القديس غورازد بافليك
مبشر أرثوذكسي في القرن العشرين*
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
“اذكروا رؤساءكم، إنهم خاطبوكم بكلمة الله، واعتبِروا بما انتهت إليه سيرتُهم واقتَدوا بإيمانهم”’ (عبرانيين13: 7).
“الحق الحق أقول لكم إن حبّة الحنطةِ التي تقع في الأرض إن لم تَمُت تبقَ وحدها، وإذا ماتت أخرجت ثمراً كثيراً. من أجحبَّ حياته فقدها ومن رغب عنها في هذا العالم حفظها للحياة الأبدية. ومن أراد أن يخدمني فليتبعْني وحيث أكون انا يكون خادمي ومَن خدمني أكرمَه أبي” (يوحنا12: 24- 26).
مضت حوالي الستين سنة على استشهاد غورازد أسقف بوهيميا ومورافيا وسيليستيا، أي ولادته في الحياة الأبدية. صورةُ هذا الأسقف الشهيد تزداد إشراقاً في هذا العصر الغارق في الظّلمة.
ولد أسقف المستقبل غوزارد (بافليك) في السادس والعشرين من أيار سنة 1879 في مدينة هروبافربْكا المورافية في جمهورية التشيك، وقد أعطي اسمَ متّيّا في المعمودية. بعد المدرسة، أنهى دراستَه في كلية اللاهوت الكاثوليكية في أولوموك، ثم رُسِمَ كاهناً. أثناء سني دراسته، صار شغوفاً بالأرثوذكسية وبأعمال القديسَين كيرللّس وميثوديوس التبشيرية، فقام بزيارة كييف.
مع تَشَكّل تشيكوسلوفاكيا، سنة 1918، والتَّحَرُّر من الاستبداد الكاثوليكي النمساوي- المجري، ترك مئاتُ الآلاف الكنيسةَ الكاثوليكية، وكان من بينهم متيّا بافليك. بعضٌ من هؤلاء طلب المساعدة من الكنيسة الأرثوذكسية الصِّربية التي عانى قسمٌ منها من الإضطهاد نفسِه [1]. ونتيجة لذلك، وافقت الكنيسةُ الصّربيةُ على رسامة الأب متّياس أسقفاً باسم غورازد.
عندما رَسَمَ الأسقفُ المسؤولُ، دوسيثيوسُ، الأبَ غورازد أرشمندريتاً في دير هوبوفو، في صربيا، تفوَّه بما يلي: “ورد في التاريخ أن غورازد، رئيس أساقفة مورافيا، كان خليفةَ القديس ميثوديوس. وعن طريق دسائس مَن كانوا يكرهون الأرثوذكسية، طُرِدَ من بلده الأم فذهب إلى جنوبي سلافيا [2]. وبواسطتك، أيها الأب غورازد، سوف يقيم اللهُ، في مورافيا، غورازد جديداً، مَجدِّداً الأرثوذكسيةَ بين الشعب التشيكي.
في الرابع والعشرين من أيلول سنة 1921، وكان حينها في الثانية والأربعين من عمره، سُمّي الأرشمندريتُ غورازد أسقفاً على مورافيا وسيليسيا، خلال سهرانية في كاتدرائية رئيس الملائكة ميخائيل، في بلغراد. في اليوم التالي، رسمه البطريركُ الصّربي ديمتريوس أسقفاً. وقد شاركه في الخدمة الأساقفة انطونيوس ميتروبوليت كييف[3] والأساقفة برنابا[4] ودوسيثيوس ويوسف. وفي استقباله بين العاملين معه، حثَّه البطريركُ ديمتريوسُ على اتّباع خُطى القديسين كيريللس وميثوديوس وخليفتِهم القديس غورازد. ببالغ التَّأثُّر وبصوت مرتجف، عبَّر الأسقف غورازد عن شكره العميق للكنيسة الأرثوذكسية الصربية على مساعدتها التشيك للعودة إلى إيمان أجدادهم في زمن القديسَين كيريللس وميثوديوس.
