ أقلّها، وقد يكون إنساناً سمحت له مشيئة الله وقابلياته وظروفُه أن يكون له نصيب أوفر من علوم الناس، سيّان فإنه في كلتا الحالتين يعلّمك، في العمق، ما استمدده من خبرته مع الله، من روح الله مصاغاً بلغة علوم الدنيا، ومن دونها أيضاً، حسبما تيسّر وحسبما تدعو الحاجة. القدّيس أرسانيوس الكبير، معلّم الملوك الذي هجر مجاني العلم والأدب في العالم، عيّروه أنه، وهو المتأدّب باليونانية واللاتينية، يسأل مصرياً أمّياً عن أفكاره، فبماذا أجاب؟ قال: “أما الأدب اليوناني واللاتيني فإني عارف به جيّداً، وأما الأبجدية التي أحسنها هذا المصري فإني، إلى الآن، لم أتعلّمها”، وكان يقصد طريق الفضيلة. لم يصر أرسانيوس معلّم الكنيسة إلاّ بعدما سلك في الفضيلة واستزاد. الأب بائيسيوس الآثوسي الذي رقد في التسعينات معلّم للكنيسة بامتياز مع أنه لم يتجاوز بعض الصفوف الإبتدائية في المدرسة. كيف ذلك؟ لأنه تعلّم من فوق. تعلّم من جامعة البرّية. وقد تخرّج، في الحقيقة، من الجامعة عينها التي تخرّج منها أمثال الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ومكسيموس المعترف وغريغوريوس بالاماس وسواهم. والجامعة كانت جامعة الحبّ الإلهي والنسك والفضيلة. هو تعلّم في فرع من فروع هذه الجامعة وهم تعلّموا في فروع أخرى. ولكنها الجامعة إيّاها. هذا تكلّم على الثالوث القدّوس والإله المتجسّد بلغة العلوم الدهرية التي تلقّنها ليدحض الهرطقات ويبطل حكمة الحكماء، بحسب هذا الدهر، وذاك تكلّم على عِشرَة الثالوث القدّوس والإله المتجسّد بلغة العاديات اليومية التي تلقّنها ليفضح مقاصد إبليس، أب كل هرطقة، ويعلّم التوبة وسيرة النقاوة والصلاة والهزيخيا، أي المعاينة الإلهية. تكلّمْ باللغة التي نشأتَ عليها. هذا لا يجعلك لاهوتياً لو عرفت. ما يجعلك لاهوتياً هو أن تقتبل اللاهوت كما اقتبلك، أن يصير فيك وأنت فيه. إذ ذاك تصير معلّماً للاهوت بامتياز وإلاّ استحلت ببغاء تردّد، بالكلام، وأحياناً باللعب على الكلام، على طريقتك وبحسب هواك، ما حقّقه سواك بالدم والأعراق. اللاهوتي هو أولاً، وقبل كل شيء، من يحبّ الله، مَن يصلّي، مَن يبكي، مَن يعاشر الله، مَن تروحن، مَن صار روح الله فيه هو المتكلّمْ. أقلّه أن تكون سائراً حقاً على هذه الدرب. الروح، إذ ذاك، يكون هو المعلّم والتعليم معاً. دونكم كيف تكلّم الشيخ يوسف الهدوئي على الراهب كلاهوتي في رسالته 48. قال: “الراهب الأصيل هو نتاج الروح القدس. متى تنقّت حواسه بالطاعة والمعاينة الإلهية، متى هدأ ذهنه وتنقّى قلبه، إذ ذاك ياخذ نعمة واستنارة معرفة. يصير كلّه نوراً، كلّه ذهناً، كلّه صفاء. يفيض لاهوتاً لدرجة أنه لو كان ثلاثة أشخاص ليشرعوا في تدوين ما يسمعونه منه لما كان بإمكانهم أن يجاروا تيار النعمة المتدفّق منه في أمواج والمشيعِ سلاماً وسكوناً فائقاً للأهواء من خلال الجسد. يشتعل القلب بالحبّ الإلهي فيهتف “أمسِك عني، يا يسوع، أمواج نعمتك فإني أذوب كالشمع”… يُخطف ذهنه في الثاوريا… يتغيّر ويصير والله واحداً… كالحديد في الآتون يصير واحداً والنار”. ولعلّك تسأل: أين نجد مثل هؤلاء اللاهوتيين؟ هؤلاء قلّة نادرة وشواذ على القاعدة. هذا صحيح ولكن فقط لأن الجامعة التي خرجوا يتعلّمون فيها لم يعد ثمّة مَن يرغب فيها. بات تلامذتها قلّة وأقل من القلّة. والجمهور الكبير خرج إلى جامعات هذا الدهر ليتعلّم ويعلّم عن الله لا كإله حيّ، كمخلّص، كحبيب، بل كقطعة متحفية، كمومياء. صادرتْ نخبة المثقّفين، الأنتليجنسيا بحسب هذا الدهر، اللاهوت. “هذا الشعب يعبدني بشفتيه أما قلبه فمبتعِد عني بعيداً”. لذا نحسب أن اللاهوت، اليوم، بات، أو يكاد، في وضع السبي إلى بابل هذا العالم وفكره وروحه.
السبي إلى بابل
ليس سبيُ اللاهوت إلى بابلَ حكمةِ هذا الدهر أمراً جديداً. دائماً ما كانت التجربة الكبرى أن يتعاطى الناسُ الإلهيات صنمياً، أي أن يعبدوا الله في الشكل وأنفسهم في المضمون، أهواءهم وأفكارهم ومراميهم. كل الأصنام في التاريخ هذا جذرها: طلبُ الإنسان عبادةَ نفسه من دون الله، فقط باتخاذ شكل الله. اليهود، في زمانهم، صادروا الإلهيات، صادروا الشريعة والأنبياء. سبوها إلى بابل قلوبهم الملتوية فقتلوا السيّد له المجد باسم الله. أيضاً وأيضاً اللاهوت يسبى، اليوم، وعلى أكثف ما يكون، إلى أرض غرور الناس. كل يرغب في تعليم الآخرين. نادراً ما يعطي أحد حياته إثباتاً للإنجيل، استمراراً لحياة الآباء. “لم يبق سوى خوف عظيم من التجارب وتبجّح جامح”، على حدّ تعبير الشيخ يوسف الهدوئي (الرسالة 26). اليوم، ربما أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، يوجد الإنسان متمرّساً في الخباثة، أو قل تطوّرت خباثة إبليس في الإنسان حتى لا يشاء، من بعد، أن يقاوم المسيح ومَن يلوذون بالمسيح وجهاً لوجه. خباثته الراقية، ولا أرقى، أنه يعمل على إفساد ما لله في قلوب الناس، من الداخل. أعظم قوى الإنسان عقله. عقلن اللاهوت، أي اجعله مادة صمّاء لأفكارهم وادعُ الناس إليه، باسم الحداثة، يأتونك عدْواً وتُفسد اللاهوت. تقتل مَواطن الحياة فيه فتصير مسيحية القوم بلا مسيح. ما هو عقلي بحت، من دون الله، يصبّ أخيراً في مصبّ أمير هذا الدهر، إبليس. هذا هو أمير اللاهوت الأجوف.