وهكذا، بدأت جهادات إنكار الذات للعامل الجديد في حقل المسيح. أصبحت المروجُ الروحية محمّلة بالثمار ببركة القديسين الشقيقين كيرللس وميثوديوس وتلاميذِهما التي، بعد طول زمن، ازدحمت فيها بذورُ الهرطقات المتنوعة والفلسفات العقيمة. عانى الأسقف غورازد من هجمات متعدِّدة وتجارب ومِحَن سبَّبَها أولئك الذين سقطوا في تجربة “جهالة الصليب”. تلقّى سيادتُه كلَّ ذلك بصبر، وكان يقول بأنه على كلِّ حقيقة أن تُمتَحَنَ بنار التّجارب. لسوء الحظ، في المسيرة نحو الأرثوذكسية، لم يصمد معظمُ التشيك في الحق؛ فالأرثوذكسية المقدسة بدت لهم ثقيلةَ الحمْل. لم يرغبوا في أن يؤمنوا بكلمات المخلِّص عن البابُ الضيّق وحَرج الطريقُ الذي يؤدّي إلى الحياة (متى7: 14). إلا أن الأسقف غورازد، إيمانه بحقيقة الأرثوذكسية الآيلة إلى الخلاص، حافظ عليها حتى الموت. هذا الثبات في الحق والنزاهة في شخصه كانا سمة مميزة له، وخزياً لأيامنا الحاضرة حيث الكثير من الأكاذيب والمساومات والضّمائر الفاسدة. في صغره، قال له والدُه: “لا تخَفْ من أيٍّ كان، ولا تستسلم مطلقاً حين تكون على حق”. وهذا ما كان يفعلُه دائماً، حتى عندما يكون ثمن الحق باهظاً جداً.
شرع سيادتُه بالعمل إلى جانب الذين ثبتوا في الأمانة للأرثوذكسية. أُنشئت الكنائسُ وتم تنظيم أمور الرعايا في مختلف أنحاء بوهيميا. تم بناء ما مجموعُه 11كنيسة وكنيستان صغيرتان. كانت الخدم تقام باللغة التشيكية. طُبعت كتب كنسية أساسية كالإفخولوجي الصغير وكتب أخرى تعليمية وغيرها. مستعيناً باطِّلاعه وخبرته واتِّصالاته، ساعد الأسقفُ غورازد أولئك الذين عادوا إلى إيمان أسلافهم الأرثوذكسي، في سلوفاكيا وروسيا وكارباثيا، التي كانت، حينها، جزءاً من تشيكوسلوفاكيا. كان شغوفاً بدير لادوميروفو، في سلوفاكيا، الذي أسَّسه الإرشمندريت فيتالي ماكسيمينكو، والذي صار، لاحقاً، رئيس أساقفة في الولايات المتحدة، وكان يقدِّر ويساعد الأسقف غورازد. وهكذا ، في سنة 1934، شارك الأسقف غورازد في الذِّكرى السنوية العشرين لمحاكمة مارماروش-سيغوتسكي المعيبة التي حدثت سنة 1914، وفيها أدين 94 أرثوذكسياً، مع الأب ألكسي كاباليوك، بسبب رفضهم الاتِّحادية وعودتهم إلى إيمان آبائهم. في ذلك الحين، قام القاضي الهنغاري بتغريمهم وسجنهم.
كان على الأسقف غورازد أن يحملَ صليبه الثقيل طوال واحد وعشرين سنة. إلا أن علامات تمجيده الآتي بدأت بالظَّهور، بالضبط كما حدث في آلام المسيح (مثلاً، حين دعت زوجةُ بيلاطسَ الربَّ يسوع بالصّدِّيق بعد حلمها، أو حين قال يهوذا بأنه قد أهرق دماً زكيّاً)، فمن خلال التجارب العديدة التي مرت في حياة الأسقف غورازد، بدأ البعضُ يعاينُ شيئاً من السموّ الروحي لدى خادم المسيح. عندما حارب العديدُ من الكهنة الكاثوليك الأسقفَ غورازد، قال الأسقفُ الكاثوليكي، ستويان: “دعوا بافليك وشأنه، لستم مستحقين أن تربطوا سيور حذائه. ليت الجميع يكونون مثل بافليك”. حاول الكاثوليك إقناع الأسقف غورازد بأن يعود إلى الكاثوليكية، ويبقى في الوقت نفسِه أسقفاً مُعطين له الحريةُ باختيار الطقوس التي يريد.
أدرك الأسقف غورازد أن طريق الأرثوذكسية طريق الصليب، وأنها استشهاد يومي بدون دم. حمل هذه الحقيقة في حياته، الأمر الذي ساعده حين حان وقتُ قبوله إكليلَ الشَّهادة. من المحال أن لا يتأثّر المرءُ بكلماته التي أوردها في عمل له خصَّصه لـ جان هوس [6]: “لطالما أخفقنا في تقدير الشهادة حقَّ قدْرِها. نظن بأنه من الأفضل أن نحيا ونكافح من أجل قضية مهمَّة عوض أن نموت في سبيلها. إلا أنه ما من أمرٍ أعظم من أن يبذل أحدُهم نفسَه من أجل إنجيل المسيح”.
عند اندلاع الحرب العالميةُ الثانية، طلب الأسقفُ غورازد من سيرافيم (لياد) ميتروبوليت برلين، الإشراف على أبرشيته حتى تُستأنف العلاقاتُ الطبيعية مع صربيا. قام الميتروبوليت بتزويد الأسقف غورازد بالميرون والإنديمنسي (قطعة قماش مرسوم عليها مشاهد الصلب والآلام، لا يقام القداس الإلهي بدونها. معناها “عوض المائدة”. يكرِّسها مطران الأبرشية) وساعده على توطيد مركزه في بوهيميا ومورافيا [7]
في سنة 1942، اغتالت المقاومةُ التشيكيةُ الحاكمَ النازيَّ هايدريخ، في براغ. سُمِحَ للمقاومين بالاختباء في قبو كاتدرائية القديسَين كيرللس وميثوديوس. عندما عَلِمَ الأسقفُ غوزرازد بالأمر بعد بضعة أيام، داخَله اضطرابٌ شديد، إذ أيقن بأنه إذا ما اكتشف الألمانُ المحتلّون الأمرَ فإن الكنيسة التشيكية الأرثوذكسية سوف تعاني، كلُّها، من الاضطهاد. قبل مغادرته إلى برلين، بصحبة الميتروبوليت، لرسامة الأب فيليب (غاردنر) لرتبة الأسقفية، طلب أن ينتقل المقاومون إلى مكان آخر بأسرع ما يمكن. إلا أن النازيين وجدوا مكان اختباء المقاومين، وفي 18 حزيران، سنة 1942، أُعدِمَ سبعةٌ منهم رمياً بالرَّصاص. تم توقيف كاهنَي الكاتدرائية إضافةً إلى أرثوذكسيين آخَرين. لم يحاول الأسقف غورازد النجاةَ بنفسه، بل حمَّلَ نفسَه كاملَ المسئولية، إذ أراد أن يُجنِّبَ الكنيسة التشيكيةَ الاضطهاد. وقد كتب ثلاثة رسائل إلى الألمان، جاء فيها: “إني أسلِّمُ نفسي للسُّلطات وأنا على استعداد لتلَقّي أي عقاب بما في ذلك الموت”.