في سيرة القدّيس نيقيطا الكييفي المتوحّد (القرن 11م) أنه طلب أن يكون ناسكاً فنصحه الإخوة بالبقاء معهم فلم ينتصح فخدعه إبليس وتظاهر بكونه ملاكاً فأطاعه نيقيطا وسلك في ما علّمه. قال له عدوّ الخير: “لا تصلِّ. فقط اقرأ في الكتب لأنك من خلالها ستجد نفسك في حوار مع الله وستتمكّن من إسداء النصح للناس. وأنا، من جهتي، سأصلّي، باستمرار، إلى خالقي من أجل خلاصك. وانطلت الحيلة على نيقيطا فطلّق الصلاة وانكبّ على القراءة والدرس حتى صار مشهوراً بين الناس. حفظ العهد العتيق جيّداً حتى لم يعد بإمكان أحد أن يصمد في مجادلته بشأنه. لكنه كان يكره الأناجيل المقدّسة والرسائل ولا يسمح لأحد أن يكلّمه عنها. فلما فضح الآباء المختبَرون، هناك، حيلة الشيطان وطردوه من أمام نيقيطا لم تعد له أية معرفة بالعهد العتيق. حتى القراءة نسيها بالكلّية وصار كولد يتهجّأ الحروف. لكنه، بنعمة الله، لما سلك في الطاعة الكاملة وتعلّم الاتضاع فاق سواه في الفضيلة وصار أسقفاً وصنع العجائب وتقدّس. عيده في 31 كانون الثاني.
في كتاب للحركة المريمية الكهنوتية، وهي حركة كاثوليكية، وردت رسالة لافتة هي الرسالة التي رقمها 407. الرسائل التي تتعاطاها هذه الحركة يقولون إنها موحاة من والدة الإله. عنوان الرسالة: رقم الوحش 666! وفيها أن المرحلة الثانية لظهور ضدّ المسيح في التاريخ هي مرحلة الهجوم الجذري على الإيمان بكلمة الله بدءاً من السنة 1332. الإشارة هنا هي إلى زمن انتشار الجامعات في أوروبا. وتسترسل الرسالة فتقول: “من خلال الفلاسفة الذين بدأوا بإعطاء العلم قيمة حصرية exclusive ، ومن ثمّ العقل، فإن الامتداد التدريجي كان إلى اعتماد الذكاء البشري، والذكاء البشري وحده، معياراً أوحد للحقيقة. من هذا الإتجاه وُلدت المغالطات الفلسفية الكبرى التي امتدّت، عبر القرون، إلى أن وصلت إلينا. إن الأهمية المفرطة المعطاة للعقل كمعيار حصري للحقيقة يفضي حتماً إلى هدم الإيمان بكلمة الله… هذه يصير تفسيرها بالعقل [من دون تراث الكنيسة]. كلٌّ يصير حرّاً أن يقرأ ويفهم الكتاب المقدّس على هواه. على هذا النحو يُهدم الإيمان بكلمة الله…”
من جهة أخرى لفتتنا للكاتب الروسي المعروف فلاديمير سولوفياف (+1900م) قصة قصيرة عن ضدّ المسيح. مما جاء فيها، في مخاطبة المسيح الدجّال للمسيحيّين، كلامُه: “لعلّكم تعرفون أني في شبابي، كتبت مقالة طويلة في موضوع النقد الكتابي أثارت يومها تعليقات جمّة وأدّت إلى ترسيخ شعبيّتي وشهرتي. إحياء لتلك الذكرى، على ما أظن، طلبت مني جامعة Tubingen (ألمانيا)، منذ أيام قليلة، أن أقبل درجة دكتور فخري في اللاهوت honoris causa . وقد أجبت بأني أقبلها بسرور وامتنان” (انتهى كلام سولوفياف).
ثمّة حمّى أصابت البشرية، اليوم، على نحو جامح، جعلت الناس يدمنون العقل ومسائل العقل ولو في مستوى مبتذل أحياناً، والمدارس، والعلم، والثقافة، وكل ما هو للإنسان، فيما تنمو في النفوس حركة إعراض كياني عن الله. إنسان اليوم، بمَن فيه إنسان الكنيسة، إلى حدّ بعيد، يمتلئ من نفسه، يستجيب للنداء الكياني العميق لضدّ المسيح، كما عبّر عنه القدّيس يوستينوس الصربي: “لا حاجة البتّة للجنس البشري إلى المسيح … الإنسان هو السيّد الأعلى والمعلّم المطلق … الإنسان ” وليس آخرُ سواه “، بمعزل عن كل ما هو إلهي وغريب ! كل ما يمكن أن يأتي من الله ليس سوى سمٍّ وأفيون ومخدّر! الإنسان كاف بذاته ! لا يحتاج إلى أي عالم آخر غير العالم الأرضي !… يا إنسان، كن إلهاً لنفسك لأنه ليس هناك آخر !…” (المجيء الثاني للمسيح والمسيح الدجّال).
اللاهوت، في العمق، مات: هذا ما يظنّه الكثيرون وما يحتضنونه ويسلكون فيه، ربما لا بالكلام ولكن في قلوبهم بكل تأكيد. سلوكهم يفضحهم. غيوم لا ماء فيها. تُرى متى جاء ابن الإنسان فهل يجد الإيمان على الأرض؟
“تأدّبي يا أورشليم لئلا تجفوك نفسي، لئلا أجعلك دماراً أرضاً لا تُسكن” (إر 6: 8).
هذا السبي المضني، أما من رجوع منه إلى أرض الميعاد، إلى أرض اللاهوت الحيّ؟ رغم كل شيء أبواب التوبة لا زالت مشرّعة ولكن مَن تُراهم يسمعون؟!
أجل لا زالت لنا توبة ولكن علينا أولاً بالصيام. “فتاب أهل نينوى بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم”. “لِيَدْعُوا إلى الله بشدّة وليرجعْ كل واحد عن طريقه الشرّير… لعلّ الله يرجع… عن اضطرام غضبه…” (يونان 3: 5، 8 – 9).
لماذا الصوم طريق العودة إلى أرض الميعاد؟
اللاهوت طبيعته المحبّة “فمَن يحبّ يعرف الله ومَن لا يحبّ لا يعرف الله لأن الله محبّة” (1 يو 4: 8). مَن يعرف يشهد، كيوحنا الحبيب، لِما عاين وسمع ولمس من جهة كلمة الحياة (1 يو 1:1)، ومَن لا يعرف كيف يشهد؟ يكون شاهد زور. وكذا مَن يعلّم ولم يتعلّم. يكون ناقلاً. ينقل ما ينقل كفي العتمة. يتكهّن. يُنظِّر. تتحكّم به أهواؤه. يصيب مرّة ويخطئ مرّات. كيف ينقل النورَ مَن ليس شريكاً فيه؟! لا بدّ أن يُوجد، ولو بطريقة منظّمة، ضالاً مضلِّلاً!
الموضوع، إذاً، موضوع محبّة لله. ولكنْ كيف نبلغ المحبّة؟ بالصوم!
غاية الصوم المحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب. وهذه تنبع من تلك. المبتغى هو الله. ثم كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة تنحدر من العلو من لدن أبي الأنوار.
عمّا نصوم؟
إذا كانت محبّة الله هي المبتغى فالصوم، الذي هو أساس كل صوم، يكون عن الخطيئة. ليست الخطيئة أن نقتل أو نزني أو نسرق وحسب. ليست الخطيئة أن نصنع الشرّ فقط. قد لا نصنع الشرّ، قد لا نؤذي أحداً ومع ذلك نكون في الخطيئة. كيف؟ لأن الخطيئة هي أن لا نحبّ الله. الخطيئة نقيض المحبّة. الخطيئة إعراض القلب عن الله. قد يتعاطى الخاطئ ما هو لله شكلاً. قد يصوم وقد يصلّي. قد يتعاطى الكلام الإلهي ولكنْ باطلاً. “في تعليم الآباء”، كما يلاحظ الشيخ يوسف الهدوئي، “الكلام البطّال هو، بصورة أساسية، أن يقضي المرء وقته في الكلام – ولو كان روحياً – ولا يضع أياً منه موضع التنفيذ” (الرسالة 27). الموقف الداخلي، موقف القلب، النيّة، القصد، هو ما يحدّد ما إذا كنا في المحبّة أم في الخطيئة. “نحن نعلم أن كل مَن وُلد من الله لا يُخطئ بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرّير لا يمسّه” (1 يو 5: 18).