في 27 حزيران، سنة 1942، تم توقيف الأسقف غورازد وتعذيبُه. وقد أُعدمته فرقة رمياً بالرصاص، في 4 أيلول، سنة 1942، وكان في الثالثة والسّتّين من عمره. وأُعدِم كاهنا الكاتدرائية أيضاً رمياً بالرّصاص. حُرِّمَ أي نشاط على الكنيسةُ الأرثوذكسية، في بوهيميا ومورافيا، وأُغلِقت كنائسُها. تم نفي الكهنة الأرثوذكسيين إلى معسكرات الأشغال الشّاقّة، في ألمانيا. أما من ناحية الميتروبوليت سيرافيم، فقد رفض، بشجاعة، إصدار أي بيان يَدين الأسقفَ غورازد.
كان الأسقف غورازد، بالحقيقة، راعياً صالحاً، يرشد قطيعه باستمرار. وقد أظهرَ محبته حتى النّهاية، إذ بموته اعتُبِرَ أهلاً لكلمات السيد: “ليس لأحد حبٌّ أعظم من هذا، أن يضع إنسانٌ نفسَه من أجل أحبّائه” (يوحنا15: 13).
عُرِف الأسقفُ الشهيد بـ”الشهيد الجديد” وكان ذلك بقرار من الكنيسة الصربية الأرثوذكسية في 4/17أيار سنة 1961. في 24 آب/6 أيلول سنة1987، تم تكريمُه في كاتدرائية القديس غورازد في أولوموك – مورافيا. تَحتفل كنيسةُ تشيكوسلوفاكيا الأرثوذكسية بعيده في يوم استشهاده في 22 آب/4 أيلول.
من المثير للاهتمام في إطار التبشير، العلاقات مميزة التي كانت بين الأسقف الشهيد والميتروبوليت أنطون. التفاصيل الآتية أُخِذت من مقال للأب بافِل أليشا بعنوان “موقف الأسقف القديس غورازد من الأرثوذكسية الروسية” (مختارات من اللاهوت الأرثوذكسي، براغ، 1989).
رقد الميتروبوليت أنطون في العاشر من آب سنة 1936 عن عمر 73 سنة، “بين السواعد الأخوية للبطريرك برنابا”- وبحسب كلمات الأسقف غورازد، فهو قد رقد “كما القنديل الذي يحترق حتى آخِر نقطة من الزيت”. كتب الأسقف غورازد مقالاً خصَّصه لذكراه المشِعَّة في نشرة الأبرشية التشيكية الأرثوذكسية (1936، العدد 9).
في الذكرى العشرين لرسامته الأسقفية، يتذكر الأسقف غورازد، أيضاً، الأساقفةَ الذين شاركوا في رسامته، الرجال الذين “تميَّزوا بإيمانهم الحي وحكمتهم ومحبتهم وقداسة سيرتهم”. وهم “ديمتريوس بطريرك صربيا وأنطون ميتروبوليت كييف للكنيسة الروسية، وكلاهما رجُلا صلاة عظيمان، والأخير، أيضاً، هو النجم الأول للَّاهوت الروسي والأكثر إكراماً بين المرشدين في العمل البشاري، إضافة إلى كونه المدافع عني، الذي لا يتزحزح، في وجه الإنتقادات الموجَّهة ضدّي” (النشرة، 15 أيلول، سنة 1991، العدد 8).
كتب الأسقفُ غورازد عن نشاطات الميتروبوليت أنطون في فولهينيا في روسيا الغربية، حيث كان أسقفاً لـ 12 سنة. ثم التقى الأرثوذكس التشيكيين الذين كان عددهم يناهز الـستين ألفاً والذين كانوا يعيشون هناك. سرعان ما جذب انتباهَه التشيكيون في فولهينيا كجماعة إثنية متميزة في محيطها. كانت حياتُهم تختلف عمَّن حولهم، من خلال تقاليدهم التي أتى بها الجيلُ السابق من بوهيميا، وقد حافظ عليها الجيلُ الجديد. وقد انعكس ذلك في حياتهم الكنسية الأرثوذكسية. كونه ضالعاً في فهم النفس البشرية ومبشّراً وراعياً روحياً، فقد تفاعل مع ناشطي الكنيسة المحلّية، الذين كانو مُشبَعين بروح طقسيّة صارمة، رغبةً منه بإزالة الفوارق بين الأرثوذكس التشيكيين. أراد أن يتأكّد، قدر افمكان، من أن يكون للتشيكيين كهنة من أوساطهم يفهمون روح الشعب التشيكي بقوَّته وضعفاته.