قلب الإنسان عضو المحبّة أولاً، فإذا لم تكن فيه محبّة الله فأية محبّة أخرى يحتضن؟ محبّته لذاته! طبعاً مَن يحبّ الله يحبّ نفسه أيضاً. أيمكن أن يكون المرء في النور ولا يستنير؟ أيمكن أن يكون مقيماً في محبّة الله ولا يشعّ محبّة؟! طبعاً يكون، إذ ذاك، محِبّاً لنفسه ولكن في الله، أي أنه يحبّ نفسه بالمحبّة التي يستمددها من الله. ولكن أن يحبّ المرء ذاته من دون الله، كبديل عن الله، فهذه هي الخطيئة. الخطيئة هي أن نخطئ الهدف، أن نكون في الضلال، أن نخرج عن طبيعة البشرة التي خلقنا الرب الإله عليها. فلا غرو إن دخل الموت إلى العالم بالخطيئة. محبّة المرء لذاته، والحال هذه، لا يعود النور محتواها، ولا تعود محبّة الله مضمونها. تصير الظلمة نصيبها. تصبح محبّة جوفاء. لا تملك من المحبّة، من بعد، غير الإسم. يصير مضمونها عشق الذات والأنانية والكبرياء. والحيّة تُفرع ألف ألف ثعبان. الصوم، إذاً، عن الخطيئة يكون كيفما تمثّلت. “وخطيئتي أمامي في كل حين”.
روحيّة الصوم
لأني أكره الموت الذي أنتجته الخطيئة فيّ أكره الخطيئة. لأني عطش إلى الحياة الأبدية أبغض ذاتي، أكفر بنفسي. نفسي، وأنا في الخطيئة، صارت غريبة عني. “طالت غربتي على نفسي…” ذاكرة الإنسان كما خلقه الرب الإله لم تبارحني، لكني واجد إلى نفسي نفساً أخرى من غير طبيعتي. كأني ورثت طبيعة أخرى تقمعني. كأن فيّ آخرَ سواي. منّي وفيّ وليس منّي. إنساني العتيق، كما يقولون، إنسان الخطيئة. هذا لا يكفّ عن دفعي إلى الموت أبداً. الخطيئة فيّ بذرة الموت. لذلك لا مناص لي من بغض خطيئتي، من بغض نفسي – خطيئتي. “إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض… حتى نفسه فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لو 14: 26). لذلك مَن شاء أن يكون محبّاً لذاته في الحقّ كان عليه أن يبغض نفسه ويهلكها. “مَن يحبّ نفسه يُهلكها ومَن يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية” (يو 12: 25).
لأن حالي، في الخطيئة، هي على هذه المأساوية، بات عليّ أن أسدّ على خطيئتي كل منافذها وأقطع عليها كل إمداداتها وأُبيد كل عملائها وأُواجه كل تحدّياتها وأصدّ، بنعمة الله، كل هجماتها. “سأقتفي أعدائي فأُدركهم، ولا أرجعنّ حتى أُفنيهم. أحطّمهم فلا يستطيعون وقوفاً وتحت رجليّ يسقطون. لأنك حزّمتني بالقوّة من أجل القتال. جندلت تحتي كل الذين قاموا عليّ” (مز 17: 37 – 39). لأن هذه حالي بات عليّ، في المبدأ، أن أصوم كل أيام حياتي. خطيئتي أوجبت عليّ نسكاً. ليس المسيح مَن فرض عليّ صليباً. خطيئتي هي التي فرضته عليه لأنه أحبّني. وفرضته عليّ أيضاً وإلاّ لا آتي إليه ولا تكون لي حياة. “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليحمل صليبه ويتبعني”. لا خلاص ولا كنيسة من دون صوم، من دون نسك. من دون الصليب أبقى في الموت، في الحزن. فقط بالصليب أتى ويأتي الفرح إلى كل العالم. يا للمفارقة! الصليب الذي هو دم وألم وموت بات، في التماس وجه الله والسير وراء المسيح، صليب الفرح. الصوم حزن وضيق وحرمان وموت لإنسان الخطيئة الذي فيّ لكنه طريقي إلى الفرح والسعة والنعمة والحياة الأبدية. حتى موتي صار لي في المسيح مَطلاً على الفرح، ولادة جديدة تكتمل إلى حياة أبدية.