كتب الأسقف غورازد: “لقد قدَّم الميتروبوليت أنطون خدمةً كبيرة للعمل التبشيري الأرثوذكسي؛ فهو، منذ البدء، كان يوليه الأهمية الكبرى. وبدون أن يتدخَّل في صلاحيات المجمع المقدس الصربي، فقد كان يقدم نصائح أبوية، أو بالأحرى أخوية، حول كيفية إدارتي لعملي التبشيري. وهي طريقةٌ جعلت الشعبَ التشيكي والسوفاكي، الذي من أجله أوجد القديسان كيرللس وميثوذيوس تيار إنارة السلاف، يعود مجدداً إلى إيمان آبائه ويجاهد للتَّعرّف عليه والعودة إليه. كانت نقطة البداية لديه اعتقاده أن التشيكيين لن تجذبهم الكنيسةُ الأرثوذكسية إن لم تُقدَم لهم بكامل شكلها التاريخي وملئه، وبالوقت نفسِه بطريقة رسمية ذات طابع طقوسي. كان يقول بأن ما من إرسالية تبشيرية عليها أن تتصرَّف على هذا النَّحو، خاصة الإرسالية الأرثوذكسية، كون الأرثوذكسية تحترم، من حيث المبدأ، الطرق التي يفكّر ويشعر بها الناس… للأرثوذكسية مظاهرُ ذات طابع خاص لدى كل شعب، من الطبيعي أن لا تؤثّر على جوهر عقيدتها.
سأل الميتروبوليت أنطون:ما هو الشكل الجاهز الذي تقدّمه لشعبك، سواء أكان صربياُ روسياً أم بلغارياً أم يونانياً أم أي كان؟ إذا أردت أن تنطلق من نقطة كهذه، التي هي بالحقيقة غريبة عن الأرثوذكسية، مع الأخذ بعين الإعتبار ظروفَك الخاصَّة، فحينها سوف أنصحك بأن تتَقبَلَ الشكل الصربي، لأن ارتباطَك بالقانون الصربي سوف يتسبّب بأقل أذى ممكن. إلا أنني لن أنصحك بالتَّصرُّف على هذا النَّحو. بل على العكس، عليك أن تنطلق ممّا هو موجودٌ لدى شعبك، كما هي الأمورُ في التَّنشئة والتَّربية. قبل كل شيء، أنظر إلى زوجات مواطنيك المعترفات وجِد ما هو أرثوذكسي أو غيرُ أرثوذكسي فيهنّ. ثم احصر نفسَك في النقاط الرئيسية وحدَها، وحاول أن تستأصل من الحياة الدينية كلَّ ما لا يبدو أنه جزءٌ من اعتراف الإيمان الأرثوذكسي. هناك الكثير ممّا يتوجّب إنجازُه قبل أن تتجاوز التحيّزات… إمضِ ببطء وبشكل تدريجي في إدخالك الأرثوذكسية إلى الحياة الليتورجية. وحين تفعلُ هذا، لا تدع أحداً ممَّن لا تعجبهم هذه الأمور يجعلك تضطرب. رأي البطريرك ومجمع أساقفة الكنيسة الصِّربية يجب أن يكون فاصلاً في كلّ الأمور. إنهم، من خلال ممثّليهم، يفهمون كلّيّاً أوضاعك كـتشيكي والمَهامَّ التي أنت مقبلٌ عليها. أما أولئك الذين ليس بمقدورهم الارتقاء متجاوزين الطّقوسية الشّكلية، فمن الممكن أن ينتقدوك، أو ربما أن يدينوك، لكن لا تهتمّ. لستَ مسئولاً أمامهم. إعمَل بحسب ما ترى وثِقْ بمعونة الله. سوف أرافقُ عملَك بصلواتي، لأنني أعرف كم هو عظيم ومقدسٌ ما تقوم به. سوف أتابع، بكل اهتمامٍ، نجاحاتك وإخفاقاتك، ليس كرئيس لك – وأنا لستُ كذلك – بل كأسقف وشقيق أكبر دائم الاستعداد لمساعدتك بكل ما تحتاجُه من نُصح” (النشرة، ص: 4، 7- 8).
كان الأسقفُ غورازد يقول بأنه، في كل لقاء له مع الميتروبوليت أنطون، في يوغوسلافيا، كان يسأل أسئلة عديدة عن نّجاحات الإرسالية الأرثوذكسية التشيكية وصّعوباتها، ويشجّعُه على الصبر والثبات. في رسالةٍ له، في 14 كانون الثاني، سنة 1926، كتب الميتروبوليت أنطون: “سوف تكون قد وجدت الطريقة المناسبةَ في عملك التبشيري، حين تبذل كلَّ جهدك لتوعية شعبك بشكلٍ أوّلي فقط لما هو أساسي في الأرثوذكسية. بهذه الطريقة، أصحاب النفوسَ التي استنارت بنعمة الله وبالمحبة والصّبر، سوف يزداد فَهْمَهم للنظام والطقوس عمقاً، وسوف يَسْمَون بعقولهم نحو روحانية الإيمان، حينها سوف يَقبَلون ذلك، بدون كبرياء ولا تذمُّر، ليس كأمر غريب عنهم بل كما لو أنه خاص بهم. إذا كانت مشيئةُ الله أن تنشأ الأرثوذكسيةُ وتنتشر بين الشعب التشيكي، فذلك بفضلك. لاأكتب هذا لأجعلك فخوراً، فالله يحرّم هذا الأمر، وأنا على ثقة بأنك تَحفَظُ في قلبكَ كلمات القديس بولس، ليس أنا بل نعمة الله التي فيَّ (1كورنثوس15: 10). من الأفضل أن تتقدّم البشارة بالأرثوذكسية ببطء، لا بسرعة، ولا بحسب الشعار “وصلتُ ورأيت وانتصرت”. كنتُ خائفاً من أن الروس، الذين بالكاد يفهمون ماهيّةَ الإيمان والطّقوس، سيكونون غير مسرورين منك، كما كان موقفُ المسيحيين- اليهود، أيام الرسل، تُجاه حديثي الإيمان من غير اليهود. أضع آمالاً كبيرة على الطقوس والقوانين الكنسية، إلا أنني أعي بأن لانجازات المتراكمة على مر الزمن لا يمكن أن تُستوعب دفعة واحدة”.
أضاف الأسقفُ غورازد: “هذا كان الخطابَ القَيّم لرجل الله العظيم، الذي عرف بشكل كامل مشكلةَ العمل التبشيري عامّة، وخاصّة بين التشيكيين”.
في النهاية، نودُّ أن نعود إلى كلمات الصلاة التي نطق بها ذات مرّةً، تلاميذُ القديس كيريللس إلى خادمه المخْلص وخليفتِه، القديس الشهيد غورازد: “أيها الأسقف القديس المكرَّم، إطَّلع من فوق، بصلواتك، علينا نحن الذين نحبّك! احمِ تلاميذكً من الهجمات، ناشراً التعليم الأرثوذكسي وطارداً البِدع، حتى أننا نحن القائمين هنا نظهر مستحقين لدعوتنا، وحتى أننا قطيعك نقف معاً إلى جانبك عن يمين المسيح إلهنا، ونستحق منه الحياة الأبدية، الذي له المجد والشرف والإكرام إلى دهر الداهرين. آمين”.