إذا ما عرفتَ أنك خارجٌ من أرض مصر الخطيئة إلى أرض الميعاد، أورشليم السماوية، هانت عليك مشقّات الطريق، لا بل اعتملت فيك الغبطة أنك في كل خطوة تخطوها إلى هناك يحضرك بعض من فرح الملكوت وأنت في طريقك إليه. صومك، إذ ذاك، يكون بفرح وللفرح. تعرف أنك لا تعاني مجاناً. “لقد ذهبوا وهم يبكون إذ كانوا يُلقون بذارهم ولكنهم سيرجعون فرحين حاملين أغمارهم”.
ويعدّك الصوم للصلاة واللاهوت
الصوم تهيئتك الدائمة للصلاة. لا صلاة من دون صوم ولا عِشرَة مع الله من دون صلاة. بالصوم نقبل سكينة القبر إرادياً لندخل بالصلاة في سكون العِشرَة الإلهية. بالصوم نطلب الغربة عن أنفسنا لنصير بالصلاة أهل بيت الله. الصوم يحرّك الشوق إلى الصلاة. “عندما يباشر المرء الصيام”، على حدّ تعبير القدّيس إسحق السرياني، “يشتاق إلى الصلاة”. كما يدفع العطش صاحبه إلى التماس الماء يدفع الصوم الصائم إلى التماس الله في الصلاة. الصلاة من بطن الصيام تولد. لذا اعتبر القدّيس إسحق السرياني أن الصيام أمّ الصلاة.
وإذ تطيب لك العِشرَة الإلهية تتركّز الحياة كلّها في الصلاة. تدخل في حال الصلاة بعد أن كانت إليك فعلاً. تصير لك نَفَساً جديداً. يُدخلك ربّك حيِّز المعاينة ولو كانت النعمة تأتيك كرّاً وفرّاً. بنقاوة القلب من الخطيئة تتيسّر المعاينة. تذوق النور غير المخلوق. تعرف الإقامة فيه وتختبره مقيماً فيك. تشعر في ذاتك بالفردوس. والنور كان الله واللاهوت. آنذاك تتروحن. آنذاك تعرف. آنذاك تتلهوت. تصير لاهوتياً. أهذا للجميع؟ بكل تأكيد، ولكن ليس للجميع كمٌّ واحدٌ من الوزنات. فإذا ما ذقت اللاهوت على قدر قامتك شفّت نفسك. بتّ قيامياً من أبناء القيامة، حريصاً على ما في تراثك، على إلفة آبائك بروح الرب ومعاينة النور الإلهي والسكنى في الله. إذ ذاك تشهد بأمانة لما خبرته أنت وما خبره سواك لأنه من المَعين عينه. تصون التسليم كبؤبؤ العين وتقرأ الكتب المقدّسة بنفس الروح التي دوّنت فيها. تحرص على ما استُودعت، على وجدان الكنيسة، على التراث كروح وحياة، ولو عبّرت عنه – ولا بدّ لك أن تعبِّر عنه – بروح العصر. لكنك تزِن الكلمات جيّداً ولا تبثّها إلا بروح الصلاة والأمانة والوقار. الكلام عن الله شأن خطير وإلا ما كان الرسول يعقوب قال: “لا تكونوا معلّمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا” (13: 1 – 2).
على هذا، إذ تستقيم المسيرة إلى وجه الله إلى اللاهوت يستقيم الموقف من اللاهوت. من هناك حدِّث بما يضعه الله في قلبك، لأنك تكون قد نلت رضاه. لا خوف عليك، إذ ذاك، لأن عينك تكون قد تنقّت وبتَّ مبصراً…