* عن Orthodox Europe، كتبها الراهب غوزارد في 3/9/2011
[1] طغيان الأمبراطورية الهنغارية-المجرية واضطهادها للأرثوذكس والذي تأجج نتيجة الحرب العالمية الأولى.
[2] كان القديس غورازد لغوياً من مورافيا، وأحد التلاميذ السبعة للقديسَين كيرلّلس وميثوديوس (اللذين كانا أول من بشّر الأرض السلافية). ورغم الدعم البابوي الأساسي، فهو قد طُرِد من مورافيا بسبب الدَّسائس والاضطهاد السياسي على يد الفرنج. ذهب إلى سلافيا الجنوبية (يوغوسلافيا) في أورخيدا، جنوب صربيا.
[3] كان أنطونيوس (خرابوفسكي)، ميتروبوليت كييف (1863- 1936)، مُجَدّداً كبيراً في اللاهوت والحياة الكنسية في روسيا قبل الثورة، وأيضاً صاحب دور رئيسي في تنظيم المجمع الروسي الكنسي سنة 1918، ربما هو مِن أرفع العقول اللاهوتية التي أنجبتها الكنيسةُ في القرن العشرين، وهو كان على رأس المدافعين عن إعادة الحرية للكنيسة والبطريركية بعد فترة الإنحطاط التي بدأها بطرس الأكبر. بعد مجمع 1918، تم سجنُه في دير إتّحادي (تابع للروم الكاثوليك). بعد إخلاء سبيله، ذهب إلى القسطنطينية، ثم إلى صربيا، وببركة من بطريرك موسكو، تيخن، أسَّس الكنيسةَ الأرثوذكسية خارج روسيا. بلغت مؤلَّفاتُه 17 مجلَّداً في 6,000 صفحة. رغم أن البعض رأى فيه شخصاً بالغَ الحَميَّة في ما تركه من أثر على السكولاستيكية الروسية وإحياء اللاهوت الآبائي في روسيا، إلا أنه منح لقب المبارَك.
[4] (1880- 1937). انتُخِبَ بطريركاً على صربيا سنة 1930.
[5] الإضهاد الوحشي النمساوي- المجري للأرثوذكسيين، في شرقي مملكتهم، استمرَّ لمئات السنين حتى الحرب العالمية الأولى. خلال تلك الحرب التي تم توثيق جرائمها بشكل جيد، شُنِقَ مئات الأرثوذكسيين، من قِبَل السلطات النمساوية- الهنغارية، بسبب إيمانهم.
[6] كان جان هوس (1369-1419) مُصلِحاً تشيكيّاً عظيماً أَلهَمَته الأرثوذكسية، وقد ألهم، بدوره، المصلِحَ الإنكليزي ويكليف. كلا الرجلين، وبالأخص هوس، بسبب معرفته بالتاريخ التشيكي المبكّر، كان يعلّم أن الأرثوذكسيين قد حافظوا، وحدهم، على الإيمان. أُحرِقَ هوس على خازوق من قبل الكنيسة الكاثوليكية. مما يثير الحزن أن المُصلِحين، في بوهيميا وفي أمكنة أخرى من أوروبا الغربية، قد أهمَلوا الأرثوذكسية وابتدعوا البروتستانتية.
[7] كان الميتروبوليت سيرافيم ألمانيّاًّ متحوّلاً إلى الأرثوذكسية، وقد درس اللاهوت في روسيا، مباشرة قبل الحرب العالمية الأولى. أثناء الحرب العالمية الثانية، كان هو الأسقف الأرثوذكسي في ألمانيا، وقد قاوم، بجرأةٍ، الفاشية الألمانية. يُقام القداس الإلهي في رعية فيليكستو على إنديمنسي موقّع منه.
[8] الأسقف فيليب غاردز كان من أول عالم موسيقى كنسية بين الأرثوذكس الروس في القرن العشرين.